شعرية المكان في ديوان أدونيس الجديد فضاء لغبار الطلع
التاريخ: السبت 06 تشرين الثاني 2010
الموضوع: القسم الثقافي



 إبراهيم اليوسف

     ضمن سلسلة كتاب مجلة دبي الثقافية، صدر للشاعر أدونيس ديوان شعري جديد
بعنوان:" فضاء لغبار الطلع"  وهو الإصدار رقم 40، المرفق مع مجلة دبي
الثقافية عدد سبتمبر 2010 ، وفيه ثلاثة نصوص للشاعر، تمتد على مساحة 134 صفحة وبطباعة أنيقة، كان الشاعر قد نشرها في مجلة دبي  وهي : أسئلة لامرىء القيس من شرفة تطل على بحر العرب- جذر السوسن- غيوم تمطر حبراً صينياً ( زيارة إلى بيجنغ وشنغهاي).


     يواصل الشاعر أدونيس خلال ديوانه الجديد تجربته  المعروفة، في إطار الاشتغال على اللغة الجديدة التي دعا إليها – مع آخرين- في مجلة " شعر " اللبنانية في خمسينيات القرن  الماضي، ومنهم أنسي الحاج ويوسف الخال ومحمد الماغوط و شوقي أبي شقرا و آخرون، ومن خلال احتفائه بعنصر الدهشة، كبديل عن ضروب الشعرية التقليدية، التي كانت تنشأ عادة من خلال
الإيقاع الخارجي، واللغة المدوية، حيث يبحر أدونيس  مغامراً  في الاتجاه
المختلف، معتمداً-على عادته- الإيقاع الخافت،  واللغة المولدة، الجديدة، بوساطة
إيجاد اشتقاقات وعلاقات جديدة، كانت على الدوام قوام قصيدته، وهي أساطين و مداميك
تجربته الشعرية منذ أولى قصائده التجديدية.
إن قارىء ديوان الشاعر أدونيس الجديد، يلاحظ  تداخل  السرد بالشعر،  المذكرة اليومية  ببعض عناصر القص،  والتقرير، وإن كان رهانه على اللغةالتي يرفعها لتكون  جزءاً مهماً من هارموني النص، الذي يختزل سحره وسر جماليته، ولاسيما أثناء نهوضه بالصورة الشعرية على نحو لافت، يكاد لا  يتناص مع صورة أحد من شعراء الحداثة في العالم العربي، كي يسرد لنا نثراً موجزاً عن الأشخاص والأمكنة في  أسفاره التي يعيد صياغتها في إطارها الشعري.
    و إذا كانت القصيدة عند أدونيس تأخذ  أكثر من شكل، حيث يتداخل النص المفتوح،
بالومضة، بالبناء القصيدي، لينوع معمار نصوصه،  فإنه ليلجأ إلى الكثير من التقنيات التي تذكر باللقطة السينمائية،أو التشكيلية،  بل يمضي ليجمع العناوين الفرعية إلى جانب
الأرقام،  و  الشروحات  والهوامش،  كي يعطي كل ذلك تنويعاً في إيقاع
القصائد وجماليتها  وتقنيتها:
الفكرة العظيمة كمثل القصيدة العظيمة" حرب"
على عادات التفكير
على عادات اللغة
على عادات الكتابة
على عادات القراءة
ألهذا يسميها بعضهم" جريمة"؟.
إن الشاعر يدرك-تماماً- أن القصيدة لم تعد نتاجاً عفوياً،فحسب،  وإن كان اللاشعور، واستحضار الذاكرة ليندغمان مع الراهن، في إطار كسر الزمن،  من أجل خلق ديمومته، ولاسيما أنه سرعان ما يتماهى مع التاريخ، والنصب التذكارية، و طقوس الشاعر لوركا-على سبيل المثال- وهو في إطار رصد اللحظة المتدفقة التي يقود عنانها بحكمة ومهارة.

امرؤ القيس على عتبة الأسئلة :
 ويتضمن الديوان  مجموعة من النصوص الشعرية الجديدة للشاعر، دون أي فهرست في نهاية الديوان ، أو في بدايته،  كي  يعتمد-على عادته-  على  العناوين الثانوية ، ضمن النصوص، إلى جانب عناوينها الرئيسة،  وقد يستعين في نصوص كثيرة بالترقيم،  بديلاً عن مثل تلك العناوين .
يحاول الشاعر عبر قصيدته الأولى- أسئلة لامرىء القيس من شرفة تطل على بحر العرب - في ديوانه الجديد أن  يتقمص روح سلفه  امرىء القيس، ليطلق أسئلته من شرفة تطل على بحر العرب، مادام أن الشاعر هو"العابر المقيم"، وهو  ما جعله يصدر أولى قصائده بالسؤال: من قال" الشاعر لا يدخل السماء إلا محروساً بالجحيم؟، إلا أنه ينسب هذا القول إلى الشاعر طرفة بن العبد، حين يطرحه على أبجدية بحر العرب، "مموهاً" ما يرمي إليه –هنا- على وجه الدقة، وهو يتناول الموقف الإيديولوجي من الشعر.
   يقول الشاعر في قصيدة" أسئلة لامرىء القيس من شرفة تطل على بحر العرب":
      الجهات هنا هي الجهات كلها
      طيور مهاجرة. أبراج بوارج. كيف؟ لماذا؟ أنى؟ أين؟
 إذاً، هل تعانق الرمل أيها الماء، هل تعانق الماء أيها الرمل؟
 هل العابر هو وحده المقيم؟ هل الأبدي هو ، وحده، الفقير إلى
 الزائل؟
 الصحراء التي نامت فجأة في سرير العشب
 تنهض وترقص.
يطلق الشاعر العنان لعدسة  روحه وهي تلتقط صورة للمكان، بكل تفاصيله، حيث  نجد ثلاثة أمكنة رئيسة يتناولها الشاعر، بعدد النصوص نفسها، إلى جانب أمكنة أخرى،  يلحقها بأماكن أكبر، وأشسع، وكأنه يرى فيها امتداداَ شعرياً لها:
-الخليج العربي
-إقليم كردستان العراق
-الصين
أما الأماكن الفرعية- وإن كانت تستوقف الشاعر على نحو لافت- فهي الأخرى ، تظهر في النصوص الثلاثة- في آن واحد- من خلال استحضار التاريخ العربي،  وإعادة رسمه، ضمن اللوحة الجديدة،   إلا أنها تظهر على نحو أبرز في  قصيدة"  غيوم  تمطر حبراً صينياً" ،من خلال استذكار جسر شارل في براغ،  أو غرناطة وبيت الشاعر لوركا حين يقول:
تخيلت أنني أسأل لوركا:
هل أشفى إن قلت أعود إلى طفولتي؟
أو قلت:
بين ذراعي رمانة أنام
وفي سرير وردة أستيقظ
وهي  التقاطات  جد مدهشة، تضفي عالماً غرائبياً  على   مناخات  ديوانه الجديد، وهذه الأمكنة، لا يأتي تناولها اعتباطياً، أو عفو الخاطر، من خلال اكتشافاته لهذه الفضاءات ، أو متابعاته لها، في إطار غير هندسي، وغير جغرافي، بل فني محض، لأنه عبر هذه النصوص-تحديداً- بات معنياً بكتابة قصيدة المكان، في أعلى صورها، لما في هذه الأمكنة المتعددة من تنوع، حيث عالم البحر الذي طوعته إرادة الإنسان العربي في دولة الإمارات –بشكل خاص- والخليج العربي-بشكل عام،  وما في ذلك من ماء، ومفردات أخرى، من أبراج، ووجوه، وحياة تكاد تشبه قصيدة غارقة في أسطوريتها، يرصدها بروح منبهرة، متفاعلة مع هذه التفاصيل في كرنفالية عجيبة.
كما أن المكان الثاني الذي يقدمه لنا الشاعر- ويستغرق أحد النصوص الثلاثة الرئيسة " جذر السوسن-هو إقليم كردستان العراق، حيث الجبال الشاهقة –التي اتخذت أوتاداً- لتكون العلامة الفارقة لإنسان هذا المكان، وهو في خصوصيته التي طالما ذوبها في محبرة أخيه-شريك المكان- أية كانت لغته، ليكون بذلك أحد الذين ترجموا رؤيتهم، ولا يزال يعيشها، وإن كان لذلك ضريبة جد باهظة.
ويأتي المكان الثالث لنكون أمام الجهات كلها، وهي تستقطب الطيور المهاجرة، تغويها الأبراج ، ليطرح  السؤال على الماء، وهو يشكل بحره:
 إذاً، هل تعانق الرمل أيها الماء؟ هل تعانق الماء أيها الرمل؟ ليرى أن العابر هو وحده المقيم، والأبدي هو ذلك الفقير إلى الزائل؟،  لنجد أن الصحراء التي " نامت فجأة
في سرير العشب تنهض وترقص".
إن  الشاعر أدونيس يتبادل والمكان البطولة، من خلال إعادة رسم بنيته  وجمالياته، ولغته، ورموزه، وإيقاعاته النفسية، مادام الشاعر موجوداً على امتداد النص، ليقدمه السرد، إن حاولت الصورة الشعرية إقصاءه إلى حين، لنكون وجهاً لوجه أمام ألفة المكان المتناول،  منخرطين في  لعبة الانبهار به، وهو يفجر ينابيع الحنان في روح الشاعر.
  وإذا كان الشاعر قد استخدم تقنيات نثرية خالصة، فهو ما جعل الزمن نفسه يبدو- سواء أكان عبر العام 2009 زمن كتابة النصوص الثلاثة حتى وإن لم يصرح به  كما في نص رحلته مع امرىء القيس-  أو من خلال استحضار عامل الزمن في رونق اللحظة الماضية، و في إهاب أقرب إلى الأسطورة:
تجلس معي الدقائق في مقهى الفندق
كأنها خيول أضناها الترحل.
خيول نست حتى الحمحمة.
ولا ينسى الشاعر أدونيس أنسنة الجمادات، كامتداد للعبة شعرية المكان، بعكس طبيعة اللحظة المتناولة التي من شأنها أن تشيء ما حولها،  وهو ما يفتح أمام صورته آفاقاً هائلة، لتظل
مستمرة في  الحفاظ على طرواتها،  متماهية،في ذروة تأجج عنصر الإدهاش الذي يعني به الشاعر، منذ بواكير تجربته الشعرية، وحتى نصوصه الجديدة التي احتوتها دفتا هذا الديوان:
    أهناك حكمة واحدة لا تقدر المعرفة أن تبطلها"؟
    سألتني موجة في طريقها إلى أن تلتطم بشمس الشاطىء
إن الموجة هنا، تتمكن من الخروج من شرطها، لكي تتوجه إلى الشاعر
بالسؤال،  وهو يرسم صورة غارقة في الإدهاش،  عندما تساهم هذه الموجة في  الدخول في غمار أسئلة معرفية شائكة، محافظاًعلى  جماليتها،  وهو يتتبعها  لترتطم بشمس الشاطىء.
 ولعل  لعبة الإدهاش لدى أدونيس تأخذ  أبعادا ً أخرى، وهو يمارس بكثير من السريله رسم صوره الغرائبية،  حين "توضع رأس في أخرى، وتتماهى الذات في الآخر"، إلى درجة عدم إمكان التمييز يقول:
أضع رأسك في رأسي أيها الوقت وأفكر
 أنت الجذر لكنك الورقة الذابلة التي تشرف على السقوط أنت الأكثر علواً
  غير أنك تقيم في غور الأغوار
 أنت الصحو وليس في خطواتك وأهدابك إلا وحل يتحدر من عفونات كفلتها سماء السماوات في رأسك وأسأل: أينا الآخر؟.
كما أن الكواكب في-لغة القصيدة- تسهر، كأنها تترقب  الهول الذي سيضرب كلاً منها بيدي كل منها.
ولعل الشاعر يستمر في إطلاق أسئلته الوجودية ، وهو يكشف حقيقة استفحال الأذى الذي ينداح من حوله، كي يصيب المكان نفسه،  ليبلغ السؤال الوجودي أوجه يقول:
    كيف يشفى المكان والزمن هو نفسه داؤه؟
    سؤال أقسم بعضهم أمامي
  أنه يقدر أن يسمي السماء باسم آخر
     أما أنا، فأكثر ميلاً إلى الحياة
   في جوف سؤال آخر، يبدو كأنه
   ليس إلا حوتاً كونياً.
 كما وتأتي قصيدته " جذر السوسن" التي كتبها  إثر زيارته في ربيع 2009 إلى إقليم كردستان العراق،  والتي أثارت آنذاك عاصفة من النقد، بين مؤيد لما  جاء فيها، ومعارض،  وهو يصف هذا المكان بطبيعته المختلفة، وأناسه، ووجوه بسطائه،  كي يؤسطر كل ذلك في نص ذي تقنية عالية، وموقف من أحفاد صلاح الدين الذين  هم الأقرب إلى أخوتهم العرب،  وثمة ما يجمعهم عبر التاريخ، ولا يزال، ليستوقف الشاعر منظر مبنى- الأمن الأحمر-  في السليمانية، وماكان فيه من مفردات التعذيب الطارئة – زمن صدام حسين- و التي ستظل شاهداً على محطة مندثرة، أقلقت الشاعر بفجائعيتها المرة، وهول مجازرها الأليمة، يقول:
الكردي مبعثر في الآخر( أذلك انتصار أم انكسار؟) سواء كان التاريخ هو
الذي يبعثره، أو كانت القوميات والعصبيات والخرائط والسياسات.
 وانبهار الشاعر بالمكان ، يبلغ ذروته حين يورد بعض التفاصيل، كما تناوله لمقهى الشعب،  وصاحبه وصور الشعراء المعلقين من بابا طاهر الهمداني وحتى شيركو بيكس.
 وفي  بعض قصائد الشاعر يتجاور النص المفتوح مع المقطع الحكمي ، دون أن يتخلى عن التكثيف الهائل الذي يظل القاسم المشترك بين كل تلك النصوص قاطبة يقول:
منذ أخذ يعتزل الناس
بدأ يشعر أنه أكثر قرباً إليهم  وأعمق معرفة بهم.
لنجد حالة التصوف بلغت ذروتها، لأن اللغة النفرية تذهب بالصورة بعيداً،
مادام الشاعر يروم أن يكون على مقربة ممن هم حوله، ولاينسى أن يرصد بعض جزئيات روحه، على نحو مباشر في القصيدة، وهو في إهاب قصيدة اللامعنى نفسها، التي هي معنى في جوهرها يقول:
يهاجمه السفر في عقر دمه
 وتهاجمه العودة في عقر خطواته
إن الشاعر في مثل هذا المقطع،  تناول عبارة " عقر الدار" المعروفة،  بعد استبدال كلمة "الدار" مرة ب"الدم" وأخرى ب"الخطوات"، ليظل محافظاً  على عنصر الإدهاش الذي لا يتخلى عنه،  في مجمل تجربته، ويبلغ ذروته في هذا الديوان.
   إن ديوان" فضاء لغبار الطلع"  جاء ليسجل  أن الشعر الجديد لا يزال بخير، وأن أدونيس لا يزال قابضاً على وهج الشعر، لا يتخلى عنه، وإن كانت لغته الباذخة تكتب حضورها اللافت،  وأن اللامعنى  الذي تتمحور حوله قصيدة الشاعر، إنما ليعني لديه  تركيزاً على المعنى، واحتفاء به، ولكن على طريقة أدونيس المختلفة التي يغدو فيها المعنى جزءاً من شعرية النص الحداثي .
إن الشاعر أدونيس  يستفيد- بحق –في ديوانه هذا من الفنون الإبداعية، كافة، سواء أكانت قصة، أم  رواية، أم  مسرحاً، أم تشكيلاً، أم نثراً فنياً، لأنها تتجاور في بناء النص،  بما يشبه- الكولاج- كي نكون أمام  نص  شعري، توظف فيه عناصر الفنون الأخرى على نحو لافت، مادامت أصابع الشاعر تعرف كيف تصهر أدواته كاملة في مختبر النص ها هو يقول متنقلاً من السرد إلى  عتبة القصيدة:
وكان في لغتي ما يقول:
عميقاً  ينزل رعد التاريخ في جسد  المادة:
ا-كرسي السماءلايسع حتى حصاة يدحرجها طفل يبكي
ب- خيمة اللغة
سرب من الأجنحة

 






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=3233