ملكة القرنين.. وأساطير حنجرة الماء
التاريخ: الأثنين 12 اب 2019
الموضوع: القسم الثقافي



إبراهيم اليوسف
 
عالمانِ أمامَ عينيه الآن: عالمٌ "أصلٌ"، وآخر موازٍ، موَّارٌ، لربّما الرّجل هو أنت. هيا "رِ" كل ذلك، بلا تؤدة!. "رِ" الهناءة في ثوب الرّيحان. بند ونقش كثير في ثوب الخضرة الجبلي. رِ النَّشوة في الذّبذبات على موجات الانتظار كلّها، وأنا أبدؤك عنوان أصبوحة مترامية الاحتمالات والنُّبوءات. معجزة، أو صدى أسطورة، أو ملحمة من نقائض قرينة للحياة، كما حليب أيائل، أو حليب خرافي، يسيل من بين أصابع اللّحن، أو لغز الكلام. دهاء العينين، أو سحر الفم، مكر الحنجرة!


لا تبح بسرِّك لأحد!. إيّاك، أن تفقد خيط الصَّوت. هما عالمان، لا أقل، ولا أكثر، وها أنا أتوه بينهما. يختلط الأمر عليَّ: الوجه وامتداده. القامة وامتدادها. القِبلة والفم. الشَّعر المتطاير في إهاب خريطةٍ وشبيهُه. الضّحكة المدوِّية. الخطى. كلُّ شيء، الآن، باتَ له صنوه، شبيهُه، نسخته الأخرى، المتماهية معه. لم يكُن الأمر وليد ضلال يصمُّ أذني الشّاعر الأرعن، أو سواه، كما في تهمة الأنثى، والمحلف، والشّاهد، وعسس الوقت، ولا حتّى الملائكة وهم يدوِّنون الخطأ مضاعفاً، عساهم أن يمسكوا بأذيال الوميض الإلهي، أو وميضك، يطرق بوَّابات الحواس كلّها. المكتشف منها وغير المسمّى بعد. ثمّة ما يمكن أن تنسب أرومته إلى من قلت هي: أمِّي، وصلك صوتها في كوب من رذاذ سلسبيلي، أزرق. أزرق، أزرق، حتّى البحر، أو الأفق في زنّاره القوس قزحي. كانت الغيمة لا تتوانى عن الهطولِ فيه، أنّى شارف الرِّيُ على عناق قرارته، من دون أن يصل أو يتقهقر. رجلٌ مختلف، لك أن تؤدِّي دوره، أمام النّظارة. امرأة مختلفة، تخرج من ذلك المعبد القديم. نصفها أنسيٌّ، نصفها ملائكيٌّ، أو جنِّيٌّ، تركض صوبك أنَّى أردت، تزفُّ إليك بشاراتِ الغدِ، تمدُّ إليك يدين كريستاليَّتَين، كما الجسد عينه، تنتشلك. تزيل الغمامة والغمة، لا بوصلة إلّا في أصداء هذه التَّراتيل وهي توجز الأسفار، والآيات، والرّقم، والنُّصوص الدَّفينة!.. استحضر الشّعر كلّه، صبراً لوركا الشّاعر.
حذار، لا تفقد يدي الصَّوت، أو ذيوله، وأطرافه، وخيوطه! الامتحان احتمالان من صعود
"لم يكُن الأمر وليد ضلال يصمُّ أذني الشّاعر الأرعن، أو سواه، كما في تهمة الأنثى، والمحلف، والشّاهد، وعسس الوقت، ولا حتّى الملائكة وهم يدوِّنون الخطأ مضاعفاً، عساهم أن يمسكوا بأذيال الوميض الإلهي، أو وميضك، يطرق بوَّابات الحواس كلّها" وسقوط. عليك استقراء حبيبات الطّلع المحلّقة بأجنحة فراشة، وأطيار من ندى ونشيش شفيفين.
كأنّك تستنهض تاريخاً من أثر. تستنهض ضياعاً، وحضوراً، وما بين كل ذلك من برق في الصَّوت الملك، في صيغته المؤنثة، يسمِّيه راسم الخطوة الأولى- فيروزاً- بعد أن تلتقطه أصابع الكاشف، (شاهنامة)، في ابتهاج سابق، يزيل عن الطَّريق المنهك بعض متاهاته، يستبدلها بالضّوء، والمرايا، وكأنّه يمسك زئبق اللّامرئي مرئيّاً، وكأنّه يسمِّي سبعين سنة قادمة: صدى صدى، من دون أن ينسى أشواك هاتيك الدّرب، في غموضها وجلائها. يزيلها، ممهِّداً لحفيف إيقاع خطى المارّة، مستجلياً قهقهات البحَّارين، عن قرب، ترانيم الكنائس، صلوات المساجد، إيماءات الكنيس، وكل ما بين هذه العلامات، من معابر، وممرّات، هائلة، تتهاطل بتعدُّد الآذان، والبصائر، تفتح عليها الأجيال القادمة، في كلِّ مرّة منصّات الإصغاء، إلى أن تكبر، في هذه الأكاديميّة العظمى.
تلك أنت/ حياة العشب على صدر التَّرقب/ والطّفل الصَّغير في المقعد الأخير، من الصّف الأخير هو شبيهي/ لا تدعوها وحدها متكئة على نعناع وري!
لا تبتعدوا، يقول قائل/ شعراء كبار، موسيقيون، كهنة، ملائكة، جان، عشَّاق حالمون، خطّاطون، ميكروفونات، خشبات مسرح ضوئيّة، جمهور كونيٌّ، هكذا تعثُّرت بهذه الكنوز ذات متاهة واكتشاف!
كان عليّ أن أعلن عمّا أقيم فيه من مفترق سبل أو مجمع مسارات، أي مشهد آخر مواز لما هو أمام عيني؟!
يبدأ السُّؤال من بوح وتري، لم يكُن البدء من هنا - فحسب - كانت هدهدة الأم الأولى، وصورها الكثيرة في المرآة أوَّل أساطين الخليّة، تصالبت مع صوت الأب متوزِّعاً بين صلواته، وقصائد المتصوّفة، وأغنية "فاطما سيلم آغا" وأغنيات أخرى، لا حصر لها، ولا عصر، أو عسر، يمكن استخراجها من قرص المسجّل، قبل أن يحل في البيت اسم توشيبا، كأجمل راديو، بعيد الرَّاديو الكبير الّذي طالما شدّني وأمِّي إليه، نقرض أوقاتنا في حضرته. كان ذلك إيذاناً بأن أجسر إلى أصوات عاملات الحقل، ومواكب العرائس، من دون عازف، ليقرع الباب مغنُّون كثيرون:
محمّد شيخو، وشفان برور، وبينهما أسماء كثيرة، وسماء سامية، تنبت على شجرة الدَّار، وإن كنت سأختار- العندليب الأسمر- قبل أن أعرف شجرة الأغنية الأقرب إلي، تدخل بيتي في سني ما بعد الفتوّة، أقتني صوتها في كاسيتات عديدة، تكون أوّل مكتبة لموسيقاها في بيتي. أعلِّق صورتها فوق إحدى النّافذتين المتقابلتين في بيتي الطّيني، تتراوح بينهما أشعة شمس الصّباح، قبل أن أمضي إلى غرف وبيوت كثيرة، لتغدو صورتها، في اللّقطات الكثيرة صدى الصَّوت، أو هي الصَّوت ذاته، أتأملها:
أمّاه، أو ولادة أمنية وأمينة عليك اليوم، فيروزة العقد كما سمّاكِ الرّبان الأوَّل، وأبقي الاسم. الهلام، انبهاراً، انبهارين، أو أكثر المدرّبين من بعد، واحداً تلو آخر، أبقيهم، ليس من شيء غير ظاهر..
ها أكتب عن ذلك ذات يوم في صحيفة تفرد لي مساحة اعتراف. كان ذلك عندما جعلتها سفيرتي في عمارة الأنثى الّتي أحب، نتضاحك، نتباكى، نتسارر، كما أم تطلب يد عروس لفلذة كبدها، أستعين بدفق من غيث حنجرتها يبلِّل رسائلي، يشعل فيها الاخضرار أزفُّه إلى هاتيك الأنثى، تفاجئها تارةً وهي على الكرسي في غرفتها ذاهلة، وأخرى وهي على سرير التّأمل، أو في لحظة ما قبل الغفوة، أو: بينما هي منجذبةٌ إلى دندناتِ رصيف الشّارع المقابل، قبل أن تصل إلى مدرستها، ومن ثمَّ مكتبها الوظيفي، أو في المطعم المجاور، أو في باص النّقل الدّاخلي. في الحلم يرسم نقشه الصّوت ذاته.
امرأة الأزمنة العديدة، المتناقضة، المتماثلة، ما بين مهرجانات هائلة، وتآبين غير معلنة، وحروب كثيرة، تمرُّ بالآدميين، عاصمة عاصمة، وهي تحصد زمر الدّم الهائلة، والأرواح الهائلة، لتظلّي بين بين، لتشيري إلى القاتل- كما يجب أن يكون- وإلى الضّحية، تبكينه، كأنّما هو قد قطف للتوِّ من حديقة صدرك ذاتها. عرَّافة تاريخين ما بين ولادتيك: 1935- 1952، لتكون لك ذرّية تتجدَّد، لابدَّ عليك أن تبقي على بعد إيقاع موَّال جريح، أو حالم، منهما، من دون كتمان الإشارات، والإيماءات، أو الدَّمعات.
لا أحد يخطئك
العاشقان في موعدٍ سريٍّ
المحارب على خطِّ النّار
المهاجر يتلمّظ صورة وطن وأهلين
ليس لي سوى فيروز!
كوني كما أريد
كوني كما اسمك
كوني كما صلاتك المفتوحة على الجهات
كوني كما حصّتي من حليبك
 
أقولها لها، آنَ أنْ نمضي كل في جهة مختلفة، لأجدها قبالتي، في اللّحظة ذاتها. إنّه الاعتراف
 
"لك أن تظلّي السّفيرة، كما عهدنا المتواصل، منذُ عقود السَّنوات الموغلة في التّرف والنّصاعة، وحتّى رائحة الدّم الّتي جعلت كلاً منّا يقعي على الرَّصيف، مهدوداً، قبل أن يسترجعه، فلا يجد إلّا ظل صوت قديم، متجدِّد، ما زلت تحرسينه، مستويةً على عكاكيز الإله!"
الهاتك للصمت طويلاً، لا بدَّ من العثور على أجزاء الصُّورة الغائبة، المغيّبة، حينما تتناءى عنها، وتدلّك عليك، لتبتهج على امتداد الفصول المختلفة، ضمن دورة الزّمن كلّه، فلا شيء غير أصابع، ووتر، وحنجرة، وترانيم، وجهات، اعتصرتها السّماء، على ضوء برق، وزمجرات رعد، وشدو بلابل قادمة من فردوس أرضي. ما بين يديك سرٌّ كمين، لا تجرؤ على البوح به، فمن يسمّي أرومة هذه القامة الجميلة، لتقول لوليدها لا تضلنَّ الطَّريق، لا تأخذ باليد الّتي دلّتك على الصَّواب إلى الخطأ، فأنا الأزيد في قربي، وأنا المتحدِّر من أصول الدّم، من جذورِ ذلك الكبدِ، كما تقولُ جغرافيا الانتماء بصوتها العلني!؟
ما زلتَ ترى، ما كنتَ تلمَّسته بأناملِك في رؤاك، تلك: فلابدَّ من ذلك الشّلّالِ. لابد من ديمومةِ الماء، متماهياً في الصَّوت، كلّما ظمأت، ما دامت داليةُ الموسيقى على مقربةٍ منك، مادامت تقدِّمها لك: زهرةَ نرجس، يحتفظ بها كراسُ القلبِ ميقاتاً مضيئاً، وشذى لا يخرس البتّة. ما زلت تراك سفيراً للأم اللّاحقة، تدوِّن اسمَها في خانة الأم في سجلّات النُّفوس، وأنت تناديها، اشبهي ذاتَك، وظَلّي كما عرفتكِ، واسترجعي ما لديكِ من وصايا جبليّةٍ قديمة ظلّت طيَّ الغفلة. وصايا تبيّن ما في جيوبِ الصّدى من نوى:
تراب وماء. نار ونور، ألا كل ذلك لمن علامات علوّ القامة، اتساع الظّل، ليكون بوسع أكثر من كرة أرضيّة. ليكون بوسع بِحار الأرضين أن تعقد أعراسها خفية، أو علناً. ليكون بوسع أكثر من سماء. أكثر من قافلة كوكبيّة. أكثر من إله في حضن امرأة لمَّا تزل على المنصّة، أن تتعدَّد، تتلوَّن، وتستعيد دفاترها. تشعل ظلال وجوه الشّاعر. وجوده. صوره. أحواله. أحلامه، كي تكون على ما نرام، وما ترام، مترامين على أطراف ذيول الأغنية ذاتها، في أكثر من إيقاع، أكثر من مدى، أو صدى!
هما عالمان أمام عينيه، لا يزالان: عالم الكون، وعالمك، وأطيافك، من النّدرة، من مغنّي اللُّغات الهائلة، قيافي أثر الحلم والألم، ولك أن تظلّي السّفيرة، كما عهدنا المتواصل، منذُ عقود السَّنوات الموغلة في التّرف والنّصاعة، وحتّى رائحة الدّم الّتي جعلت كلاً منّا يقعي على الرَّصيف، مهدوداً، قبل أن يسترجعه، فلا يجد إلّا ظل صوت قديم، متجدِّد، ما زلت تحرسينه، مستويةً على عكاكيز الإله!
 
(1/ 7/ 2019)







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=6892