الرواية حكاية أم نسق فكري؟؟؟
التاريخ: السبت 15 اب 2020
الموضوع: القسم الثقافي



هيفي الملا

هل من الصحيح إننا نقرأ الرواية للمتعة والتسلية ودفع الملل فقط؟ وإنها لاتغني عن جوع فكري ومعرفي وثقافي؟
قد يتبادر ذلك إلى أذهاننا عندما نتعرض لقول أحدهم قائلاً : اقرأ كتابا مفيدا، تخصص في قراءات معينة، مافائدة هذه القصص والحكايات المسلية. 
بقناعتي من يستطيع إطلاق هذا الكلام، لا أستطيع أن أطلق عليه لقب قارئ جيد، أو على الأقل قارئ قادر على استشفاف المعرفة من الروايات أو من الحكايا والقصص. 


عندما نحاول شد الطفل لعالم القراءة بماذا نبدأ معه؟ بكتاب عن الأشعة البنفسجية، أم بفلسفة سقراط، أم بصراع الأديان، أم نبدأ معه بحكاية ذات توجه ومغزى ومعنى، وعندما تنصح زميلك بالقراءة، ماذا تقترح عليه رواية أم مجلدا علميا. الرواية نبدأ بها كمحرض للقراءة، كفن قادر على رسم المعالم الإنسانية وترك الانطباعات، لأنها الأجدر و الأقدر على ترك الأثر في الفكر والوجدان، وكما أن الطفل ينشد والدته في الليلة الثانية قصة جديدة، ينشد وجدان القارئ رواية جديدة، وكل واحدة بمثابة نافذة جديدة، كوة نور مضيئة في جدار سميك، تتضاءل سماكته بعد قراءات متعددة وفهم أعمق، فكل رواية خلاصة تجربة الكاتب وعصارة فكره وروحه وتعبه، بل خلاصة وحكمة وتاريخ وثقافة شعب بأكمله.
نعم قراءة الرواية وحدها لاتكفي لصوغ منظومة أو نسق فكري معين، أو إرساء قواعد للتفكير العلمي والمنطقي، لكن القراءة الكثيرة المتتالية للرواية بكل أطيافها، تهذب من اختيار القارىء، بل مع مرور الزمن تتهذب وتتلون وتتعمق اختياراته، فلا يعجبه كل شيء حيث يبدأ من تلقاء نفسه، بفرز رغباته واختيار المواضيع التي تستهويه، وتلهمه الأفكار التي ينشدها، فيطرق أبوابا جديدة للمعرفة الفكرية، التي فتحتها له ومهدت له السبيل بالأساس قراءة الرواية.
 من يقرأ كثير سيعلو سقف اختياراته بالتأكيد، ويبدأ رحلة البحث عن المواضيع التي تشبع نهمه الفكري لمعرفة مواضيع شتى وفي مجالات شتى وعن ثقافات وشعوب شتى، لكن الرواية بما تحققه من فائدة، هي من توصل القارىء إلى هذه المرحلة الناضجة، لأنها وكما أسلفت ليست مجرد حكاية شأن قصة تلفزيونية، بل بناء نفسي و ذهني جديد، وإثراء للمحزون المعرفي، لأن القارىء ينهل عصارة فكر الكاتب ومواقفه من قضايا الحياة الأساسية، ونظرته للدين وللموت و فلسفة الوجود وللقيم الأخلاقية المتعددة، فهل نتخيل كم نموذجاً نحتفظ به في فكرنا، وكم من المرونة نكتسب في رسم مواقفنا، وكم تقل دهشتنا إزاء مواقف الحياة، باختصار لأننا شهدناها من خلال الابطال الذين عشنا معهم، وقدرة دماغنا على خزن هذه النماذج التي هي أنساق فكرية لا شخصيات اعتباطية تكسب شخصيتنا مرونة، تنعكس في تعاملنا مع الأنماط المجتمعية المختلفة، لنتخلص من محدودية التجربة وقصر النظر، إضافة إلى أن المواقف التي نعيشها مع الابطال من بكاء وضحك و سفر وخيانة وتضحية وموت وحياة وصراعات، تجعلنا أكثر نضجا وتفهما، نتأثر لأن للكاتب سلطانا وهيمنة اكتسبها من خلال مهارته وحنكته وأسلوبه، وهنا نحتاج ليقظة العقل والفكر أكثر من يقظة القلب والإحساس، وتسليح ذهنيتنا بملكة الإصطفاء والنقد والمحاكمة، لأن مذاهب الكتاب وتوجهاتهم متعددة، ومشاربهم مختلفة، لذلك  يجب أن تنضج  شخصيتنا من خلال القراءة، لا أن تنصهر وتضمحل مع كل قراءة جديدة، لنصبح أجزاء متفرقة هشة، كل جزء يعوم في عالم كاتب من خلال تجربته الخاصة، وهذا نستطيع تسميته بالتأثير غير المباشر، ورؤية الأمور من وجهات نظر متعددة، والقدرة على فرز الجانب الإنساني والفكري والإبداعي عندنا، وهذه القوة والوعي ورسم منظومتنا الفكرية، تخلقها لدينا القراءة الروتينية التي تتحول في حياتنا، سلوكا وفعلاً كالشرب والأكل والنوم، فنكتسب خاصية الفرز، والتمسك بما يتلاءم وشخصيتنا، والتزود بما يتناقض وتفكيرنا كزاد معرفي ونكهة تطيب بها لنا ألوان المعرفة وتجارب الشعوب . 
الرواية إذن ليست مجرد حكاية للمتعة وجلب التسلية، بل هي تذكرة سفر مجانية كما وصفها العقاد (درت العالم وأنا في مكاني) فلن تحتاج السفر مثلا لأفغانستان لتتعرف على مأسيها والتوترات العرقية فيها وتجارب المهاجرين الأفغان وظروف الاحتلال السوفياتي ووجع المرأة الأفغانية، تكفي روايات خالد حسيني لرسم هذه الملامح على خارطة ذهنك والصاقها مجانا على وجدانك وانت في سريرك .
وسعود السنعوسي الذي ينقلنا للكويت، من خلال مواضيع شتى كأزمة الهوية وموضوع العمالة الأجنبية، وعمق الصحراء الكويتية وتأثير التراث في الأدب، وعبد الرحمن منيف الذي يصب لنا خلاصة تجربته ورؤيته للحياة في روايات سياسية تعكس الواقع، وإليف شافاق من خلال مزج الماضي بالحاضر وقصص التاريخ التركي والهويات الثقافية والتمييز الجنسي ورسم البيئة الشعبية والثقافية في تركيا، تجعلنا أكثر خبرة بثقافة وتجربة الشعب التركي والتعرف على ثقافته وأدبه وتاريخه وسياساته . 
عدا عن العمالقة مثل دويستوفسكي وتولستوي وماركيز الذين   كشفوا النقاب عن النفس الإنسانية، بكل اختلاجاتها وحالاتها لنعرف فلسفة الإنسان نفسه وعمق معاناته، ونكتسب قدرة على تحليل مشاعره، من خلال بساط سحري يطوف بنا عبر كل الأزمنة والأمكنة، والأدب العراقي الذاخر بالهم والوجع ونبض الأحداث، والمفاصل السياسية التي واكبها الشعب العراقي ومازال يجترع ترسباتها، وكذلك الأدب السوري والمصري واللبناني، وحتى التغييرات التي تطرأ على معالم الكتابة الإبداعية، في ظل الحروب وظروف المهجر والتضييق على الأقلام، تجعلنا قادرين على تشخيص تلك الآلام ورسم الواقع المرافق لتلك المأسي، من خلال قراءة روايات المهجر والسجون والاحتلال، لنتعرف على كل أطراف المعادلات السياسية والاجتماعية لنحتكم بعدها إلى تفكيرنا ورسم مواقفنا منها، فالرواية استطاعت رسم الألم بامتياز، ورسم البسمة بامتياز، فهل نعتبرها حكاية أخر الليل كقرص منوم، أم تسلية لسد الفراغ، وهل نستهتر بدور الرواية التي تغني وتثري ثقافتنا و معرفتنا و تصقل موهبتنا بالكتابة، وتحفز خيالنا و تغنيه بكل أنواع وألوان المعرفة، وكما قال أينشتاين (الخيال أهم من المعرفة) فمن خلال معايشاتنا المتخيلة مع أناس يحملون أفكار سياسية وفلسفية مغايرة، نتحرر من نطاق النمطية والتقليدية لأننا تشربنا أفكار من عايشناهم وحملنا أرواحهم في داخلنا، فتنفرز مواقفنا تجاه قضايا كثيرة  وتسعفنا لغة التعبير للدفاع عن مواقفنا، بعد أن كانت اللغة والحروف تخوننا ولاتمنحنا ملكة التعبير والاصطفاء.
· دعونا نتجاوز فكرة ان الرواية مجرد حكاية وقصة تسلية، لأنها حياة داخل حياة، وعمرا إضافيا يزاد لأعمارنا، ومكتبة منمقة داخل رؤوسنا 







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=7440