درويش وبركات والكومبارس
التاريخ: الثلاثاء 23 حزيران 2020
الموضوع: القسم الثقافي



أحمد عبدالحميد غانم

لعله من الترف في هذه الظروف بالغة الخطورة التي تعيش فيها بلداننا أن نذهب إلى مهاترات يظن بعضنا أنها تتيح له تبوّؤ دور البطولة لاحقاً، أو ربما تذكِّر بوجوده وجاهزيته لأخذ دور على حساب الموتى والأحياء. وسلفاً أضع نفسي في مثل هذا الصِّنف من الكومبارس؛ إلا أنني لست من المرشَّحين لأي دور في هذه المسلسلات الباهتة، فأنا لا أمتهن كتابة الأدب من أي نوع سواءٌ أكان ينتمي إلى حقل الشعر أو إلى حقل النصوص الأدبية بل أشتغل في حقل الفكر والفلسفة.
وفي البداية أحب أن أسجل إعجابي بشعر محمود درويش؛ فهو في رأيي من أهم شعراء الحداثة العرب، وربما أشهر المعاصرين منهم. فشعره، في أغلبه، سيمفونية موسيقية وملحمة شعرية، وغالباً ما نجد له ظلا واضح الارتسام في مقدمة الكثير من الأشعار المعاصرة.


كما أنني معجب بأدب سليم بركات عموماً، ونثره خصوصاً،  وأظنّ أن ثراء نثره، يفوق في شعريته أغلب ما يكتبه شعراء الحداثة اليوم.
ولكن لو نظرنا إلى الاثنين معاً، وأردنا أن نعرّفهما في الجنس، أو في النوع لقلنا ببساطة واختصار: "هما من البشر". وكونهما من البشر، يعني أن لكل منهما مشاعره وأحاسيسه وغرائزه وأحزانه وحاجاته وظروفه و....، كأي إنسان آخر. ولهذا كله لا يتمتع أيٌّ منهما بصفة العصمة أو القداسة. وأنا، شخصياً، وبعيداً عن كل النظريات والتنظيرات، أفرق بين الشخص  بصفته إنساناً، وبين الشخص نفسه بصفته شاعراً أو فناناً أو مفكراً علميّاً أو فلسفيّاً. كما أجد أن أحدنا غير مخوّل بإطلاق أحكام قيمة تتناول أحداً في شخصه باعتباره إنساناً تمهيداً لنقل أحكام القيمة هذه إلى نتاجه، في محاولة للحط من قيمة ثروته الإبداعية، مفترضاً أن محاولة التسلق هذه ستمكنه من حجز مقعد في الصفوف الأولى، أو قد تغطي على بعض جوانب قبحه.
وبالأمثلة، وللتذكير والتنبيه حتى لا نقع في هذه المصيدة، أذكّر برائد الشعر الإنكليزي بايرون، والأديب والمفكر الفرنسي أندريه جيد، والموسيقار الألماني فاغنر، وغيرهم كثيرين جداً، كانت لهم أخطاء، بل فضائح أخلاقية مريعة لا تُغتَفر حتى  وفق معايير مجتمعاتهم وعصورهم؛ ومع ذلك ليس هناك إنكليزي لا يفاخر ببايرون، ولا فرنسي لا يرفع رأسه بأندريه جيد. وحذار أن يذكر أحدهم فاغنر بسوء أمام ألماني مهما كان توجهه السياسي. وهذا لا يعني أن ما قام به هؤلاء كان ينال رضا جميع أبناء بلدانهم.
إنّ ما قام به محمود درويش هو سلوك شخصي لا علاقة له بشعره، بل يدخل في إطار حياته الشخصية كأي إنسان، بغض النظر عن جنسه، أو جنسيته، أو غناه، أو فقره، أو عمله.
وأنا هنا لا أقول بانفصام الشخصية، أو أنسب النفاق وخداع الآخرين لدرويش أو سواه. فمن منّا لا يضع أكثر من قناع، ويبدّله غير مرة في اليوم الواحد، وليس حسب الفصول أوالمواسم أو المناسبات. كما أن محمود درويش قدم نفسه للعالم  بصفته شاعراً ومناضلاً فلسطينيّاً، له قضيته التي يدافع عنها بسلاحه الخاص؛ ولم يقدم نفسه بصفته مصلحاُ أخلاقيّاً أو داعيةً دينيّاً. فهو كأي إنسان له إيجابياته وسلبياته. وهذا لا يعني أني أتفق معه، كما لا أدعو أحداً للاتفاق معه، في سلوكه اليومي الحياتي، ومنه إقامة علاقة مع امرأة متزوجة، سواء أنجب منها أو لم ينجب. ولكن أيضاً، لا يعني أن لي الحق في فرض قناعتي عليه أو إخضاعه لمعاييري الأخلاقية.
ودرويش لا تربطني به علاقة صداقة، ولكني التقيت به في مدينة طرطوس في صيف عام 2003م. وتحاورنا معاً في جلسة ودية، واختلفت معه اختلافاً شديداً في بعض القضايا غير الشعرية. ولكننا اتفقنا أخيراً من دون مداهنة ولا تبويس لحى، بل من خلال حوار عقلاني وموضوعي. كما تلقيت منه وعداً بأن نلتقي مرة ثانية في طرطوس، وأن يحل ضيفاً عليَّ بناء على دعوة وجهتها إليه، وأن يلتقي جمهور طرطوس في أمسية شعرية، على أن أقدمه أنا شخصياً. ولكن المرض عاجله، ورحل عن دنيانا فشكل خسارة كبيرة للشعر ولنا جميعاً. وحتى اللحظة لم أصرّح بموضوعات الاختلاف (ولا أقول الخلاف معه). فقد أكون أنا المخطئ، وقد يسيء بعضها إلى درويش شخصياً. ولهذا أنظر إلى الموضوع على أنه حق شخصي لي، كما أنه حق لدرويش نفسه. علماً أن اختلافنا لم يكن على قضايا شخصية أو شعرية بل على قضايا أخرى.
أما سليم بركات فلم ألتق به يوماً، ولكني ألجأ إلى أعماله وبعض نصوصه لأسكر باللغة ومنها. فهو،  في رأيي، من أهم من كتب بالعربية في العصر الحديث.  إذ إن اللغة تتحول في نصوصه إلى موجود قائم بذاته، له كل ملامح الشخصية الفريدة، وليست وسيطاً بين المعنى والوجود. اللغة لديه تنمو وتتفاعل فتلد الآخر من ذاتها بشرعية لا تتوسل المقدس أو القبول من إكليروس العربية.
وهذا لا يعني أنني أتفق معه في مسألة البوح بسر من اعتبره ابناً له. ولكن، في النهاية، هو سره الخاص، وهو حر في التصرّف به. ولست على علم بالظروف التي دفعته إلى ذلك؛ كما أني لا أبحث عن عذر يسوّغ له ما فعل. 
أخيراً، ينبغي ألا يحاول أحد التقليل من قيمة الكبار الذين نعتز بهم، حتى لو أخطؤوا كبشر. فالشعب الذي لا يحوي تاريخه على أبطال يخترعهم، وينشئهم كالأساطير. فلماذا الحط من قيمة أشخاص، أو التقليل من قيمة أعمالهم لمجرد أنهم يختلفون معنا في معاييرنا الاجتماعية أو آرائنا السياسية؟ فهم أولاً وأخيراً بشر. وعلينا ألا نخلط بين المبدع والإنسان في الشخصية ذاتها. وألا نحاول أن ندس أحكام القيمة، التي أطلقناها على بعض السلوك الشخصي واليومي، فنسحبها على نتاجه الإبداعي. كما أنه ليس المطلوب من أحد أن يقبل بهذا السلوك أو ذاك لمجرد أن (س) من الناس قال به مهما تكن صفته. وأية محاولة لاستخدام درويش أو بركات كوسيلة للظهور أو التسلق، هي محاولة مكشوفة ومرفوضة. وتبقى المسألة بين بركات ودرويش لا بين غيرهما.
هذه هي الحياة: هناك أبطال وهناك كومبارس، وهناك أيضاً ديكور وإكسسوار، ولكن الإضاءة ينبغي أن تُسلَّط على الأبطال الذين يصنعون الحدث لا على الكومبارس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحــث ســوريّ له عدة أعمال فكرية وفلسفية منشورة، منها : نظرية المعرفة في التصوف ( دار الحوار- اللاذقية- 2017)، و( الحقيقة الفلسفية والميتافيزيقا-دار إياس- طرطوس- 20128). 







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=7340