الثورة وسؤال الثقافة والتنوير
التاريخ: الأثنين 17 اذار 2014
الموضوع: القسم الثقافي



هوشنك أوسي

الثورة السوريّة، بما أسقطته من أقنعة عن اليسار، والعلمانيّة، والحداثة الفكريّة العربيّة، وفضحها مزاعم أو أوهام وترّهات، لم تكون لتخطر على بال الكثيرين منّا، خلاصتها أنه ثمّة «جاهليّة» طائفيّة أو دينيّة أو قوميّة، غائرة في الوعي «الحداثوي» لدينا، بحيث ما أن اقترب التغيير من تخوم «المحميّة» الجهويّة - الهويّاتيّة وسلطتها السياسيّة الحاكمة، وصار يهددها في الصميم، حتّى ظهر منسوب الادّعاء المعرفي وزيف تبرّؤه من تراكم 1400 سنة من التلقين المركّب قوميّاً ودينيّاً وطائفيّاً، فباتت أسماء «فخمة» تنكشف تباعاً، عبر ارتدادها النفسي والعقلي إلى اللبنات الأولى في التكوين المعرفي، التي تراكمت عليها مزاعم التبرّؤ منها.


 وعليه، ثمّة تساؤل يراودني منذ سنة تقريباً، مفاده: لو كان محمد الماغوط (1934- 2006) وممدوح عدوان (1941- 2004) ومحمد عمران (1943- 1996)، أحياء، وعايشوا الثورة السوريّة، هل كانوا سيحذون حذو أدونيس في مناهضة الثورة السوريّة، بحجّة الدفاع عن العلمانيّة (الأسديّة)، وأن الآتي، (بدلاً من نظام الأسد)، ظلامي، وتكفيري، وأكثر سوءاً وقباحة منه، وسيعيد البلاد والعباد إلى 1400 سنة للوراء؟!

وعلى افترض أن شاعرنا الكبير، وأحد روّاد الحداثة الشعريّة؛ أدونيس، وبقيّة رهط الأدباء والشعراء والباحثين والنقّاد والأكاديميين العلمانيين على حقّ، في دفاعهم الخفي أو العلني عن النظام السوري، (ليس حبّاً فيه بل كرهاً في التكفيريين والجهاديين الإسلامويين، حسب زعم الكثيرين منهم) وقياساً على حجج هؤلاء، نفتح أيضاً قوساً لسؤال آخر، مفاده: لو كان روسو (1712- 1778) وفولتير (1694 - 1778) وديدرو (1713 - 1784)، عايشوا الثورة الفرنسيّة، وشهدوا فظائعها، وتصفيّة قادة الثورة بعضهم لبعض، ودخول فرنسا في حرب أهليّة (1789 - 1799)، وإتيان الثورة بنظام ملكي آخر، وبنابليون ومغامراته وحروبه، هل كانوا سيناهضون هذه الثورة، ويترحّموا على أيّام لويس السادس عشر، المغلّف بحكم الكنيسة لفرنسا، وينقلبون على أفكارهم ومؤلّفاتهم ودعواتهم التنويريّة لأنها أفضت لما أفضت إليه من خراب واحتراب أهلي دام عقداً من الزمن؟! بالتوازي مع هذا السؤال: لو كان ماركس (1818 - 1883) وأنجلز (1820 - 1895) أحياء، وعايشوا ثورة أكتوبر سنة 1917، بما انطوت عليه من حرب أهليّة وفظائع، مروراً بالحقبة الستالينيّة وجرائمها الكبرى، هل كانا سيتبرّءان من فكرهما وبيانهما الشيوعي، ويترحّما على حكم القيصر، والغطاء الديني الذي تمتّع به، على اعتبار أنه كان أخفّ وطأة وكلفة من حيث الظلم والاستعباد والفساد والاستبداد من الحقبة الستالينيّة اللينينية التي أفرزتها ثورة أكتوبر، بشكل أو آخر؟ كل ذلك، من دون أن ننسى بأن التاريخ الإسلامي، يؤكّد الصراع الدموي بين الصحابة والمبشّرين بالجنّة (حرب الجمل نموذجاً)، فهل يعني هذا أن الدين الإسلامي، لم يكن ثورة اجتماعيّة، في حينه؟. وينسحب الأمر على الديانة المسيحيّة والحرب التي نشبت بين طوائفها، والخلفيّات الماديّة والروحيّة والفكريّة لتلك الحروب، وحجم أكلافها، هل يجيز لنا عدم إطلاق وصف الثورة الاجتماعيّة على الديانة المسيحيّة، في حينه، نتيجة تلك المآسي والويلات التي شابت تاريخ هذه الديانة؟!

مناسبة الأسئلة السالفة، هو الإشارة إلى أن «الأمم والأديان والطوائف سرديّات»، منها ما هو في تداخل، ومنها ما هو في تخالف، ومنها ما هو في تضاد. فالسرديّة الطائفيّة التي تستبطن عمق الخطاب القومي أو الوطني أو العلماني - الحداثي، سياسيّاً وأدبيّاً وفكريّاً، في المنطقة، دفعت علويي تركيا، (عرباً كرداً وتركاً وتركمان) للدفاع عن علمانيّة نظام أتاتورك، رغم ارتكابها المذابح بحقهم في ديرسم سنة 1938، والتهجير القسري الذي تعرّضوا له في مناطق أخرى، بحجّة أن هذا النظام أطاح بدولة الخلافة العثمانيّة التي ارتكبت بحقّهم المذابح، بأقلّ نسبة مما ارتكبه النظام الاتاتوركي!. تلك السرديّة الهويّاتيّة - الطائفيّة، تدفعهم الآن لمناصرة نظام الأسد، في سياق «المجابهة والمظلوميّة التاريخيّة» التي يتمّ الحديث عنها في «بيوت الجمع» وفي الجلسات الخاصّة لعلويي تركيا، وما يعتبرونه «مشاريع ومخططات ومؤامرات» السنّة في تركيا وسوريا ودول الخليج، ضدّ آل البيت ومشايعيهم (شيعة، علويين، اسماعيليّة)!. كل ذلك في سياق تنظير سياسي وآيديولوجي علماني - يساري، علوي تركي، مناهض للغرب والإمبرياليّة، ولكنه طائفيّ أيضاً وبامتياز. وكذا فعل حافظ الأسد، أبان تمرّد «الأخوان المسلمين» و»الطليعة المقاتلة» نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، بأن زجّ الطائفة العلويّة في تلك الحرب الأهليّة، منصبّاً نفسه حامي الطائفة ومصالحها، وأن سلطته هي سلطة الطائفة، وضمانة وجودها، تحت شعارات العروبة والاشتراكيّة. وفيما بعد، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، تحوّلت الشعارات إلى المقاومة والممانعة!. واستمرّ بشار الأسد، منذ مطلع الثورة وحتّى الآن، على منوال أبيه، بأن ورّط كل رموز الطائفة من مشايخ ووجوه اجتماعيّة، مضافاً إليهم الكثير من النخب السياسيّة والثقافيّة، إلى جانب الرموز الأمنيّة، في هذه المحرقة والاحتراب الأهلي، للدفاع عن نفسه ونظامه من السقوط، بحيث بات العلويون، ويا للأسف، يعتبرون معركة الأسد معركتهم، يخوضونها وفق «نكون أو لا نكون»، وإلاّ لشهدنا ولو تظاهرات سلميّة يقومون بها في مناطقهم، ليست مواليّة للثورة، بل مناهضة لحكم الأسد، ورافضة لأن يُقتل أبناءهم على مذبح استمرار نظام الأسد، على أقل تقدير! طبعاً، هنالك استثناءات، فرديّة، ثقافيّة وعسكريّة، وقفت مع الثورة. لكن، لم يكن لها ذلك الثقل الوازن في التأثير على قرار طائفة بأكملها. 

وبالتوازي مع حالة الشاعر أدونيس، كأديب وأحد روّاد الحداثة الشعريّة العربيّة، يمكن أن نورد حالة أكثر وضوحاً، سياسيّاً، هي تجربة فاتح جاموس (علوي)، كأحد رموز حزب العمل الشيوعي، الذي كان يهدف إلى إسقاط النظام، وقضى ما يزيد عن 15 سنة في سجون النظام. وما أن اندلعت الثورة، حتّى اختار جاموس تموضعاً جديداً، لا تختلف تبريراته كثيراً عن تبريرات أدونيس. وعليه، لو كان الماغوط وعدوان وعمران أحياء، لربما استيقظ المارد الطائفي المتواري تحت قبّعة الأدب والحداثة والعلمنة، ليعبّر عن نفسه موالياً لنظام الأسد، ومناهضاً للثورة، بحجّة مناهضة «التكفير في زمن التفكير»!؟

وثمّة أمثلة شرق أوسطيّة - عالميّة، كالت بمكيالين، آيديولوجيّاً وحتّى شخصيّاً، كشاعر تركيا المعروف بنزعته الإنسانيّة وشيوعيّته ومناصرته للمسحوقين والبروليتاريا، ناظم حكمت (1902 - 1963)، الذي توجّه للإتحاد السوفياتي السابق، وبقي هنالك لمدّة ثمانية سنوات (1921 - 1928) وعايش بداية حكم ستالين (1878 - 1953) الذي استمرّ من 1922 ولغاية 1952. ثم عاد لبلاده وتم اعتقاله، فهرب إلى جنّة الشيوعيّة مجدداً سنة 1951، وبقي هناك لحين وفاته سنة 1963، هذا الشاعر المهم والكبير، لم يتخذ موقفاً صريحاً وواضحاً حيال ممارسات ستالين، لا أثناء تواجده في الاتحاد السوفياتي السابق، في المرّة الأولى، ولا أثناء عودته لبلده، ولا حتّى بعد موت ستالين، وهو الذي عاش في كنف نظام خروشوف (1894 - 1971) وشهد «انقلاب» الأخير على ستالين! بل لجأ إلى التورية الخجولة في بعض أعماله. فما الذي دفع حكمت إلى هذا الصمت المشتبه به، بالرغم أنه كان معاصراً لمذابح ستالين وتصفياته الداخليّة، في حين أن شعراء روساً، انتحروا احتجاجاً على انهيار أحلامهم الثوريّة بغد أفضل من نظام القيصر، ورفضاً للفساد والاستبداد الذي استشرى في جسم النظام الشيوعي، كالشاعر الروسي مايكوفسكي (1893 - 1930). وعليه، هل كان حكمت يعتبر أي انتقاد لنظام الستالين خيانة للشيوعيّة وآيديولوجيّتها، حتّى لو التهمت الأخيرة كل الشعوب السوفياتيّة؟ أم هو رجحان كفّة الآيديولوجيا والمنفعة الشخصيّة، كون حكمت هرب من بلده الرأسمالي «المتغربن» إلى مهد الشيوعيّة وقِبلة اليسار والأمميّة العالميّة؟! لم يكن مطلوباً من حكمت أن يحذو حذو مايكوفسكي، ولكن، أقلّه، الخطاب الأدبي الإنساني والحداثويّة الشعريّة، كانت تملي بعضاً من الحزم في إبداء الموقف تجاه طغمة ستالين!

ثمّة أمثلة كثيرة من الأدباء والشعراء والمثقفين، انتقدوا الظلم والطغيان والاستبداد والفساد في بلدانهم، إلا أنهم بايعوا طاغية آخر، وامتدحوه مدراراً، كالشاعر العراقي المعروف، محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997). وثمّة شعراء لطالما كتبوا ضدّ الظلم والقمع، ودافعوا عن الثورة الفلسطينيّة، لكن حين اندلعت الثورات في تونس ومصر وسوريا، لم ينبسوا ببنت شفه، لا مع ولا ضدّ، رغم أن شعرهم طافح بالدعوات للثورة، مظفر النوّاب، نموذجاً.

على ضوء ما سلف؛ وبما أن الثورات، كمراحل انتقاليّة ومآزق وجوديّة ومحكّاً للشعوب والمجتمعات ونخبها ودعواتها للتنوير والتغيير، فإن الثورة السوريّة لم تكتفِ بفضح نظام دموي وحشي، كان مفضوحاً أصلاً، بل فضحت منظومة قيميّة كاملة، قوامها النفاق، بلبوس الجدل والإشكال، تُظهر من الحداثة والتنوير والمعارضة، نقيض ما تستبطن من الموالاة والجاهليّة القوميّة والدينيّة والطائفيّة. وإذا كان اليوم، يضيق بدراسة ما أنتجته الثورات العربيّة، والسوريّة على وجه الخصوص، من تعرية ومكاشفات مزاعم الثوريّة واليساريّة والعلمانيّة، والحداثة الشعريّة السوريّة والعربيّة، قبل مزاعم التنوير، لدى بعض الأسماء ذات البريق، فإن المستقبل سيتفتح على ذلك.

المستقبل







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=4841