قناديل صلاح برواري المضيئة دائماً (الحلقة الرابعة والأخيرة)
التاريخ: الجمعة 17 كانون الأول 2010
الموضوع: القسم الثقافي



عبدالباقي حسيني

"اذكرونا مثل ذكرانا لكم رُبّ ذكرى قرّبَت من نزَحا
واذكروا صَبّاً إذا غنى بكم شربَ الدمع وعاف القدحا".
هذان البيتان للشاعر الفارسي مهيار الديلمي، عاشق العربية، وكان يرددهما صلاح برواري دائماً، لذا أتيت على ذكرهما هنا، لكي نتذكره معاً.
كما قلت سابقا، يحار المرء كيف يمكنه أن يسجل جميع مواقف وآراء الكاتب والصحافي والمترجم صلاح برواري، من خلال مجرد كتابة مقال أو مقالين عن سيرة حياته، فصفاته الحميدة والإيجابية التي تركها وراءه بعد رحيله المبكر، كثيرة، وأكثر من أن تحصى، وهو كان ذا صبغة إنسانية وثقافية عاليين. هنا سأسرد بعض المواقف والمحطات التي عشتها مع صديقي صلاح، وسأسجل في الوقت ذاته بعض انطباعاتي الشخصية عن رحيله و عن غربته.


اللغة والتركيز على المفردة. كان برواري متميزاً و مجدداً في اللغة الكردية بشكل مستمر. فقواميسه المتعددة والتي جمع مفرداتها لسنوات عديدة من عمره، ومن أماكن متعددة من مناطق كردستان، وكذلك دراساته ومتابعاته المستمرة لكتب المستشرقين الذين كتبوا عن الكرد ولغتهم، أكسبته ثقافة و معرفة عاليين في مجال اللغة و القواعد الكرديتين. فما من كلمة كردية سألت عنها أو عن معناها، إلا أجابك بإسهاب كبير عن مصدر الكلمة، ومعناها و مشتقاتها و مترادفاتها. في إحدى المرات سألته عن مصطلح " الملف الأدبي" باللغة الكردية، وكنت وقتها قررت أن أخصص جزءاً من مجلة زانين التي كنت أحررها، لملف عن ملحمة"مم و زين" لأحمدي خاني. وقلت له أيضاً: إنني وجدت كلمة " كويل" مقابل هذه الكلمة في المعجم الذي أهديتني إياه. (المعجم كان مخصصا للتربيةوالتعليم " به روه رده و زانست" معجم للمصطلحات العلمية). وقتها ضحك برواري كثيراً من كلمة "كويل" وقال: إن هذه الكلمة تعبر عن ملف المحرك للآليات، وليس عن الملف الأدبي. و استرسل في حديثه، وقال: إن المستشرقة الفرنسية جويس بلو في قاموسها الكردي – الفرنسي – الإنكليزي، قد أوجدت كلمة جميلة جداً لهذا المصطلح وهي (هف نفيس) أي الملف الأدبي الذي تعنيه. وفي مرة أخرى عندما طبع الراحل محمد جميل سيدا قاموسه "الحياة"، قاموس عربي – كردي. سهرنامعاً ليلة كاملة ونحن نتصفح هذا القاموس ونتمعن مفرداته، فجأة ضحك برواري ضحكته المعهودة، أحسست أن هناك خطأ لغوياً كبيراً في القاموس، فقال لي انظر لتسمية "اللوطي" عند جميل سيدا فقد سماه" قون برست"، وهي ليست كذلك بالكردية، إنه إبتدعها على طريقته. وفي مرةثالثة ذكر لي بأن أحد كتاب كردستان العراق قد راسله ويسأله: " هل صحيح أن أحد الكتاب الكرد السوريين قد أطلق على نفسه اسم ( كونا رش أي الثقب الأسود)؟". فأجابه برواري: لا وإنما اسمه ( كوني رش أي الخيمة السوداء). اعتذر هنا للصديق كوني رش على هذه الحكاية التي طالما كان يتفكه بها الراحل أبو آلان. صلاح برواري كان يعد العديد من القواميس الكردية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت لديه مسودة ل "قاموس الأسماء الكردية" و مسودة ل " قاموس لطيور كردستان" مصورة، وقاموس لأعلام الكرد"، وقاموس للمرأة الكردية، كنت قد جئت على سيرتها سابقاً. وفي مجال اللغة العربية، كان لديه خمسة قواميس لغوية، اشتغل عليها منذنحو ربع قرن، و كان أمله أن يتمكن من طبعها قريباً، وهي: (قاموس الدخيل والمُعرَّب في لغة العرب) و (قاموس الأخطاء الشائعة في اللغة العربية) و(قاموس الأخطاء اللغوية في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية- قاموس جيب) و (القاموس المُعين للأدباء والمثقفين- وهو يعتمد المصدر اللفظي للكلمة، على خلاف جل القواميس العربية التي تعتمد المصدر الاشتقاقي للكلمة) و (قاموس عربي- كردي). تحدث برواري عن هذه القواميس مطولاً لصحيفة العرب القطرية، عام 2008.
طموحات برواري المشروعة. كان برواري يطمح دائماً إلى إنشاء دار نشر باسمه، وذلك على غرار "دار الريس للطباعة". فقد كان يردد اسم " دار آرارات للثقافة الكردية". و يطمح أيضا أن يستقر في دولة أوربية مثل "هولندا"، لكي يعمل كمسؤول إعلامي لحزبه من جهة، ويتفرغ لكتاباته من جهة أخرى. ذكر برواري مؤخراً في إحدى مقابلاته أن له 50 مؤلفاً في مجالات عدة، من أدب شفاهي وأدب شعبي (فلكلور) ولغة وتاريخ وسياسة، و باللغتين الكردية والعربية.
أصدقاؤه المغيبون. على اعتباري كنت قريباً من الراحل برواري، فقد كان يعاني كثيراً من الأصدقاء الانتهازيين، الأصدقاء المرحليين الذين تعرف كل منا على أمثالهم. حيث كانوا يسعون إلى مآربهم من الرجل ثم يديرون ظهورهم، ولكم من شخص أعانه برواري وشق له طريق الكتابة والصحافة والحياة إلا أنه خذله .أتذكر في منتصف التسعينيات كنت في دمشق لأمر ما، هاتفني برواري وقال:إني تعب جداً، فأخذته إلى مشفى المواساة مباشرة، بعد التحاليل تبين أن لدية "الزائدة الدودية" ويجب استئصالها فوراً. بقيت إلى جانبه طوال فترة العملية، وبعدها أخبرت عائلته وأصدقاءه بالخبر. أتذكر وقتها عاتب برواري الأصدقاء الكثر الذين يعيشون في دمشق على عدم السؤال عن صحته. وهنا، بعد مماته أيضاً، أرى أن هناك الكثير من الأصدقاء الذين أعرفهم جيداً- وممن قدمهم في مجالات الصحافة والثقافة ويتكسبون من خلال وساطاته لهم، وكان لصلاح برواري الفضل الكبير عليهم، وعلى المجد الذي هم عليه الآن، لكن مع الأسف الشديد أراهم خرساً، لا ينطقون بكلمة جميلة ومن باب رد الجميل لصاحبهم صلاح برواري. وهو الذي دعمهم بكل ماعنده من علم و معرفة، وطبع كتبهم ومجلاتهم، و فتح باب الطباعة أمامهم على مصراعيه. مهما يكون الخلاف بينهم و الراحل برواري، إن الأخلاق الكردية و الإنسانية تفرض على المرء أن يكون متسامحاً مع الآخرين، وبخاصة بعد موتهم، ولكم كان موقف الكاتب سيامند إبراهيم( فك الله أسره) لافتاً عندما تجاوز معه كل خلاف أثناء مرضه وأظهر موقفاً إنسانياً ممتازاً. وعلى علمي وأنا صديقه منذ الثمانينات وحتى مغادرتي سوريا، لم أسمع أو أرى أن برواري ضايق أحداً أو عمل على إساءة أحد. كانت كتاباته في بعض الأحيان تحمل بعض النقد البناء، ربما كان يفهم عند الآخرين بشكل آخر. أتمنى هنا ونحن في محراب فقيدنا برواري أن يعيد أصدقاؤه- وخاصة الذين كان له الفضل عليهم في ظهورهم- مراجعة ضمائرهم، وأن يطلبوا المغفرة لروح صلاح برواري.
ضريح برواري الخالد. كم كنت أتمنى لو يدفن صلاح برواري في أرض كردستان، بجانب الشاعر كوران و الشاعر هيمن وصديقه الكاتب سامي شورش الذي وافته المنية قبل أيام من رحيل برواري. أو يدفن في مقبرة الشيخ خالد في ركن الدين حيث يرقد أمير الكرد مير جلادت بدرخان و زوجته روشن بدرخان العظمين، وقتها كان سيتذكره كل من يزور هاتين المقبرتين، ويضعوا على قبره أكاليل من الورد، لكي ترفرف روحه عالياً وتتجدد ذكراه. لكنه دفن في قرية "معراته" في منطقة عفرين، بناء على وصيته أو رغبة عائلته، فهذا أمر عائد إليهم مع كل الاحترام لهم. أجل لو كان الأمر بيدي، لنقلت ضريحه إلى مقبرة العظماء في باريس حيث يرقد خيرة الناس في هذه المعمورة.
الغربة، الموت. برواري عاش غريباً ومات غريباً، لكنه ترك بصمات كبيرة و إرثا ثقافيا غنيا للمكتبة الكردية، وباللغتين الكردية والعربية. وهنا تستحضرني الذاكرة عندما ترجم قصيدة " موت قمر" للشاعر شيركوه بيكس، عام 1998، حيث المقطع الأخير يقول: " ليلة أمس، سقط القمر في بحيرة دوكان، وقضى الماء كمداً، غرق حب أخضر، مات نغم أبيض، وتوقف قلب قصيدة نارنجية لي، ولم يدر أحد!". وكأن برواري بهذه الترجمة كان يحدثنا عن موته القريب.







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=3293