بوزان المجنون*
التاريخ: الأثنين 27 تموز 2009
الموضوع: القسم الثقافي



د. آلان كيكاني

اتصل بي العقيد , قائد الوحدة , صباحا يقول :
-   قريبك المجنون بوزان في نوبة جنون يا دكتور , إنه لم يعد مع المجندين من سباق الضاحية , ارتمى على الأرض ولم يقم  , اذهب لإسعافه حالا.  
هكذا أمر العقيد وهكذا اعتاد أن ينعت كل عسكري كردي في الوحدة التي يقودها بأنه قريبي , وعند مجالساتي إياه اليومية على هامش ساعات العمل  لم يتردد يوما بالتعبير عن إعجابه بحالة الأخوة والتضامن الاستثنائية بين الكردي والكردي . وحسب رأيه فإن الكردي لا يمكن أن يؤذي الكردي مهما كانت الأسباب.


توجهت إلى حيث بوزان  بسيارة الإسعاف , بعد أن دفعها أربعة عساكر مسافة رمية حجر كي تتمكن من الانطلاق , فرأيته  يعود أدراجه , بطوله الفارع وجسمه النحيف , إلى  أخبية الوحدة المتناثرة , مثل قطيع من النعاج وقت الرعي , في قلب البادية مع عسكري آخر طلب منه مدرب الرياضة أن يلازم بوزان إلى حين قدوم سيارة الإسعاف , حملتهما معي وعدت بهما إلى المستوصف العسكري المؤلف من خيمتين إحداها للفحص الطبي والعلاج أروقتها قديمة هشة تتمزق حين يمر المرء من قربها دون أن يلمسها , وفي زاوية منها سرير صدئٌ أنام عليه , والأخرى لحفظ الأدوية , فيها خزانة تحوي عدة أصناف من أدوية منتهية الفعالية , وسرير   للممرض .  توجه العسكري الآخر  لأداء عمله اليومي بينما بقي بوزان , وحيداً , معي . بعد أن قدمت له كأسا من الشاي شرعت أساله عن السبب الذي يجعله بين الحين والحين ينطوي على نفسه وينقطع عن العالم الخارجي لدقائق ثم يعود طبيعيا . كان بوزان بين النوبة والأخرى على أكمل ما يرام , ومقداما يكتسب ثقة العقيد بصدقه وشجاعته ونشاطه وهمته القوية , ومرحا  يميل إلى النكتة والدعابة وهو ما جعل العقيد في كثير من الأحيان يحبذ مجالسته ويفاكهه معلقا على لغته العربية الركيكة المحشوة بالألفاظ الكردية , وحين يسأل العقيد عن كوكتيل لغته يجيب بوزان مشيرا بسبابته  إلى بطنه وهو يضحك :
-     الكلمات تنشأ هنا كردية , يا سيدي العقيد , ثم تصعد إلى الأعلى باتجاه الفم الذي يقوم بترجمتها إلى العربية , وقد يسهو عن  بعضها فتخرج كردية قحة .
فيضحك العقيد ضحكته الطفولية المألوفة لكل عناصره , وإذا استمر في تعليقاته على لهجة بوزان فإن هذا الأخير يقف له بالمرصاد ويقول :
-         ولماذا أنت لا تتكلم الكردية يا سيدي ؟
 فيعلو صوت قهقهة العقيد ويربت على كتفه دون أن يجيب على سؤاله  وإنما يمد يده على جيبه  لإخراج علبة السكاير ليدخن , ولا ينسى نصيب بوزان منها بسيكارة ليعطيه الأمان ويشجعه على الاستمرار في الحديث.
 ورغم أن الفاصل بين النوبة التي تنتاب بوزان والتي تليها كان يطول أشهراً , فإن الجميع , من ضباط وجنود , في تلك الوحدة العسكرية الصغيرة  اعتاد على وصفه بالمجنون حتى ألفَ بوزان هذا الاسم وبات لا يعني له شيئا يستأهل الغضب وإنما يستثمره في حال إذا أراد أن يشفي غليله من عسكري لسبب أو آخر  فيصب عليه جام غضبه صفعاتٍ من يديه الطويلتين  , وإذا تذمر المضروب واشتكى فالكل يلومه لأنه يتحرش بالمجنون وعليه تحمل التبعات .
بعد أن رشف ابن التسعة عشر ربيعاً آخر قطرة من كأس الشاي , تنهد بشهيق عميق وقال مستفيضا وقلبه يعتصر ألما :
-    قُتِلَ أبي ثأراً لمقتل رجلٍ قتلَه رجلٌ تربطه بأبي علاقة بنوة عمومة من الدرجة الخامسة إن لم يكن أكثر , وكان القتلةُ قد اختاروا أبي لما كان له من مكانة اجتماعية مشرفة , إذ كان حسن السيرة والسلوك , ميسور الحال , مسالما,  محبا للخير , غيورا على أهله وشعبه , هذا ما يقوله عنه المنصفون لأنني كنت في الثالثة من عمري حين غُدِرَ به , وكانت أمي وقتذاك حاملا  بأخي الوحيد الذي يعمل الآن في لبنان , وما إن وضعت أمي حملها حتى حام أبوها , الذي هو جدي , حولها ليجبرها على تركنا , نحن الأيتام , ويزوجها من رجل آخر طمعا بمهرها . أضطر بعدها أكبر أعمامي سنا لتبنينا , وقد  استحوذ على أرض كانت لأبي بحجة تغطية تكاليف تربيتنا منها , ولكنه باعها بعد فترة وتزوج بقيمتها زواجه الثاني الأمر الذي حول بيته إلى جحيم لا يطاق لأنه أسكن عروسته الجديدة في نفس البيت الذي تسكنه العائلة المؤلفة من زوجة وخمسة أولاد وأنا وأخي , وحينها كان لي من العمر تسع سنوات وأخي له ست . بدأت الخلافات تحطم عائلة عمي وتمزق وحدتها , وانصرفت  زوجة عمي الكبيرة , في خضم صراعها اليومي مع ضرتها , عن الاهتمام بأولادها وأخذت تماطل في الاهتمام بنا وتهملنا الأمر الذي جعلنا أنا وأخي  نترك المدرسة ونعمل لتأمين قوتنا اليومي , وهكذا عملت راعيا وسائق جرار وعامل بناء ثم بدأت العمل في لبنان عندما حصلت على الهوية الشخصية ولكن المشكلة أنني منذ أن بلغت الخامسة عشر صار أعمامي وأبناؤهم يحرضونني على الانتقام لمقتل والدي . إن قاتل أبي قبع في السجن خمس سنوات ثم خرج ليعيش في جهة مجهولة . فكيف لي أن أقتل أحد أبناء عمومته أو شخصا مهما من عشيرته , ما ذنبهم يا دكتور ؟ ألست على حق ؟
وسكت بوزان برهة ينتظر جوابي على سؤاله فقلت :
-    أنت على حق , فالله سبحانه وتعالى يقول : " لا تزروا وازرة وزر أخرى " , ما ذنب رجل أن يُقتلَ لقاء ذنبٍ لم يقترفه بل اقترفه قريب له , حتى إذا كان أخوه ؟ نِعمَ ما فعلتَ برفضك هذا يا بوزان فحتى غرائز الحيوان لا توجهه إلى الانتقام من حيوان برئ حين تعرضه لأذىً من حيوان آخر .
عدَّل بوزان من جلسته وكأنها المرة الأولى التي يجد فيها من يوافقه الرأي بشأن موضوع خطير كموضوعه واستأذن بتدخين سيكارة , ثم أشعلها وسحب من دخانها شهيقا عميقا ثم زفره في تهذيب واضح من فوق كتفه كيلا يزعجني به . وقال وبدا على وجهه حزن ظاهر:
-    تقول أمي أنهم قتلوا أبي في ليلة صيفية بينما كان نائما على الدكة في الهواء الطلق , على بعد أمتار من سريري الذي كنت وقتها نائما فيه  , وتضيف أنه عندما دوى صوت الرصاص عقد لساني وفقدت القدرة على البكاء والكلام لمدة أشهر , ثم عاد لساني بعدها  إلى النطق ولكن صارت تنتابني نوبات صرع بين الآونة والأخرى , والحمد لله شفيت ولكن لا زالت كل سنة مرة أو مرتين تعتريني دوخة بسيطة وتذهب حالا .
قاطعته مستفسراً ومحاولا إخفاء تأثري بقصته :
-    لقد سمعت أنك تقتني مسدسا , تصطحبه معك أنَّى رحت حتى أوقات تواجدك داخل المعسكر , هل لك أن تذكر لي السبب , إذا كانت ليست لديك نية مبيتة في القتل ؟
وضع بوزان سيكارته في أخدود في حرف المنفضة وقال :  
-    عندما رفضت قتل إنسان بريء رفضا قاطعا فإنهم مالوا إلى أخي الصغير يحاولون إقناعه بتنفيذ خطتهم . وأخي هذا , رغم صغر سنه , عصبي المزاج عفوي التصرف , فإني أخشى أن يقدم على فعل ما يطلب منه , ويقتل رجلا بريئأ وييتم المزيد من الأطفال . وإذا فعلها أخي فإن ذوي القتيل قد يقدمون هم أيضا على الانتقام في فورة دم , وهذا المسدس أحمله معي تحسبا ليوم كهذا لأدافع به عن نفسي وهو مسدس عسكري أحمله برخصة من ضابط الأمن في الوحدة , وافق عليها بعد هدية جلبها له أخي من لبنان .
فقلت مستغرباً :
-    هل من المعقول يا بوزان أن يأتوك ليقتلوك في هذا المعسكر في حال حدوث ما تقول ؟ هل هناك أناس يدفعهم الحقد إلى اقتحام كتيبة من الجيش ليقتلوا عسكرياً بريئأً ثأرا لدم هو منه بريء ؟
فرد بوزان وعلى شفتيه بسمة ساخرة :
-    آه يا دكتور , من يقتل الصيدلاني في صيدليته والمحامي في مكتبه لا يخجل من قتل عسكري بريء مثلي ولا يصعب عليه ارتكاب جريمته في وحدة عسكرية نائية كهذه . أنا إذا وجدت قاتل أبي الحقيقي سأقتله بلا ريب ولكني سوف لا أوجه فوهة مسدسي على سواه .
فقلت :
-    وكيف سترضي أقرباءك بعد التسريح ؟ هل ستهاجر القرية للعيش في مكان آخر إذا ألححت على رفضك الانصياع لأعمامك وأبنائهم ؟
-    نعم , أود الزواج ثم العمل في لبنان, بعد التسريح من الجيش , لعدة سنوات , حتى أتمكن من شراء بيت في المدينة , ثم أنجب أطفالا أهتم بتربيتهم وأعلمهم في المدارس والجامعات , أريدهم أن يكونوا مثقفين , يا دكتور , وذا مركز اجتماعي وعلمي , إن تركي وأخي  للمدرسة تركَ في نفسي عقدة نقص أريد أن أعوضها في أولادي .
-    والله كلامك جميل يا بوزان , قلت لي أنك نشأت منذ طفولتك يتيما وفقيرا وبعيدا عن أبواب المدارس , فمن أين تعلمت هذه الأفكار ؟
فالتفت بوزان يمينا ويسارا في حركة يريد منها التأكد من خلو المكان من سوانا وأن أحدا لا يسمعه , ثم مط عنقه , الطويل أصلا , باتجاهي حتى كان فمه قريبا من أذني وقال , بصوت أقرب إلى الهمس , كلاما عرفت من خلاله أن بوزان  مهتم بطموحات شعبه , لا وبل يناضل من أجل تحقيقها مع رفاقه في تنظيم سياسي الأمر الذي أكسبه خبرة في الحياة وتفتحا في الذهن , رغم صغر سنه وظروفه السيئة.
ساد الصمت في الغرفة لكن نفسي كانت تقول لبوزان :
-    كم نبيلة هي نواياك ! وكم كبيرة هي آمالك ! وكم ثقيلة هي أعباؤك ! وكم  ضعيفة هي  ساقاك , يا بوزان , أخشى أن يتكسرا تحت أحمالك هذه !!

كنت جالسا , مرة , في مكتبي مع أحد ضباط الكتيبة في يوم عطلة , حين دخل علينا بوزان وخبط رجله اليمنى على الأرض نابسا بغمغمة من المؤكد أنها كانت التحية العسكرية ثم وقف صامتا والحياء جلي على محياه , عرفت أن بوزان بحاجة إلى شيء يخجل البوح به أمام الضابط الآخر فطلبت منه أن ينتظرني في الغرفة الأخرى وخرجت وراءه , قال على مضض أنه يود المبيت في دمشق وأنه في عوز شديد إلى المال ويريد استدانة بعضه مني , استجبت لمطلبه فشكر وخرج . في اليوم التالي باكرا رأيته عند الباب الرئيسي عائدا من مبيته إلى عمله وعندما رآني صافحني بيد بينما حاول إخفاء الأخرى  التي لمحتها  من بعيد تحمل كيسا .  
وكم أشعر بالخجل الآن أنني حينها أصررت عليه , من باب المزاح , أن يفشي لي بسره , ويقول لي ماذا في الكيس . ولما رأى بوزان تصميمي وعنادي على طلبي لم يجد المسكين بداً من الاعتراف فاحمر وجهه وتعرق جبينه وطأطأ رأسه خجلا  وقال بصوت خافت:
-         إنها لفاطو .
-         وماذا هي ؟
-         قنينة عطر نسائي ؟
-          ومن هي فاطو يا بوزان ؟ قل لي : من صاحبة الحظ هذه ؟
فأجاب بوزان وهو لا يزال مطأطأ الرأس وعيناه مستقرتان على الأرض :
-    هي جارتنا في القرية , ومن الأقرباء . أحبها وتحبني ونريد الزواج على سنة الله ورسوله . وهل في ذلك من العيب أو الحرام , يا دكتور ؟
فقلت مشجعا :
-         لا يا بوزان , ومن قال أن ذلك عيب ؟ العيب هو ألا تحب وألا تبحث عن شريكة حياتك وتخطط لمستقبلك.

كان قد مضى على تسريح بوزان حوالي الستة أشهر عندما دخل عسكري باب خيمتي وقدم نفسه على أنه صديق حميم لبوزان , ومن قرية مجاورة لقريته , وأن بوزاناً أرسله خصيصا إليَّ محملا إياه سلاما حارا لي . سألته عن أحواله وما إذا كان قد تزوج أم لا , فقال أنه تقدم لطلب يد فتاة من قريته ومن قريباته إلا أن والد الفتاة رفض تزويج ابنته منه  قائلا  لو كان بوزان رجلاً لثأر لدم والده .

كنت على وشك نسيان قصة بوزان , فقد مضى عليها ست سنوات دون أن تجمعني صدفة أو ميعاد به  ولأن ثمة الكثير من شاكلتها حيث يعيش بوزان , لو لا أنها أقحمت ذاكرتي بعنف ظهيرة يوم من أيام الجمعة . كنت في مناوبة في احد المشافي الحكومية كطبيب مقيم في الجراحة العامة عندما دوت صفارات الإنذار في المستشفى دليل أن حالة طارئة قد دخلت قسم الإسعاف . هرعت تلبية لدعوة الواجب الطبي ولكن أحد الزملاء الخارجين تواً من غرفة الإسعاف طلب مني الإبطاء لأن المريض وصل متوفيا .

كان لا بد من تشخيص سبب وفاة الميت , رفعت عن وجهه الملاءة :
كان هو : بوزان, قد فارق الحياة , بوجهه النحيف وبشحوب شمعي مفرط دليل أنه فقد الكثير من الدم قبل وفاته , كشفت عن جسمه فرأيت آثار طلقة من بندقية أصابت مأبض ساقه اليمنى , كسرت الساق ومزقت شريانا كبيرا ظل ينزف حتى فارق بوزان الحياة .
ولولا أن الوقت كان وقت بكاء لضحكت , إذ تذكرت أنني في يوم كنت على وشك أن أقول له أن ساقيك ضعيفتان على حمل أثقالك يا بوزان  .
حملوا بوزانا في نعش وأخرجوه ليدفنوه .
وقلبي كان يناجيه ويقول :
" إن قبراً صغيرا سيسع جسدك النحيل , يا بوزان , ولكن أي قبر سيضم أحلامك ؟ خذ معك أحلامك  ونم معها أبديا , أيها المجنون , كما كل من حولك !! "

..................................
باقة من الذكريات -2-







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=2492