مام علي
التاريخ: الثلاثاء 27 نيسان 2010
الموضوع: القسم الثقافي



د. آلان كيكاني

ما إن هدأت الرياحُ قليلاً وتفرقتْ الغيومُ عن سماءِ برايتون وتسربتْ من بين حواشيها المهدبةِ خيوطُ الشمس الواهنة وقت العصر لتسقط على شاطئ المانش باعثة فيه دفءً لذيذاً , حتى امتدت الأنامل إلى الأزرار تحلها  لتعرّي الأبدانَ الجالسة على رمل  الشاطئ والمتعطشة إلى النور والماء  ونظرات من عيون جائعة , فبودلت القبلات وأطبقت الشفاه على الشفاه بين الأحبة وتعالت صيحات الفرح وضجيج ارتطام الأجسام بسطح الماء  محدثة صخباً جعل جليسي مام علي يتوقف عن حديثه إلي ينتظر لحظة هدوء يستأنف فيها حديثه , إلا أنه لم يعد إليه حين آبت السكينةُ وإنما استقرت عيناه الحمراوان من فرط السهر والتدخين على امرأة قذفت بجسمها الأبيض البض العاري  في الماء على مسافة عشرة أذرع  منا أو أقل .


 لم يشف غليل تلك السيدة الإنكليزية الجميلة أن عرّت جسمها فيما عدا  صدرها وعانتها بل قامت بفك حمالة ثدييها مستعينة بذي شارب كثيف يرافقها وإلقائها على رمل الشاطئ لتكشف عن نهديها الكبيرين الأبيضين المتشربين باحمرار لطيف , والمكورين المنتهيين بحلمتين ناتئتين كل منهما بطول نصف إصبع من أصابع مام علي الطويلة . نهدان يطفوان على الماء تارة ويغوصان أخرى تبعا لورود الموج في حركة متموجة مغرية لا يلوم عاقلٌ المامَ علياً  ذا الذوائب البيضاء والأسارير المجعدة من فعل ما خاض من الحروب ولقي من المصائب والويلات  على التمعن إليهما بحرقة وشوق .

قلت معلقاً ومهرجاً :
سأوشي لأم قهرمان بنظراتك هذه يا مام علي .
إلا أنه لم يعر لدعابتي إهتماما ولم يحد ببصره عن صدر المرأة  وإنما قال مبتسماً :
آه . أينك يا أحمد زورو لترتطم هذه الكرات البيضاء الطرية بشفاهك ؟
أينك أيها المسكين الجائع ليضرب هذا اللحم الطازج فمك وأسنانك ؟
ثم بعد قهقهة طويلة ضرب كفاً بكف وتابع قائلاً :
هذا مسبح وذاك كان مسبحا ! سبحان الله إنه يخلق من الفوارق ما يشاء !!
على أن قهقهته المدوية انتهت بذبول رطب في عينيه وبتجهم جلي على وجهه استشففت منهما أن ثمة المزيد من ذكريات مؤلمة في مخيلة مام علي لم يقصصها علي ّ بعد , رغم مصاحبتي اليومية إياه , ذكريات تعتصر قلبه ألما وصديدا وعيونه حزناً ودموعاً .
معس المام عقب سيكارته الملفوفة يدوياً في رمل الشاطئ ومد يده إلى خصره استجابة لنداء هاتفه اليدوي ليتلقى اتصالا من زوجته حليمة , أم قهرمان , المنهكة منذ الصباح بترتيب البيت وإعداد الحلوى والمقبلات , تدعونا إلى الحضور للاحتفال بيوم ميلاد قهرمان الحادي عشر .
عند باب شقة عائلة مام علي المطلة على حديقة جميلة في ضاحية من ضواحي برايتون استقبلتنا أم قهرمان بحفاوة ترفل في فستانها المنمنم بخرز ناعم والمطرز بزهور بديعة البتلات احتفاءً بيوم وحيدها وقادتنا إلى غرفة الجلوس المزينة بإتقان بفقاعات وأضواء خافقة وشموع ملونة بألوان زاهية هي قرة عين الكردي . وفي وسط الغرفة نصبت حليمة منضدة وضعت عليها طبقاً كبيرا من الكيك صنعته بيدها وأحاطته بكؤوس ملأى بالشراب وبأطباق فيها فاكهة وحلوى , أطفأنا الشموع ثم ازدرنا ما تيسر من الأطباق نمتّع السمع بأنغام عراقية شجية تتخللها طرائف المام علي التي لا تنضب . ثم قمنا , الأربعة , نتوجه إلى  مدينة ملاه إلكترونية طافية على البحر تلبية لرغبة من قهرمان , الفتى النحيف ذي الشعر الخرنوبي الطليق والوجه الأشقر المنمش بنثار بني والحركة الصبيانية المفرطة حد إبكاء أمه .
 وسط ضجيج يصدع له الرأس ركب قهرمان سيارة إلكترونية سارت به بسرعة هائلة على سكة حديدية تلتوي يمينا ويساراً ثم صعودا ونزولا  بطريقة تكاد تلفظ الراكب خارجاً لتطرحه في البحر . هالني الموقف كثيرا ًوفظعت به دون أبويه اللذين لم تتحرك لهما قيد شعرة خوفاً على ابنهما الوحيد . لاحظ المامُ القلقَ الذي انتابني وأنا أتعقب بعيني سيارة قهرمان المنطلقة بصورة مرعبة وكأنني أتهيأ لتلقفه إن هو سقط منها , فمط عنقه حتى كان فمه لصق أذني وقال يهدئ من روعي :
لا تخف , لا تخف , لا يموت قهرمان !
 ثم سحبني من يدي يريد إبعادي عن الضوضاء والجلوس إلي على الشاطئ ليحدثني على انفراد في سكينة , تاركاً حليمة في مراقبة ابنها وسط معمعة رواد الملهى .
تربع المام على رمل الشاطئ , وتربعت , ثم لف سيكارة من كيس تبغه وأشعلها وبدأ حديثه الذي بدا مكملا لجملته التي قالها في أذني قبل قليل حيث قال :
نعم يا صديقي , لا يموت قهرمان !
فقد سميته قهرمان لأنه قهر الموت وهزمه في معركة الموت والحياة حين سقط من أمه في واد سحيق يفصل بين جبلين شامخين عند الحدود العراقية التركية . حينها كنا نسير في سيل من البشر في تضريس وعر هربا من جحيم يتبعنا من فوهات المدافع وحمم الطائرات , ننشد عبور الحدود نبتغي الأمن والطمأنينة  , عزلاً لا سلاح لنا , ومشاة لا آلة نركبها ولا دابة نمتطيها , وجياعا لا رغيف يسد الرمق وعطاشاً لا ماء يبلل العروق . لم يكن وقتئذ قد مضى على زواجنا أكثر من ثمانية أشهر ولم يكن الحمل قد بان جلياً على حليمة إلا أنها في لحظة توقفت عن السير شاعرة بألم ماغص في أسفل بطنها , وما هي إلا لحظات حتى سقط منها قهرمان مع مشيمته , خديجاً بالكاد أكمل أشهرا سبعة في بطن أمه , صغير الحجم , لا نفس ولا صوت ولا حركة تدل على حياته .
توقف المام عن الحديث حين استلقى عاشقان إنكليزيان بالقرب منا على الرمل ملاصقي البطون والشفاه يمارسان القبل بآهات جهورية وقت العشاء , ثم شهق نفساً عميقاً من سيكارته  زافراً دخانها في الهواء واستأنف يقول دراكاً :
نعم , ولدت حليمة وهي واقفة  , كما الطير يبيض واقفا .  
وسقط منها قهرمان مثلما الثمرة تسقط من شجرتها .
ظلت واقفة صامتة تكتم أنفاسها منعا لخروج آهات الألم من فمها خجلا من رجال يسيرون مع السيل البشري .
هكذا تمارس نساؤنا عادة الحياء المتوارثة منذ قرون , تتألم  ولا تتكلم , تجوع ولا تأكل في حضور الرجال .
بعد أن وضعت حملها مشت خطوتين ثم التفتت إلى الوراء تحدج كومة اللحم التي خلفتها وراءها بنظرة مريبة , ثم ذرفت دمعتين وشهقت حسرة وألماً وقالت بصوت متهدج : دعه يا علي فلا أمل في قطعة اللحم الميتة هذه , دعه وسر بنا فعسانا ننجو بأرواحنا , دوي الأنفجارات يقترب , فقد يسقط علينا الغاز السام في أية لحظة .
إلا أن المشهد عزّ علي كثيراً وقلت :
سأحمله في كيس وأينما حط بنا الترحال سأدفنه شرعا ,  فإني والله ليس بتارك فلذة كبدي طعاما للجوارح والضباع ولو ميتاً .
وضعته عارياً في كيس خيش بال خلّفه بعض الرعاة هناك وحملته على كتفي أجرُّ حليمة من يدها ودم النفاس يسيل على فخذيها ويشرشر من قدميها وحواشي فستانها ثم يريق على الأرض راويا الجبال والوديان حتى اجتزنا الحدود قليلاً وتسرب شيء من الشعور بالأمان إلى نفوسنا .  وكان الإعياء قد بلغ مني مبلغاً حتى أن قدميَّ هاتين بدأتا بالتورم من مسير شاق  زاد عن الألف ميل وطال عن الأربعين يوما , بدأ من الحدود الكويتية السعودية , وانتهى في الحدود العراقية التركية , إذ كنت آنذاك جندي احتياط في الجيش العراقي  , أخدم كرام لقذائف الآر بي جي في كتيبة عسكرية في أقصى الجنوب الغربي من دولة الكويت على الحدود السعودية بعد أن دعيت إلى الالتحاق بالجيش قبل غزوالعراق للكويت بعشرة أيام . كانت كتيبتنا في الكويت لا تملك من العتاد سوى بضع مدافع صدءة وعربات أكل عليها الدهر وشرب .
ذات ظهيرة , ولم تكن الحرب قد بدأت بعد , خرجت للغائط في العراء ولم أكد أنتهي منه حتى دوّى دوّي عظيم هز الأرض هزاً عنيفاً وغطاها بسحابة كثيفة من الدخان الأسود والغبار وملأ الجو رائحة البارود . بصورة فطرية كببت على بطني دون حراك حتى انحسر الدخان وعادت الرؤية  قليلا , قمت دائخاً أعاني من صداع وغثيان , فحصت جسمي فكان سليماً , التفتت إلى حيث رفاقي  وعدّتهم فلم أجد شيئاً سوى قطعا متناثرة من الحديد والأجسام , فقد تحول كل شيء في لحظة إلى هباء منثور , أشلاء ستين عسكرياً تناثرت على مساحة كبيرة من تلك الصحراء كانوا قبل ثوان يرتعون ويمرحون في ظل مركبة عسكرية طويلة , أياد وأرجل ورؤوس تبعثرت هنا وهناك في منظر فظيع يجعل الولدان شيباً , كنت الوحيد الذي كتب له البقاء من تلك المجموعة من الجنود , جلست في ذهول وحيرة من أمري أفكر فيما يمكنني أن أفعله , حتى الأتجاهات لم أعد أميزها , وضعت الشمس في ظهري مطلقاً العنان لقدمي أسير في صحراء تمتد على مد البصر دون هدى أو معلم يبدو في الأفق , لا أدري إلى أين , لا زاد ولا شراب , حتى أحاطني الليل بظلامه الدامس وبان في الأفق بصيص نور واهن , اقتديت به مسرعاً , وإذ هي خيمة تقبع وسط الصحراء لبدوي على وشك الرحيل غرباً هرباً من جحيم الحرب .
وتابع المام ضاحكاً :
حين علم البدوي من أمري أصر على تأجيل الرحيل إلى الغد  ليذبح على شرفي حاشياً من قطيع إبله يعشيني به تلبية لواجب الضيافة , إلا أنني نبهته بخطورة الموقف وضرورة المغادرة قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه , عندئذ أعارني الرجل بعيراً أمتطيه لسفري وصرة من فتات من الخبز وخابية من الماء , ركبت بعيري مولّياً وجهي شطر الشمال , إلا أنه حرن بعد مسير نصف ساعة ورجع القهقرى يريد العودة إلى قطيعه , أطلقته وتابعت طريقي سيرا على الأقدام , أنام في العراء المكشوف مفترشاً الأرض وملتحفاً السماء ومتوسدأ التراب والحجارة , اتنقل من بدوي إلى بدوي أتجنب القرى والمدن وركوب الحافلات خشية الوقوع في قبضة المخابرات العراقية الذين لا يعلم إلا الله بأي تهمة سيتهمونني وبأي طريقة سيقتلونني إن عثروا عليَّ ,  في اليوم الأربعين مساءً وصلت قريتي بعد نأي عنها دام سبعة أشهر , وصباح اليوم التالي بدأ القصف على القرى والمدن الكردية  وكانت الهجرة المليونية إلى إيران وتركيا .
نهض المام وسطّح الرمل أمامه بيديه ليصلي عليه العشاء جهراً ثم عاد جالساً يكمل حديثه قائلاً :
بعد اجتياز الحدود حفرت حفرة صغيرة ودلقت ما في الكيس في غورها ومددت يدي إلى التراب لأطمر به الجثة الصغيرة  إلا أن عجوزا كانت جالسة بقربي تبكي لحالي قالت فجأة : مهلا يا بني مهلاً ! توقف من فضلك . فتوقفت مستفسرا فتابعت العجوز قائلة : لعمري إن المولود إذا مات ازرقت شفتاه ولسانه وأنامله  فما لي أراها وردية شقراء هنا , تمهل يا بني فقد يكون ابنك حياً . فقلت من خلف ابتسامة باهتة : وما السبيل أيتها الأم , من أين لنا في هذه الظروف بطبيب يكشف عليه ؟ فقالت : إن الأمر لا يحتاج إلى طبيب يا بني , أخرجه من الحفرة ثم اضربه على أخمصي قدميه وإليتيه . ففعلت ... وصرخ قهرمان ... وبالغ في صراخه .... وردد الوادي والجبل صدى بكائه ,  وضعناه في حضن مرضع فشرع يمص حلمتها بنهم وعنف .
 وهكذا ابتعث قهرمان بعد موت لم يشك به أحد .
مكثنا في خيمة للمنظمات الدولية سنة كاملة قرب الحدود , ثم سنة أخرى في ضواحي ديارنكر حتى وصل بنا المطاف إلى هنا , وها هو قهرمان يمارس شقاءه كل لحظة , يرتع ويمرح ويلثغ بالإنكليزية ويسبب الصداع لأمه ومعلمته .
بعد صمت دام دقائقاً سألت المام عن سبب الندب المتعددة في وجهه ورقبته وهو الذي لم يصب في حرب الكويت كما قال فرد يقول :
قبل الغزو العراقي للكويت قاتلت ست سنوات متواصلة في الجبهة الإيرانية , شاهدت فيها الويلات , المئات من رفاق السلاح قتلوا وجرحوا أمام أعيني , كانت مشاهداً مروعة , وحياة قاسية , لم نعلم آنذاك في أي لحظة يسقط علينا صاروخ أو ينفجر فينا لغم . ورغم ذلك نجوت منها سالماً .
أما الندب فهي آثاء إطفاء سكائر الجلادين في سجن أبي غريب على جسمي , فبعد ست سنوات في الجبهة تعرضنا مرة لهجوم إيراني مباغت شرس حصد نصف أفراد وحدتنا , ومن تبقى منا اقتيد إلى سجن أبي غريب بتهمة الإهمال إن كان جنديا , أما الضباط فراحوا في مصير مجهول , قيل أنهم أذيبوا في الآسيد , وقيل أنهم رُبطوا أحياءً بصواريخ قُصفت بها إيران . في أبي غريب يثبت الإنسان على أنه أقوى الكائنات على وجه الأرض , فلو كنا فيلة أو دببة لقضينا نحبنا من اليوم الأول . كان فطورنا من أحشاء الفئران والضفادع وإن تماطل أحد في البلع تأتيه ضربة عنيفة من حيث لا يدري  يعقبه جلسة كهرباء, وغداؤنا كسرات متعفنة من الخبز تسرح فيها الديدان والصراصير ويعقبه حفلة تدخين يتم فيها حرق جلودنا بأعقاب السكاير , وعشاؤنا سباحة حتى الصباح في مستنقع في القبو من مياه المجاري الصحية أرتفاع الماء فيه حوالي المتر ونصفه تطفو على سطحه كتل من الخراء وروث الحيوانات وفئران وضفادع ميتة منتفخة تفوح منها رائحة تبعث على الغثيان والإقياء , عندما ينهار أحدنا من التعب والنعاس يتكئ على اثنين من رفاقه كي يغفو قليلا دون السقوط والموت غرقاً ..  إلا أن شر البلية كان عند أحمد زورو , فقد كان المسكين قصير القامة ومستوى ماء المستنقع كان يصل إلى ذقنه وما إن يدخل الماء حتى يبدأ صراعه المرير لإبعاد الكتل الطافية على الماء عن فمه .
مرة في لحظة هدوء رأيته قد سند ظهره إلى الجدار ورفع رأسه مثبتاً عينيه إلى السقف غارقا في تفكير عميق , سألته قائلا : بماذا تفكر يا زورو . فرد بصوت هادئ : أحلم أن تتحول هذه الكتل بغمضة عين إلى أثداء وفروج لحوار لم يطمثهن أحد , وأن تنقلب هذه الفئران  والضفادع إلى فاكهة ولحم شهي , وأن يؤول هذا الماء إلى خمر وعسل .
قهقه السجناء لحديثه رغم ما كانوا عليه .
وقهقه المام بمرارة .
وقهقهت مع المام  وقلت : لقد تداركنا الوقت , هيا بنا إلى البيت .
اتصل المام بحليمة يطلب منها التوجه إلى حيث سيارته وركبنا الأربعة وانطلق المام بسرعة كبيرة وعند منعطف كادت السيارة أن تجنح بنا فاعتراني خوفٌ فنظر إليّ المامُ يقول بهدوء غامزا بعينه :
لا تخف , لا نموت , لا نموت!







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=2943