عشيّة انتفاضة اللاذقية، الأولى
التاريخ: الجمعة 25 ايار 2012
الموضوع: القسم الثقافي



دلور ميقري

كان اتفاقاً بَحتاً، ولا رَيْب، أن يتوافقَ ذهابي في اجازة، طويلةٍ نوعاً، مع عودة ضابط أمن لواءنا من دورة اختصاصٍ أكثر طولاً. هذا الضابط، كنتُ حينئذٍ على جهل مؤكّد بشخصه، طالما أن فرزي لخدمة لواء الدفاع الجوي، الكائن مقرّه في اللاذقية، قد صادَفَ أيضاً غيابه في تلك الدورة، المُقيمة بمدينة حمص. إلا أنّ اسمَ الرّجل، بالمُقابل، كان له صدىً مَرهوبٌ، وربما مَشنوعٌ، عندَ كلّ من تعرّفتُ عليه ثمّة.


من جهة أخرى، ينبغي عليّ التنويه بأنني حينما سلّمتُ أوراقَ اعتمادي لرئيس الديوان، حالَ وصولي للمقرّ، فلم أسْلُ سانحَة غفلةٍ منه، لكي أدسّ ورقة مطويّة بعناية في يَد حاجب قائد اللواء. هذا الشابّ، المُماثل لي عُمْراً، كنتُ قد تعرّفتُ عليه للتوّ في الندوة التي كان يشيع فيها زمهريرُ بداية مَرْبَعانية الشتاء. وبما أن الحاجبَ هوَ أصلاً من صالحية الشام، ومن آل " الكردي " بالأخصّ، فلا غرو أن تتصلَ أسبابُ صداقتنا مذ لحظة اللقاء الأول.
" سيستدعيكَ العقيدُ، وحالما يَفرغ من أحد ضيوفه "، قال لي الحاجبُ بمودّة ما أن أضحَيْنا لوَحدنا في المَكتب. ثمّ تابعَ كلامه، ليستفهم مني هذه المرة بفضول عن مدى مَعرفتي بصاحب الرسالة. عندئذٍ، أخبرته بأنّ الرّجلَ هو قريبُ امرأة عمّي، الصالحانية؛ وأنه فوق ذلك، من نفس دورة قائد اللواء. ولم أدرِ، حقاً، سبباً للابتسامة الغامضة، التي تألقتْ من ثمّ على ثغر الشابّ، المُزيّن بشاربٍ دقيق، أنيق. إنه، في آخر الأمر، وَصيفُ الشخص الأعلى رتبة ً، ومَقاماً.
***
قرابَة أسبوع، كان قد مَضى على عودتي من الإجازة، عندما رأيتني أردّ على مكالمة هاتفيّة من لدن شخص ما يتكلّم لهجة ريف المحافظة: " أأنتَ فلان، الذي يُنظم نوباتِ الحَرَس..؟ "، سألني المُتصل بنبرَة قويّة وهادئة في آن. ثمّ ما لبث أن طلبَ مني، بجِرْس أرَق، أن أعفي أحد المجندين من نوبة منتصف الليل. هذا المجند، المَعنيّ، بما أن مهنته خياط، فقد ألتُبسَ عليّ بطبيعة الحال مَعرفة رتبة من يَتوسَّط له. فقدّرتُ أنه، على الأكثر، ضابط من قسم الشؤون الادارية. فما كان مني إلا رفض الطلب، وبما يُشبه التحدّي. صمَتَ المُتصلُ لبرهة، وكأنما صُدِمَ، ثمّ ما عتمَ أن طلبَ مني موافاته في الحال إلى مكتبه. إذ ذاك، مُواظباً على لهجة عَدَم الاكتراث، استفهمتُ عن شخص سيادته. أجابني باقتضاب: " أنا الرائد.. ". كان المتصلُ، لسوء الفأل، ضابط أمن اللواء ما غيره.
قلنا، في بدء الحديث، أنّ هذا الضابط على صيتٍ غير طيّب في مقرّ اللواء. ومن المهمّ الاشارة، إلى أنّ وظيفة الرّجل، الرسميّة، هيَ رئيس قسم المدفعية. ولكن لا أحد (ولا حتى " نعمان "، الحاجب المسكين في قسم التعيينات، المتخلّف عقلياً)، كان من المُمكن أن يَجهل بأنّ " الرائد.. " هوَ ضابط أمن اللواء. بصفة وظيفته الأولى، الرسميّة، قامَ الرائدُ ذات يوم بصفع أحد الضباط قدّام عناصر سرّيته: هذا الأخير (وهوَ دمشقيّ برتبة ملازم أول)، كان يومئذٍ يُحاول تبرير سبب عدم جاهزية السريّة، حينما ثارَ رئيسُهُ فجأة وضرَبه.
***
" خيرٌ لي، بدَوْري، أن أتوسّط العقيدَ في هذه الوَرطة "، رحتُ أحدّث نفسي فيما كنتُ أمضي للقاء حاجب قائد اللواء. ولكن، يا للصدفة السعيدة.. فها هوَ حاجبُ ضابط الأمن يَخرج تواً من الندوة وبيده طبقٌ تتراصَف فوقه أقداحُ الشاي. هذا الشاب اللطيف، البشوش السحنة، كان من " داريا " في ريف دمشق. فما أن عَلِمَ كنه حيرتي، حتى خاطبني بنبرَة فكِهَة، مُطمْئِنة: " ولا يهمّك. فقط انتظر هنا، للحظة. سأكلّمُ معلّمي حالاً بشأنك ". وكنا في تلك الهنيهة قد تناهينا إلى باب مكتب المعلّم، المَرْهوب الجانب.
" ها، دلووور.. "، هتفَ الرائدُ ماطاً اسمي بلهجةٍ تتبطنُ المَرَحَ؛ لهجة، ما كان لها إلا أن تدهشني. مَعرفته تهجئة اسمي (الذي كان يُلفظ بصيغة " دِلّو " من لدن الآخرين)، لم تفاجئني. فهوَ ضابط أمن، على أيّ حال. بيْدَ أنّ ذلك الاحتفاء، المُظهِّر عبارة استقباله لي لأول مرة، لم يُخفف من وساوسي. لقد فكّرتُ عندئذٍ قلِقاً بما يُمكن أن يكون بين يديه من ملفات، أمنية، تخصّ أولئك المُشتبَه في تعاطيهم أمور السياسة خلال الخدمة العسكرية: ثمّة، في مطار المزة الحربيّ، وحينما كنتُ تلميذاً في دورة صف ضباط، سبق لي واستدعيتُ إلى مكتب ضابط أمن الوحدة. إذ كنتُ أثيرُ أحياناً بعضَ المُجادلات، داخل الدروس وخارجها على السواء، بشأن التدخل السوري في لبنان ضد الحركة الوطنية، اليسارية. المَخاوفُ، المُعتملة في داخلي خلال مقابلتي ضابط أمن اللواء، تبيّن أنها ليس لها أساس في ذلك اليوم. إلا أنني، ولا رَيْب، جاز لي استعادة تلك المقابلة بعد مضيّ عام واحدٍ، على الأقل.
***
علاوة على كون مكتب سريّة المَقر، الذي أعمل فيه، يُنظم شئون الحراسة والدوام، فإنه كذلك كان يضمّ مخازن الامداد والمهمات والأسلحة. وكنتُ مسئولاً عن مَخزن الأسلحة، بإشراف طبعاً من رئيس ديوان مكتبنا. هذا المُساعد الأول، المُناهز الحلقة الخامسة من العمر، كان من آل " دنورة "؛ الأسرَة السنية، الوَجيهة، التي كانت تتملّكُ في زمن سابق معظمَ أراضي بسنادا وسنجوان وغيرهما من القرى العلوية.
" انظر في هذا الأمر.. إنه يعنيكَ "، قالَ لي المساعدُ وهوَ يتفرّس فيّ بعينيه الزرقاوين. ذلك، كان أمراً من وزير الدفاع، مُسجّلاً عليه " سريّ للغاية "، ومُوّجهاً لضباط أمن جميع وحدات المناطق الساحلية: " بالنظر للأحداث الجارية على حدودنا الشمالية، فيجب أن يُراعى خلال تعيين خازني الأسلحة ألا يكونوا من العناصر الشعوبية الخ الخ ". وبما أنني، آنئذٍ، كنتُ على اطلاع دائبٍ على الأخبار؛ فقد أدركتُ ولا شك بأن المَقصودَ هوَ تنامي الحركة الكردية في تركية، الكائنة أراضيها على تماس مُباشر مع محافظة اللاذقية.
تركتُ إذن على الفور مكتبَ سريّة المقر، وتمّ نقلي لاحقاً إلى المكتب المالي. قبل ذلك، عليّ كان أن أسلّمَ مَخزن الأسلحة إلى من سَيَخلفني فيه. فما لبث أن طالعني شخصٌ فارع الطول، ذو وَجه يحتلّ جلّ مساحته شدقٌ واسعٌ، مُريع. هذا، كان مُتطوعاً برتبة رقيب؛ يَنحدر من احدى القرى العلوية في المحافظة. لا أدري، ربما كان قد اطلعَ، بطريقةٍ ما، على مُحتوى ذلك الأمر، السريّ للغاية. فهوَ شاءَ أن يُنكّدَ عليّ، بتصميم وإصرار، عملية التسليم والاستلام: " سأحاسبكَ، والله، على كلّ طلقة؛ كل طلقة.. "، كذلك كان يُردّد بين الفينة والأخرى. أخيراً، تدخلَ مُعلّمي السابق، المُساعد الأول، فكفّ بلاءَ هذا الأخرق عني.
ما أن مَضى شهرٌ، أو نحوَه، حتى رأينا أفراد الشرطة العسكرية وهم يَخرجون مع صاحبنا ذاك، خازن الأسلحة الجديد، من مكتب الشئون الادارية. ثمّ ما لبثوا أن اصطحَبوهُ مَخفوراً في الطريق إلى السجن الحربيّ، الواقع في منطقة " القلعة " بقلب مدينة اللاذقية: في الليلة السابقة، كان هذا الرقيبُ المتطوّع يَحضرُ عرساً في قريته، وكان ثملاً لا يكفّ عن اطلاق الرصاص من مسدس عيار 9 ملم؛ الذي استلّه بخفة، على ما يبدو، من مَخزن سرية المَقرّ.
***
" كالو "، كان مُجنداً في مفرزة الانضباط، المُناط إليها خصوصاً تأمين الحراسة لمُعسكرنا في آناء الليل والنهار. إنه كرديّ، ايزيديّ، من احدى قرى منطقة " عفرين ". وكونه وَرَث مهنة فلاحة الأرض، أباً عن جدّ، فهوَ لم يَنل حظاً من التعليم. في مكتب سريّة المقر، أين كنتُ أخدم سابقاً، تصادفَ وجودُ رقيبٍ مجند من عفرين، وكان خازناً لمستودع المهمّات. في احدى المرات، حضرَ " كالو " إلى المكتب، لكي يَعرض أمام أنظار مواطنِهِ ما أحدَثه الزمن ببصطاره العسكريّ. فقاطعه الرقيب مُتأففاً: " مفهوم، مفهوم. ولكن، ليس لدينا أحذية جديدة، حالياً ". بُعيْدَ خروج المجند، التفتّ إلى الآخر أعاتبه: " حرام عليك، فهوَ ابن بلدك. كما أنّ المخزن، فوق ذلك، ذاخرٌ بالأحذية "
" ألم ترَ هيئته، الشبيهة بالمارد؛ فأيّ بصطار يُمكن أن يُحشرَ في قدمَيْه؟ "، أجابني وهوَ يَضحك. إثرَ اسبوعين، تقريباً، وحينما عادَ صاحبنا، المارد، لكي يُذكّر بلدياته بمَطلوبه، فإنه لم يلبث أن طردَ هذه المرة شرّ طردَة. " بي ناموس.. "، قالها المسكين هَمساً بالكردية، فيما كان يَخرج من المَكتب. من جهتي، وإن كنتُ وقتئذٍ قد تأثرتُ جداً، إلا أنني لم أجادل الرقيبَ العنيد.
" هل تعرف مجندَ الانضباط، المُسمّى كالو؟.. عليكَ باستدعائه حالاً "، خاطبتُ حاجبَ مكتبنا. هذا، كان من عَرَب منطقة " السخنة ". ولأنه مُتطبّعٌ بالنميمة والوشايَة، فقد كنتُ أحياناً على سوء تفاهم مع رئيس مكتبنا؛ المُساعد الطيّب. وعلى أيّ حال، فإنّ " كالو " حينما حضرَ أخيراً، فإنه ما عتمَ أن خرجَ من مخزن المهمّات وهوَ راض تماماً عن بصطاره الجديد، المُناسب لقدميه الجبارتين. وعلقَ الحاجبُ على ذلك في شيء من الضيق: " سَيَغضبُ حضرة الرقيب منك، حالما يَرجع من إجازته و... "
" فليخرَ على حاله، عندَ ذلك، وعليكَ أيضاً "، قاطعته بجفاء آمراً إياه من ثمّ أن يَغرُبَ عن ناظري. حاجبُ المَكتب هذا، كان مزهوّاً بلقبه " أبي شهاب ". بيْدَ أنني أشعتُ عليه اللقبَ، مُحوَّراً إلى " أبي كلاب "؛ مُستغلاً حقيقة نطق البدو للكاف شيناً مُشدّدة.
ما أن ينتهي الدوامَ، حتى تجدَ صاحبنا يَمكث في المعسكر، مُتأملاً بحَسَد زملاءه المجندين، المُستأجرين في المدينة، وهم يستقلون العربات العسكرية في طريقهم الى منازلهم. ذات مرة، صرخ به أحدهم، من بعيد، مُودِّعاً: " مع السلامة، أبا كلاب.. "
" حياك الله، حياك الله "، ردّ الحاجبُ على الفور باحتفاء دونما ان ينتبه، بطبيعة الحال، لمُنقلب حال لقبهِ، العتيد. عندئذٍ، كانت قافلة عربات المَبيت تتحركُ على وقع ضحكات المُجندين، الصاخبة والساخرة.
***
قبلَ نقلي من مكتب سريّة المقر بقليل، رأيتني في موقفٍ طاريء، لا يُحسَد عليه. ولكن، فلأقل منذ البدء، أن علاقتي مع ضباط معسكرنا كانت طبيعية بشكل عام. حتى جدّ ذلك الموقفُ، الذي نحن بصدده. ففي أحد الأيام، عَلِمتُ مع معلّمي المُساعد بأنّ دفعة من مسدسات " ماغاروف "، من عيار 8,5 ملم، هيَ في سبيلها إلى مخزننا. وربما لأنّ الغدّارات هذه، كانت أحدث ما انتجته مصانع السلاح الروسية، فإنّ أمراً من قائد اللواء حدّدَ رؤساءَ الأقسام ـ كمستفيدين وحيدين منها.
" أحضِرْ لي أحدَ المسدسات تلك، التي وَصَلتكم حديثاً، لكي أعاينهُ "، هتفَ فيّ رئيسُ مفرزة الانضباط بعنجهيّة. غيرَ أني، بدلاً عن الهروع إلى باب المخزن، المُترَّس بإحكام، إذا بي أمدّ يدي بتثاقل نحوَ درج مكتبي: " هاكَ.. إنه أمْرُ سيادة العقيد، الذي يُسمّي فيه الضباط المُستحقين.. "، قلتُ للملازم الأول في كثير من البرود. فما كان منه، مُحنقاً بشدّة، سوى القول: " ولكنني، يا هذا، أمرتكَ بجلب المسدس لا بالفذلكة ". إلا أنني بقيتُ مُصِراً على التمسّك بوجهة نظري. سويعة، إثرَ مُغادرة الملازم الأول، غاضباً خائباً، ورنّ جَرَسُ الهاتف: " يا عزيزي، أنا لستُ في حاجةٍ للمسدس الجديد. وإذن، في امكانكَ تحرير وَصْلٍ بصرفه لرئيس مفرزة الانضباط "، قال لي صوتُ رئيس قسم الشئون الادارية، اللطيفُ المُهذب. هذا الرائد، كانَ بالأساس ملازماً مُجنداً لدى استيلاء جماعة جديد ـ الأسد على السلطة عام 1966. ونظراً لعمليات التسريح، المُكثفة، التي شملت مراتب الضباط في تلك الآونة، فقد تمّ الاحتفاظ بالعديد من الملازمين المجندين، البعثيين ( العلويين، في حقيقة الأمر )؛ بصفة " ضباط احتياط ". هؤلاء الأخيرين، كان من المُفترض أن يتمّ تسريح الواحد منهم حالما يَبلغ رتبة رائد.
" لا يُمكن، سيّدي.. "، بدأتُ أقولُ للرائد. ولكنه لم يَدَعني أكمل كلامي، إذ قهقه مُتسائلاً بمَرَح: " ولماذا غير مُمكن؟.. "
" لأنّ سيادة الملازم الأول هوَ رئيس مفرزة، وليسَ رئيس قسم "
" إذن، أكتبُ لك تصريحاً بأنني أتنازلُ عن مُسدسي لرئيس مفرزة الانضباط..؟ "
" المعذرة، سيّدي. أريدُ من الملازم الأول أن يَجلب لي، أولاً، أمراً من قائد اللواء "، أجبتُ بوضوح وحَسم. عندئذٍ، تناهت ضحكة الرائد مع تعليق لا أثرَ فيه للمَوْجدة: " بحَضّي، أن رأسكَ هوَ مُنتجٌ كرديّ، فريدٌ من نوعه.. ها ها ها ".
***
على أنّ رئيس مفرزة الانضباط، كان ولا غرو في مزاج أقلّ رواء، حينما وَقعَ بصرُهُ عليّ في وقتٍ آخر. كان قد مضى حوالي العام، على انتقالي إلى القسم المالي، لما التقيتُ مع الرّجل في مًنتصف ذلك الدرب الترابيّ، المعشوشب، المُوصِل قسم المكاتب بقسم الشئون الفنية. فما كان من الملازم الأول، على حين فجأة، سوى مُخاطبتي مُعنفاً: " ما هذا؟.. لِمَ هندامَك ليسَ نظامياً؟ ".
يجبُ التنويه، بأنّ نائباً جديداً لقائد اللواء، حورانيّ الأصل، كان قد شدّد حالَ حضورهِ الاجتماع الصباحيّ، الأول، على ضرورة مراعاة الهندام العسكريّ. قالها، وهوَ يتطلعُ بنظرة استنكار إلى ملابس مراتب المُجندين، المُختلفة، وخصوصاً الحجاب، المُدللين. بالرغم من هذه الحقيقة، غير أني، بطبيعة الحال، كنتُ أدرك ما وراء الأكمَة : " أنتَ كنت تتشدّق بالأنظمة؛ وها أنا ذا الآن سأعاملكَ وفقها "، هكذا كان يُفكّر الملازمُ الأول، على الأرجح، ما دام ثأره لما يتحقق بعدُ. في هذه الحالة، لم يكُ غريباً مني أن أردّ عليه بنبرَة تحدّ: " انظر إلى هندام حاجبكَ، أولاً.. "
" يا لكَ من شخص، وقح؟.. قفْ باستعداد "، ردّ عليّ الملازم الأول وهوَ يكاد يَصرخ. دَهِشاً، تطلعتُ إليه مليّاً دونما أن تصدر مني حركة أو نأمة. ثمّ ما لبثتْ نحنحة دانيَة، خشنة، أن أيقظتني من حيرتي: ضابط الأمن، المخيفُ، كان قد ظهرَ للتوّ قادماً من جهة المكاتب. عادة ً، حينما يمرّ هذا الرائدُ من الدرب، فإنه يُضحي شبهَ مُقفر من السابلة. وإذن، شاءَ الملازمُ الأول أن يرفع صوته، طالما أنه لمَحَ ضابط الأمن عن بُعد. هذا الأخير، بدا من تصرّفه كما لو أنه كان قد سَمِعَ مُجادلتنا، القصيرة على أيّ حال. فما عتمَ أن أمرَني قائلاً باقتضاب: " اذهبْ إلى شغلكَ ".
ولكنني، من فرط الرهبَة، رأيتني دونما وعي أتابعُ طريقي إلى جهة الندوة. ثمّة، عليّ كان أن أتلقى دعوة مُعلّمي المُساعد، وعلى لسان الحاجب. فما أن لبيتُ طلبَهُ، ووَلجتُ المكتبَ، حتى هتفَ فيّ المساعدُ وقد اتسعتْ حدقتا عينيه انزعاجاً: " ما الأمر؟.. لقد هاتفني مساعد الديوان، قبل قليل، في شأن عقوبة ستة أيام سجن بحقك ".
" السّجن "، لم يكُ سوى حجرة مستودع، قديمة، كانت تتبع فيما مضى قسمَ المَنشرة. عندما توجهتُ إلى براكية مفرزة الانضباط، كان مُعلّمي قد سبق وتفاهمَ مع مُساعدها: " يا بني، أنت ستقضي الليل هناك في الحجز، ثمّ تعود صباحاً إلى مكتبك "، قالَ لي الرّجلُ الشديد السمرة بنبرَة أبوية. ثمة، إلى جانبه، كان يجلس الرقيبُ المجند، المُشرف فعلياً على السجن. إنه زميلٌ من دورةٍ أحدث، ينحدرُ من بلدة " جبلة "، وكان مسلكه يتسِمُ بالتحفظ والجدّية. على ذلك، فإنني دُهشت نوعاً لما خاطبني مساءً بتودد: " بامكانك قضاء السهرة، كما تشاء، في الندوة. وحينما تشعر بالنعاس، عُدْ إلى هنا "، قالها وهوَ يُشير إلى حجرة السجن. وبما أنّ " كالو "، كانَ هوَ العنصر الوحيد، الحاضر هناك، فإنني رَمقته بنظرة تفصحُ عن الامتنان. غير أنني، بمَشيئة المصادفة، لم أكمل أيام سجني، الستة: في غروب اليوم الثالث، حينما كنتُ أهمّ بالمسير إلى ناحية الندوة، إذا بدويّ الانفجارات يتواترُ صداه من جهة المدينة. أجل، كنت آنذاك على معرفة بمَصدر تلك المعمعة الطارئة؛ طالما أنه نما إلى علمي، منذ الصباح، خبرُ اغتيال رجل دين، بارز، من الطائفة العلوية، وما تبع ذلك من توجس وتوتر وبلبلة.   







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=3972