الكتابة بالطباشير , جديد فاطمة ناعوت
التاريخ: الجمعة 29 كانون الأول 2006
الموضوع: القسم الثقافي



 "الكتابة بالطباشير، في الفنِّ والأدب"  هو عنوان أحدث إصدارات الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت. صدر مؤخرًا عن دار "شرقيات" للنشر والتوزيع بالقاهرة. قدّم للكتاب المفكر المصري الكبير محمود أمين العالم في مقدمة نقدية اضافية بعنوان "تحذير ومقاربة". حذّر فيه القارئَ من تصديق عنوانه الذي يوحي بأنه كتابة طباشيرية عابرة، إذ أنها مقالاتٌ عميقة كتبتها مؤلفتها بوعي وعلم ودراية فسبرت أغوار الموضوعات التي تناولتها عبره حول التشكيل والعمارة، وهو تخصص الشاعرة، والترجمة واللغة وحرية التعبير وحرية المرأة ومفهوم المواطنَة والنسوية والحجاب وغيرها من الموضوعات الإشكالية. 


في صفحة الإهداء كتبت المؤلفة: "إلى الشِّعر، الذي سمحَ بكتابة هذا الطباشير، على هامشه".  وظهر على الغلاف الخلفي الذي صممه الفنان التشكيليّ المصري وليد فكري مقتطفٌ من مقدمة العالم يقول فيه: "والحق أن قراءتي لفصول هذا الكتاب كانت لحظةً معرفيّةً حضاريّةً متنامية، تجمعُ بين تراثِ الماضي الإنسانيّ بعامة، وأزمةِ الحاضر وجسارةِ استشرافِ المستقبل. فلقد وجدتني في حضرةِ كاتبةٍ على مستوى رفيعٍ من الامتلاك العميق الحيّ لثقافتنا العربية، لا من حيث لغتها رفيعة المستوى فحسب- وهذا أمر ندُرَ عند العديد من كتابنا- بل في تراثِها الإبداعيّ الفكريّ والأدبيّ والبلاغيّ كذلك، فضلا عن معرفتها وتمثّلها الجوانب المهمة من التراث الثقافي الإنسانيّ الغربي والشرقيّ على السواء."  ويذكر أن لفاطمة ناعوت ديوانًا تحت الطبع بعنوان "قارورة صمغ" يصدر قريبا عن دار "ميريت" بالقاهرة.

مقدمة كتاب: الكتابة بالطباشير)

تحذيرٌ ومقاربة
بقلم: محمود أمين العالم

أيها القارئ العزيز، حذار أن تصدِّقَ عنوان هذا الكتاب!  فكتابته لم تتم وتتحق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشير!  فهي ليست بالكتابة السَّطحية التي يمكن أن تُمسحَ أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحق، وفي غير مغالاة، كتابةٌ بالحفر العميق في حقائقَ وظواهرِ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثية والمعاصرة عامة، التي تظلُّ تتابعنا وتلاحقنا بعد قراءتها. ولهذا أرجو أن تتأهَّبَ في قراءتك لعمليتيْ هدمٍ وبناء- معرفيًّا وموقفًا في وقت واحد- حول العديد من همومنا الثقافية والحياتيّة السائدة والمهيمنة.
والحق أن قراءتي لفصول هذا الكتاب، على تنوّعها ووحدتها معًا، كانت لحظةً معرفيّةً حضاريّةً متنامية، تجمعُ بين تراثِ الماضي الإنسانيّ بعامة، وليس القوميَّ فحسب، وأزمةِ الحاضر وجسارةِ استشرافِ المستقبل. فلقد وجدتني في حضرةِ كاتبةٍ على مستوى رفيعٍ من الامتلاك العميق الحيّ لثقافتنا العربية، لا من حيث لغتها رفيعة المستوى فحسب- وهذا أمر ندُرَ عند العديد من كتابنا- بل في تراثِها الإبداعيّ الفكريّ والأدبيّ والبلاغيّ كذلك، فضلا عن معرفتها وتمثّلها الجوانب المهمة من التراث الثقافي الإنسانيّ الغربي والشرقيّ على السواء، وبخاصةٍ في توجهاته وخبراته المتمردة والمتجاوزة للمفاهيم السُّلطويّة والأحاديّة والمركزيّة والإطلاقيّة  والغائيّة المفروضة. واستطاعت الكاتبةُ باقتدار أن توحّد في هذا بين أحدث الخبرات الإبداعية في مجال التعبير الأدبيّ من ناحية ومجال فنِّ المعمار الهندسيّ- وهو واحدٌ من تخصّصاتِها- من ناحية أخرى. هذا الفنُّ الذي كان طليعةَ الاتجاه ما بعد الحداثيّ وملهمَه في الفنِّ والأدب على السواء، هذا فضلا عن استبصارها الحميم بالتداخل بين العِلْم من ناحية والفنِّ والأدب من ناحية أخرى. إنها بحق محاولة جادّةٌ عميقة تكشف ما بين مختلف المنجزات والحقائق الإبداعية من تواصلٍ وتفاعل خلاّق. ولهذا تقول الشاعرة والمعمارية "فاطمة ناعوت" في فصل بديع من فصول كتابها هذا بعنوان "العمارةُ والشعر": " حين قرأتُ حواراتِ أفلاطونَ الأربعة لأول مرة، اندهشتُ كثيرا لأنني لاحظت أن آليةَ الحوار وتسلسَله خطوةً خطوة، وصولا إلى النتائج والنظريّات، تتطابق مع آليةِ تحقيق نظرياتِ الهندسة الفراغية ونظريات الجبر والمنطق الرياضيّ". على أن هذه الرؤية الكاشفة الحميمة بين مختلف المنجزات العلميّة والفنيّة والأدبية التي تتميّز بها هذه الكاتبة لا تقف في كتابِها هذا عند حدود العلاقة بين الحوار الأفلاطونيّ والنظرية الهندسيّة، وإنما نتبيّنها كذلك منهجًا عامًا في طرائق تناول العديد من القضايا وبخاصة معالجتها البالغة الخصوبة لقضيّة الترجمة في مقال "مرآة ابن رشد" على سبيل المثال. فالترجمة عندها ليست مجردَ نقلِ المخطوطاتِ والكتب من لغةٍ إلى لغة بل هي "العملُ على احتلالِ درجةٍ أرقى من درجاتِ العبور والاختراق كي تلجَ وتنهلَ من "الجوهر العميق" لروح حضارة أو فكر ما."، وتقول أيضًا: " وبإجراء قراءة سريعة للتاريخ، سوف نجد ارتباطًا، يكاد يكون شرطيًا، بين ازدهار  وُرقّي مجتمع وبين انتعاش حركة الترجمة فيه وتكريس مبدأ الاتصال الثقافي مع الحضارات الأخرى. ولنا في واقعنا العربي خير مثال. لم تنتعش الحضارة والفكر الإسلاميان مثلما حدث في عصر المأمون (813-833م)، الذي جاهر باعتناق فكر المعتزلة بما ينطوي عليه من إعمال "العقل"، عوضًا عن "النقل" السلفيّ الجامد الأعمى، وإزكاء شعلة التنوير بين أرجاء الأمة".
وإذا انتقلنا من هذه القضية العامة أي قضية الترجمة، سنتبين نفس المنهج الكاشف عن العلاقات والتفاعلات على طول هذا الكتاب- على تنوّع موضوعاته- في قضيّة جزئيّة هي قضية "النحو والصرف" في اللغة العربية. ففي مقال "ما وراء سقوط سيبويه"، التي شاركت به الكاتبة مشاركةً إيجابية في الندوة حول كتاب شريف الشوباشي "لتحيا اللغة العربية، يسقط سيبويه"، تعرضُ فاطمة ناعوت لقضية النحو عرضًا نتبيّن فيه نفس هذا المنهج الحريص على كشف العلاقات والتفاعلات بين عناصر القول وأبنيته، فتقول: " من الدلائل الأخرى على عبقرية الموسيقى في علم النحو مادة "الممنوع من الصرف"، ليس فقط في الاختيار المدهش للكلمات التي يجب ألا تُصرف لدواعٍ موسيقية مثل (مساجد- كنائس – مصر- مكة - سجاجيد.... الخ)، لكن الأجمل هو علامة (جر) تلك الكلمات وهي (الفتحة) عكس ما هو سائد في اللغة وهي (الكسرة) كعلامة للجر". على أنها تنتهي بحكمٍ عام وهو أن أزمةَ الخطاب اللغويّ العربيّ مرتبطةٌ بتدني المستوى الثقافي للفرد العربي في الزمن الراهن.
غير أن الكتاب لا يقف عند الأحكام العامة، وإنما يحرص كذلك على تقديم الأدلة التطبيقية لإثبات مفاهيم بعينها في بعض القضايا الإشكالية وخاصة قضيّة الترجمة، بل قضية الفهم عامةً، وما تتعرّض له اللغة تاريخيًّا وجغرافيًّا من تحوّلات وتحوّرات. ولهذا كما تقول فإن " اللغةَ تحوّرُ نفسَها وتعيدُ خلقَ ذاتِها بشكل مستمرٍ ببطءٍ حينًا، كما تراكم الغبار فوق سطح مصقول، وبسرعة في حين آخر، كما فتوحات البلاد، (....)،.  ففي اللغة العربية كمثال فقدت المجازات والكنايات القديمة دلالاتها ففقدت شرعيتَها بل ومعناها." ولهذا  "فالقارئ لعمل أدبي مترجم يجب أن ينتبه أنه لا يقرأ الأصلَ عينَه بل يقرؤه عبر حواجزَ أفقيةٍ (جغرافية) وكذا رأسية (زمنية). ولكن إلى أي درجة من الدقة ومطابقة الأصل صيغَ هذا العمل؟ هذا سؤال على جانبٍ من التعقيد كبير حيث الفيصل غائب.  ولكنني كقارئة لا أتوقف طويلا عند هذا السؤال حين أجدُ تباينات في طرح العمل نفسه عبر ترجمات عديدة له."  وهنا تتدخل فاطمة ناعوت "كقارئة" لكن بجسارة "الكاتبة" فتقول بصراحة محبّبة: "بل إن هذا الأمر قد يبهجني قليلاً ويثير مكامنَ المكر في داخلي فأوسّع مساحة الاجتهاد لأطرحَ– ذهنياً- ترجمةً مغايرةً قد يكون المبدعُ بريئاً منها!". ولهذا تسارع بتقديم مثالٍ يبرهن عمليًّا على أن الترجمة- كما تقول- فعل تحوّل أفقيٍّ ورأسيٍّ بأن تختار مشهدًا مشهورًا من الأدب الكلاسيكيّ القديم، وهو اللقاء الشهير الذي تم بين هكتور  وزوجته في الكتاب السادس من إلياذة هوميروس، في ترجمات عديدة له من الإغريقية القديمة للإنجليزية بلغت إحدى عشر ترجمة مختلفة بين الشعر والنثر عبر مترجمين كبار من بلدان شتى، ثم تقوم بترجمتها جميعًا من الإنجليزية إلى العربية، لتؤكد ما تقول به من أن طبيعة فعل الترجمة هو فعل إبداع يخضع للفروقات والتباينات أفقيًّا ورأسيًّا. ولهذا أخذت تتكشّف تلك التباينات بين الأصل الإغريقي ومختلف الترجمات الإنجليزية فيما يؤكد ما ذهبت إليه الكاتبة.  وهو جهد رفيع المستوى وعميق الدلالة قامت به الشاعرة والمترجمة فاطمة ناعوت دعمًا لتأكيد- كما تقول- "معنى التباين الأفقي الجغرافي بين منظومات اللغات المختلفة من ناحية وأيضًا التباينات الرأسية الزمنية التي فيها تتغير طرائق الخطاب وتتحوّر اللغة ذاتها عبر العصور."
على أنه من أبرز قضايا هذا الكتاب الخصب، قضية الشعر الجديد أو ما يسمى قصيدة النثر التي تدافع عنها ناعوت لا باعتبارها شاعرة فحسب، وإنما أيضًا من زاوية تجدد الخبرات الإنسانية تحرّرًا من القيود التقليدية، واعترافًا بالتنوع والتجدد في الفكر والسياسة والاجتماع والفنون على السواء.
وهكذا تخرج بنا في النهاية من قضية حريّة التعبير الأدبيّ والفنيّ إلى حريّة التعبير الفكريّ عامةً، وذلك بمناسبة اعتقال الشاعر السعودي "علي الدوميني" لمجرد أنه تجرأ ووقّع على وثيقةٍ تطالبُ السلطاتِ السعودية بإجراء إصلاحاتٍ ديمقراطية داخل البلاد وإطلاق حرية الإبداع الأدبيّ تجديدًا للحياة ذاتها!
ولهذا يكاد ينتهي هذا الكتاب العميق المسئول الممتع بلقاءٍ حميم بين "الشعر والحرب"! فتقول: " أليس الشعرُ حربًا على تقليدية اللغة؟ والصورةُ الشعرية الميتافيزيقية أو الفانتازية حربًا على المنطق؟ ألا يُعدُّ المجازُ والاستعارات والتقنيات الشعرية مثل تراسل الحواس والسوريالية واللازمنية وغيرها من الأدوات والتيمات التي دَرجَ على استخدامها الشعراء لونًا من الجموح والانقضاض على الواقع والصراع ضد المألوف؟  بل أليس الشعرُ ذاتُه محاولةً لهدم العالم وإعادة بنائه؟ (...) إن الفنَّ بشكلٍ عام هو حربٌ ضدُّ العادة. فالاعتياد هو كعبُ أخيلِ الفرح، وأولى الخطوات نحو الموت." وهكذا يكون الشعر وهكذا يكون الفنُّ بعامة كسرًا للمنطق وحربًا ضدَّ المألوف، كما يقول هذا الكتاب.
 فهل انتهى الكتاب بهذه الكلمات والرؤى العامة؟ لا. فما أكثر الكنوز الفكرية الأخرى التي يمتلئ بها هذا الكتاب الزاخر بالأفكار والقيم والمعارك دفاعًا عن الحياة والحرية والإبداع والتقدم المعرفيّ والإنسانيّ إلى غير حد.
هذا كتابٌ يُعدُّ إضافةً عميقةً وجادةً ملهمَة إلى تراثنا النقديّ العربيّ المعاصر وتستحقُّ عليه الشاعرةُ والناقدة فاطمة ناعوت كل تقدير واعتزاز.
محمود أمين العالم




اصدارات الكاتبة فاطمة ناعوت






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=464