اللغة والفلسفة، بين المادية والمثالية
التاريخ: الأحد 31 ايار 2009
الموضوع: القسم الثقافي



خالص مسور
 
فإذا ما اعتمدنا مقولة لينين: بأن الفلسفة حزبية إما مادية أو مثالية. أي أن هناك من يتعصب لهذه ومن يتعصب لتلك، ومهما كان رهان المرء على إحداهما فالمادية هي الواقعية ذاتها ويتبناها الفلسفة الماركسية التي ترى المادة أولاً ثم الفكر أو الوعي ثانياً، ومن هنا جاءت مقولة ماركس المادي الشهيرة: (ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الإجتماعي، بل الوجود الإجتماعي هو الذي يحدد وعي الناس). بينما المثالية والتي هي فلسفة البرجوازية فترى أسبقية الفكرة على المادة والوجود أي ليس هناك شيء موجود قبل أن تنقله لنا إحساساتنا، وأن التطور المادي مرهون بالتطور الفكري، أي أن المثالية تراهن على الإدراك الذهني الذاتي ومن ثم التضحية بالواقع الموضوعي تماماً.


وكان من أهم من دعا إلى التفريط بالفلسفة اليونانية بصرامتها الواقعية وبالمنطق الأرسطي  والذهاب إلى القول بالتجريبية أوومقولة الفن للفن، هو الفيلسوف الفرنسي (فرنسيس بيكون) والذي ربط بين وجود وفاعلية المعرفة والإحساسات البشرية وأكد بأننا نستقي المعرفة من حواسنا وحدها، وعن طريقها فقط يمكن إدراك الحقائق في وجودها المادي. ومثله (كانط) الذي رآى أن العقل هو المنظم الوحيد لهذا الكون الذي هو بلا نظام، وأن مانراه عليه من نظام هو من تخريجات العقل البشري وحده والذي يصنع من المادة الخام نماذج تروق له. وهذا إنكار صريح للوجود المادي، أي أن كانط اشترط الوجود المادي بالإحساسات فقط، وبعبارة أخرى فلديه لاشيء يقع خارج الإحساس والحواس. ومن جانبه يقول (شيللر) إن الشكل هو كل شيء والمضمون لاشيء، حيث الفنان يمحو الطبيعة ثم يعود ليزينها بالزخارف والصور. أما أفلاطون فقد قال بنظرية المثال، وفيها يرى أن لكل شيء في الكون وجوداً حقيقياً أو الشيء ذاته، وهو غير الشيء الذي تنقله لنا إحساساتنا أي أن كل موجود هو شبح للمثال.
ويمثل لذلك بوجود أشخاص في كهف ووجهم نحو جدار هذا الكهف وخلفهم نارموقدة، ولذلك فهم يرون شبح الأشياء ترتسم بوضوح على الجدار، فالأشباح هنا هي صور الأشياء والأشياء الحقيقية التي رآى الأشخاص صورها هي المثال. ويرى (باركلي) المثالي، أن يوجد هو أن ُيدرَك وُيدرِك. بينما المثالية الفيزيولوجية تقول بأن الإحساسات تنقل رموزاً للأشياء لا صورها وهو ما يعكسها جهازنا العصبي. ومن هنا كان قول المثالية بأن الموهبة  الفردية هي ذاتية ومستقلة عن المجتمع، وأن الفن ياتي نتيجة الإلهام وليس وليد واقعه الاجتماعي كما هو ديدن الواقعية الماركسية، أوبعبارة أخرى إن النفس هي التي تخلق واقعها الإجتماعي ولذلك فمسموح لها بالإنفلات من هذا الواقع، وعمل ما يحلو لها دون مراعاة القواعد الاخلاقية للمجتمع والعزوف عن القيم والتحول نحو الملذات والإبهام والغموض(1).
ومن هذا المنطلق كانت آراء المثاليين في الجانب اللغوي وظهور مناهج النقودات الأدبية الحداثية في النقد الجديد، والشكلانية الروسية، والبنيوية، والتفكيكية، وموت المؤلف، والغموض في الشعر...الخ. ثم القول باعتباطية العلامة اللغوية لدى (سوسير) وتقسيمه الكلام إلى دال هو(صورة سمعية) ومدلول هو(الصورة الذهنية أوالفكر)، وكلها تدخل ضمن مقولة المذهب المثالي في الفلسفة. ورغم ضمور وتقلص استعمالات هذين المصطلحين الفلسفيين لدى الكتاب الحداثيين اليوم ولكنهما يبقيان فهومين صحيحين لهما اعتباراتهما العلمية، ولابد لهما من الإستخدام مهما تطورت العوالم النقدية والفلسفية. ولكني أرى أن سوسير قد شطح به الخيال بعيداً عن الحقيقة نوعاً ما ولكل قاعدة شواذ والشاذ هنا هوأنه يستحيل أن تكون العلامة اعتباطية دوماً وخاصة في اللغة والفن بله الرسم تحديداً، بل يمكن تقسيمها إلى نوعين اعتباطية أولاً وذات مرجعية ثانياً. حيث أن اللغة وبالتالي العلامة لم تكن في بدايتها كلها تجريدية بحتة، بل كانت اللغة تعتمد المحاكاة والتقليد ثم سارت في طريق التجريد مع ارتقاء الإنسان في المدنية والحضارة وتجردت اللغة نوعاً ما مع تطور المفاهيم البشرية والإجتماعية، ففي الرسم مثلاً ليست هناك اعتباطية العلامة، فالشجرة التي نرسمها على الورق تنطبق على مرجعية طبيعية لها على أرض الواقع، أي أن من يتأمل صورة شجرة مرسومة سوف يدرك على الفور أنها تمثل شجرة على الأرض وليس شيئاً آخر غيرها، أي أن العلامة الفنية هنا هي غير اعتباطية بالمطلق.
والأغاني يتم تميزها إلى أغاني الحزن أوالفرح، وهذان النوعان من الأحاسيس البشرية لهما مرجعيتهما السيكولوجية في دواخل الذات البشرية، وفي الأصوات أيضاً يمكن تقليد صوت أي طائر كما نقول طى طي، صرصار، كيوي، ليتبادر إلى ذهن المتلقي على الفور بأننا نقصد بالصوت الأول عصفور القبرة، وبالثانية الصرصور المنزلي مثلاً، وبالثالثة الطائر النيوزيلندي المعروف بهذا الصوت لا غيره، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك أي مانقصده هو أن امتدادات المثالية في اللغة والفن ليست صحيحة في كل الحالات وبالمطلق، إذ أن هناك العديد من العلامات التي لها مرجعيات خارجية فهي ليست اعتباطية كلها كما ذهب إليه سوسير، وبارت، ودريدا وآخرون غيرهم. ويبقى المؤلف أو المبدع حياً مع المتلقي ينفح وجهه وعينيه وقلبه بإحساساته وهوسه وهواجسه في الشعر أو النص الأدبي الكلاسيكي والشفاف، وخاصة في القصائد الغزلية والحماسية منها. بينما يصح القول بموت المؤلف في الشعرالغمومض والإبهام فقط والذي يعزلك عن مؤلفه بجدار عازل لاتسمع له همساً ولانفساً.
لكن الواقعية كانت قد ترسخت من قبل في نظريات الفيلسوف(ديدرو) الذي أرجع الفلسفة إلى حصيرة الواقع وقام بعزلها عن الفكرة المثالية، وقال قولته الشهيرة: بأن الجمال هو وجود موضوعي يقع خارج الذهن. وتم التنكر للمثالية كذلك على يد عدد من المفكرين الآخرين منهم تشيرنيفسكي، ووينكلمان، وكليسنج. وقد تلاها الضربة الأشد للمثالية على يد أكبر عدو لها وهو ماركس الذي أرجع الوعي – كما ذكرنا- إلى الوجود الإجتماعي للناس. وهكذا كان قوله هذا بمثابة ضربة لازب من الماركسية إلى المثالية آنذاك. وتاكيداً على مفهوم الواقعية في الأدب فقد جاء في برنامج الحزب الشيوعي السوفيتي الطبعة الرابعة – ص- 164(إن الإتجاه الرئيسي لتطور الأدب والفن هو تعزيز روابطهما بحياة الشعب، والإفصاح الصادق وبلغة الفن الرفيع عن ثروة الواقع الإشتراكي في شتى وجوهه، والرسم الملهم والساطع للجديد الشيوعي حقاً والتشهير بكل ما يعيق تقدم المجتمع إلى الأمام). كما رآى لينين: (أن الفن يعود للشعب وإنه يجب أن يمد جذوره في أعمق أعماق جماهير الشغيلة الواسعة، ويجب أن يكون مفهوماً من قبل هذه الجماهير ومحبوباً من جانبها، إنه يجب أن يوحد مشاعر وأفكار وإرادة هذه الجماهير، وأن ينهضها وأن يوقظ الفنانين بينها وأن يطورها)(2). وجاء قول تشيرنيفسكي الواقعي الروسي عن الفيلسوف الالماني (هيجل) وفلسفته: (إن كل جماليتها تتلخص في إطراء جنائزي للفن، فهي تستعرض أشكالاً متتالية أو مراحل تبين تقدم الإحتراق الداخلي فيها، وتوضبها جميعاً في الضريح مع ما تخطه الفلسفة فوقه....). كما أن الانسان يفقد حقيقة الجمال كلما ابتعد عن الواقع، لكن علينا أن نفهم بأن الفن الواقعي ليس عكساً حرفياً للواقع بل هو انعكاس للصراع الذي سكن أركان الوجود.                  
وهكذا ترى المادية أن الفرد هو نتاج واقعه الاجتماعي كما رأينا في مقولة ماركس الآنف الذكر، والتطور الاجتماعي يحدث خارج عن إرادة الانسان، وبذلك فالفن والجمال – حسب المنهج أو المذهب المادي هذا- نابعين عن الواقع الاجتماعي للناس وليس من طيات الذات البشرية، ولذا فعلى الأدب أن يستوحي نماذجه من واقعه الإجتماعي ويسبرأغوارشخصياته ويأخذ موضوعاته من النماذج البشرية الحية، لأن الأدب ثمرة من ثمرات المجتمع، وعلى الشاعر والأديب أن يكشفا عن التناقضات الاجتماعية فيه وأن يظهرا تطوره وحراكه المستمر. فالواقعية كم تبدو لاتعالج أمراض فرد بعينه بل أمراض المجتمع بأسره، أي هي في ربط دائم للفرد بالمجتمع، ويحل – على الدوام- التفاهم والتعاون محل المنافسة والصراع.
وعلينا أن نشير بأنه يجب التمييز بين مفهومين للمادية أحدهما هو المادية الآلية أو الميكانيكية، وفيها المادة تكون بحالة سكون لاتتحرك ولاتتطور بل هي ثابتة مهما تغيرت الظروف وتبدلت، والآخر هو المادية الديالكتيكية (الميكانيزمية) أو الدينامية، وهي المادية التي اعتمدها ماركس في نظرياته الفلسفية وتشكل الركيزة الأهم في فلسفته المادية. فالماركسية في مقولاتها المادية ترى مطابقة الواقع الموضوعي للفكرة، أي تشابه بين الواقع الموضوعي والفكرة لكل شيء كما هو، وهذا ما يعارض بشكل صريح الفكرالمثالي لأنها لاتنقل مايشبه الشيء بل الشيء ذاته، وبالتالي – وحسب المادية الدينامية- تكون المادة هي في حركة دائمة. وحتى الحقيقة تكون نسبية لدى أنصار الفلسفة المادية، فإلحقيقة نفسها يجب أن تكون غير موجودة كما نتصورها بل هي نسبية ومتغيرة على الدوام، والديالكتيك المقام عليها يجب أن يتغير أيضاً. كما ترى المادية كذلك أن المعرفة تتموقع حسب المصالح الطبقية، أي أن كل فرد ينظر إلى الأمور من زاوية مصالحه الطبقية، إذن تقترن المعرفة هنا بالعنصرالذاتي- الطبقي. ومن جانبه يرى لينين في المادية: بأنها الواقع الموضوعي معطى في إحساساتنا، وهو ما يعاكس – مرة أخرى- المفاهيم التي نادى بها فلاسفة المثالية كبركلي، وهيوم، وشلنج مثلاً. أما الفلسفة البراغماتية(الذرائعية) فيمكن وضعها في الخانة الوسط بشكل تقريبي بين الفلسفتين المادية والمثالية، فهي تقترب نوعاً ما من مفهوم المصلحة الطبقية لدى ماركس، ولكنها تحصر المصلحة في الذات الفردية وليست في طبقة اجتماعية كما ذهبت إليه الفلسفة المادية. أي أن البراغماتية ترى أن هناك مقياس جديد لوزن الأفكار والفصل بين الحق والباطل، فإذا تضاربت الآراء كان أحقها أنفعها للإنسان أي التي تثبت التجربة على صحتها.  
......................................
(1) – حبيب مؤنس- القراءة والحداثة – مقاربة المكان والممكن في القراءة العربية-ص- 73.     
(2) - - لينين- حول الثقافة والفن- ص- 520.







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=2419