خارج الساعة
التاريخ: الثلاثاء 30 ايار 2017
الموضوع: القسم الثقافي



إبراهيم اليوسف
 
"تلك الأوقات الحصيفة لايمكن لها أن تنتمي إلى روزنامتك"
ليس ثمة إحساس بالوقت لدى المرء، إلا عندما يحس بضآلة ما تبقي له فيه، وهو ما ركز عليه الكهنوتي كثيراً، بل هو يدعو إلى ضرورة استثماره في خدمة رسالته. هذا الشعور يتمرأى في أشكال كثيرة لدى المرء العادي، كما الموسيقي، كما الكاتب، كما الشاعر، كما التشكيلي، كما غيرهم، في أية لحظة احتكام إلى الوعي، كي يحاسب نفسه، قائلاً: ترى، ما الذي فعلته خلال ما فات من الزمن؟. إنه شعور تحتد ضراوته أكثر أنى داهمته قطارات الوقت، قبل أن يعد لها العدة. شيء من هذا القبيل، كنت أسمعه في خطب أبي وأوعاظه، وأنا بعد طفل صغير، حيث يعد سؤال فناء العمر أحد أهم أسئلة القيامة، وكان من عداد المقولات التي طالما استظهرتها ضمن نواة محفوظاتي، من دون أن أتمكن من ترجمتها البتة إلى واقع فعلي.


-هل إنني كنت طوال الشريط الزمني لحياتي مجرد عابث بقيمة الزمن؟، هو ما يمكنني أن أطرحه على ذاتي، في هذا المقام، محاكماً إياي، ناظراً إلى ما ورائي، كي أرى مجرد ذويٍّ من الوقت المستهلك، غير الممكن استعادته، أو بث الروح فيه، مرة أخرى، وكأنه ليس إلا ما كما يراه كاتب موضوع إنشائي أوراق شجرة متهاوية، في خريف هارب. فما أكثر هاتيك الأحلام المعلقة التي كانت بلون المخيلة والروح، سهلة الإنجاز!، تحت نار قليل من العناء والرعاية، بيد أن كل ذلك بات محض حطامات حلمية، تشكل أنشوطات حول العنق، أنى غصت في رامة التفكير فيها.
كثيرون من المقربين اطلعوا على كشاكيل كثيرة، كانت مودعة فوق أرفف مكتبتي، ومنها ما هو مخطوط منجز، بيد أن جميعها لم ير النور، بل ظلت أسيرة معرفية غير مذكورة في لغة الحروب، لاسيما إن السبيل إليها بات محفوفاً بالمخاطر الكثيرة، بعد أن غدت رأس كل ذي موقف مطلوبة حتى من قبل بعض أبناء جلدته، قبل عدوه التقليدي، ما دمت تواجهه بمراياك الكاشفة، قائلاً له: هو ذا أنت...!.
كل الكائنات مربوطة إلى دورتها الزمنية: الأعشاب- الأشجار- الطيور- السحالي- الأفاعي- العقارب- الأنعام- وغيرها، وهي لا يمكن لها أن تركن إلى الكسل أو التكاسل، تؤدي ما هو مرهون بها، أياً كان دورها. وطبيعي، أن الكاتب عليه أن ينجز كل ما يخطط له، سنة سنة، بل شهراً شهراً، أو يوماً يوماً، ساعة ساعة، دقيقة دقيقة، حيث تكون موازينه جد دقيقة، يعطي لكل الأشياء حقوقها، فلا يغلب القراءة على الكتابة، ولا الكتابة على القراءة، وألا يكون كل ذلك على حساب واجباته اليومية إزاء بيته. كل ما أقوله الآن- هنا- لم ألتزم به، فقد كانت القراءة تلهيني عن الكثير، وصنوف الكتابة الاستهلاكية، منها، والجادة، تلهيني عن مشروعاتي الاستراتيجية بلغة السياسة، ولعل كل ذلك كان على حساب أسرتي، ليس في حدود تأمين لقمتها اليومية، ضمن خط ما فوق الفقر، بقليل، وإنما حتى على حساب متابعة شؤون دراسة فلذات كبدي بالشكل الذي يستحقونه، أوازي بينهم وبين أبناء المقربين مني، بل العوام، في دروسي الخصوصية المجانية، للمادة التي أدرّسها: اللغة العربية. حيث يعرف المحيطون بي أني لم أتلق يوماً واحداً ليرة سورية واحدة على درس خصوصي كنت أعطيه للطلاب، وإن كنت قد دأبت على امتداد ما يقارب ربع قرن على فتح دورات تدريس مجانية، يتلقى أبنائي وبناتي دروسهم خلالها، مع هؤلاء أنفسهم.
لقد كان لدي إحساس دائم، مفاده، ضرورة الوقوف مع الآخرين: الانهمام بهمومهم، أكثر منهم، التفكير بشؤونهم، عدم الطمانينة في بيتي إن كان هناك مجرد مظلوم، ولكم خضت مرافعات كتابية عن هؤلاء في الصحف المحلية-أنى أمكن ذلك- وفي صحافة الحزب الشيوعي، في ما بعد، عندما انضممت إليه، وغدوت في صفوف قيادييه، وقد كانت هذه الكتابات التي امتدت عقوداً، أي: منذ كنت طالباً على مقاعد المدرسة، وحتى أصبحت معلماً، فمدرساً، فنصف متقاعد، تستهلك وقتي، وحياتي، أي أنها تقتل وقتي، وتهددني بالقتل، أنا الآخر.
صحيح، أن غواية طباعة الكتب كانت جد ممتعة، وهو ما مارسته مع طباعة مجموعاتي الشعرية الأولى، غير أنني سرعان ما رحت أسهو عن الطباعة، أقدم كتب بعض من حولي إلى المطبعة، وثمة كتب لبعضهم، مارست دكتاتورية الصداقة على بعض أصحابها، من خلال إلزامي أحدهم على سبيل المثال، على جمع ما نشر له، وبعض القصاصات، كي أحملها معي إلى دمشق، أقدمها لصديق ناشر، كي يطبعها له، وليقدم صاحب الكتاب أجور الطباعة، الضئيلة، بعد وقت طويل، ولأعود بنسخ كتب ذلك الشاب، وأحتفي بها، وهو هنا مجرد مثال، بينما كانت مخطوطاتي المعدة للطباعة تئن من الإهمال، ما دمت أحس أنني أعمل من أجل خدمة من حولي، عبر كتابتي الصحفية التي لا يبدو لها أي أثر الآن، بل إن هناك من كان يعد المرافعة عن الآخرين مجرد نقيصة...!.
شعوران يتناوبانني-الآن- وأنا في هذه المحاكمة الذاتية، أولهما أنني قدمت، حقاً، لمحيطي الاجتماعي، ما استطعت أن أقوله، وإن لم يكن أحد ليهتم بما ينشره الصحافي، عادة، بيد أن مجرد إثارة أية قضية، كانت تريحني، في داخلي، بأني قلت: لا، في وجوه صانعي هذه المعاناة، وثانيهما، هو أنني تكبدت الكثير من وقتي في هذه المعمعة، وقد كان من الممكن، أن أقدم أعمالاً كتابية، متكاملة، تعكس معاناة هؤلاء، على نحو فني، كي تكون وثيقة إبداعية عن الانتهاكات التي تعرضوا لها، غير أن معاناة الناس-في الحقيقة- تتطلب الصحافي الميداني الذي يواجه السلطات، ليكون لسان حال البسطاء، والمضطهدين....! ...
-هل أنا نادم على ما فعلت؟
-هل سأكرر مثل هذا الحرق لوقتي وأيامي، دفاعاً عن الآخرين، لوعادت بي الحياة، شاباً، في مقتبل العمر؟
-لا، لا، لست نادماً
وأتمنى لوأعيش ألف حياة كي أدافع عن هؤلاء بقلمي وقبضة يدي، ولتذهب الكتابات التي لاترافع عن الناس إلى الجحيم.....!...

*  عن
ضفة ثالثة






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=6019