رحلة على جناح حلم
التاريخ: السبت 02 ايلول 2006
الموضوع: القسم الثقافي



نارين عمر

وضعَ
 إصبعه على مفتاح الرّاديو, سرعان ما رفعه. حاولَ الضّغط على زرّ التلفاز, عدلَ عن ذلك أيضاً.
-لا ...لا...لن ألوّثَ أمواج سمعي في نجيع المهاترات المهترئة من كثرة التداول في قاع الأخبار والأنباء.
الحرب...الأسلحة النّووية...الدّمار...الحربُ في كلّ مكان, في الشّارع, في البيت, في الأماكن العامّة والخاصّة, حتى أحلامنا لم تسلم من هذه الوساوس الموسوسة.


أمسكَ بيديه المرتعشتين تلك الجريدة المرميّة  على الطّاولة المنغرسةِ في الزّاويةِ الشّرقيّة من الغرفةِ, والتي كان قد ابتاعها إثر عودته من العمل, من دون أن يتحسّسَ محتوياتها وكأنّه يعرفُ مسبقاً ما يضجرُ بين ثناياها من علقم اللفظِ والمعنى . ما أن لمحَ أسطرها الأولى حتى ألقى بها إلى حيثُ لا يدري, بعد أن ضمّها إلى كلتا يديه بعنفٍ وشره:
الحربُ... الحربُ...القتلُ...القويّ والضّعيف, الضّعيفُ ينهشُ أشلاء ندّه الضّعيف ظنّاً منه بأنّه صار القويّ. أَلمْ يبقَ للبشر من حديثٍ آخر؟؟ أما من منقذٍ, من نبيّ يبني سدّاً منيعاً يردعُ من خلاله تدفقَ كلّ هذا الغضبِ المتسلل من بركان الحمق والشّره؟؟؟
ألقى بجسده المثقل بأنين البحثِ عن عالم آخرعلى تلك الأريكة المنزوية تحت ظلال نافذة الغرفة, تردّدَ كثيراً قبل أن يلتقط جهاز التلفاز من جديد...لا......
لن أعومَ في غياهبِ الأخبار هذه المرّة.(قالها في نفسه).
الفنّ...نعم الفنّ وحده ربّما يعمّدني في نبع الرّاحةِ والهدوء.
قناة...اثنتان...ثلاثة...فلأتنقل بين الأقمار لاشكّ أنّ في أحدها ما يحققُ مرامي أوف...آه...أوخ...حتى الفنّ الذي طالما أتحفَ أحشاءنا بوجباتٍ دسمة من الإمتاع والمؤانسة, وخواطرنا بنَفَسِ الحبّ والحشمة, لترسلها بدورها إلى الحواس كلها, وكان العشّ الوحيد الذي نمارسُ فيه ماهيتنا كيفما نشاء, ونعوم على أثير وحيه في أثير الأفق المديد. نسي ابتسامته أو تناساها. آثر التحليق في خضّمّ التّياراتِ المعاكسة التي تتلاعبُ بعجلةِ العصر وتديرها.
وهو في رحلةِ بحثه طارده غولُ النّوم بعدما داعبَ جفنيه الوسَنُ النّحيف حاولَ المصارعة والمقاومة,ولكن...؟؟
خادعه الجهازُ الرّهينة في يده إذ سقط أرضاً, ولكن دون أن تلطمه خدوشٌ طفيفة أو عميقة, بعد أن ارتسمتْ على شفتيه ابتسامة نقيّة كالتي تزركشُ على محيّا الأمّ حين سماعها صرخة وليدها إثرَ معركةٍ عاتية مع المخاض والطلق
والألم.وكأنّه أرادَ أن يغوصَ في عالمٍ آخر يكون منبتاً خصباً للضّحكَ والابتسام.
ما هذا؟ ماذا أرى؟؟ المداولاتُ والمباحثاتُ تتراقصُ وتتمايلُ بلطفٍ حيناً, وعنفٍ حيناً آخر...لا...لاأصدقُ...تهديدٌ ووعيد؟ معركة...حرب...انتقام؟؟؟ ما عليّ إلا التّرقب, علني أعي ما يدورُ في فلكهم الحامي:
- صه يا هذا...اصغ جيّداً
- ماذا تقولُ؟؟...قسماً...عَظماً...وإلا ؟؟؟
- نعم هم خلقونا لننهي خلقهم, لنمحي نسلهم, (فكما تدينُ تدان).
-لا...لا...هم تفننوا في تكويننا كي نلامسَ خوفَ ضعيفهم فننفثَ فيها من وحينا ونطعمها بنفثاته الجبّارة, ونعاندَ قويّهم حتى يشتنشقَ من عبق خيرنا نسمات البرّ واللين.
-لا بل أرضعونا ترياقَ الحفاظ على ما يسمّى في عرفهم البشري/التوازنَ الكوني/ فلا ظالم ولا مظلوم.
استمرّت اللكماتُ المتوهجة من أتون الوغى المضطربة, كالتي نلحظها في نوادينا العامّةِ والخاصّة...ثمّ احتدمَ الصّراعُ ونشطتْ وتيرته.
- أيُعقلُ أن يحدثَ ذلك؟! معركة؟! بين مَنْ؟ لا أرى بشراً، بل لا ألمحُ حتى طيفَ كائن حيّ هنا...أيُعقلُ أن تكون عدوى الكائناتِ الحيّة قد تسللتْ إلى أوصال الجماد فتصولَ وتجولَ، تتمايل, تتهادى,تتهاوى؟!
وأخيراً غرق فاقدو وفاقداتُ الحسّ والضّمير في عناق عدائيّ عنيف.
قنبلة جرثوميّة تصرخُ:
- النّجدة...الرّأفة...الحديد يا سيّدنا الأوحد,أما من مفرّ؟؟
- آه...واه...ماذا أفعل؟ ألا تلحظون أحشائي الغارقة في عناق الأتون؟!
البارودُ...يحاولُ بتر كلّ مساماتِ الشّمّ لديه, بينما الطلقة منشغلة بليّ عنقها في عشّ النّعامة.
أصواتٌ تتأوّه, صرخاتُ تئنّ, الأرضُ تتصيّدُ الأحداثَ بخجل, والسّماءُ تكللُ رعاياها بأوشحةٍ رمادية.
تظلّ الأصوات رهينة آهاتها, والصّرخاتُ حبيسة أنينها, تختلط, تعلو, تطفو على سطح الدّخان, تتعالى من جديد...تتوحّدُ في قوقعةٍ واحدة.
الأرضُ تكشفُ عن جوفها الذي تحوّل إلى شطرين متعادلين تومئ إلى كائناتها المسلوبة الحسّ والضّمير أن تلجها بدون استئذان, بعدما تلقتْ برقيّة دعم من السّماءِ التي أبدعت على شاكلةِ مستلم الأمانات إلى صاحبها الشّرعي عدّة نُسَخ شبيهة.
الكلّ يفزّ على لدغ الزّوبعةِ التي طارت بهم إلى حيثُ الجهاتُ الأربع, والعوالمُ الأغمق. كابوسٌ عتيد يبحثُ عبثا عن أشلائه المتناثرة إلى حيثُ انتثرتْ.
يفتحُ عينيه المغمضتين جدّاً...جدّاً...يتساءلُ بدهشةٍ مريبة:
ما هذا؟! الكونُ جميلٌ جدّاً...حديقة زاهية الأصول والفروع.
بفزع ينهضُ على دويّ مرعب/ بعد أن حاولتْ بعوضة ثكلى دغدغته بنشوةٍ/:
الحربُ قامتْ...الله أكبر...قامت الحربُ...الهلاك...الموت...ينظرُ يمنة ويسرة وإذ صافرة السّاعةِ تشيرُ إلى السّابعةِ صباحاً, لقد حان موعدُ الذهابِ إلى العمل.
لم يشعر إلا ويده تضغط على الصّافرةِ بقوّةٍ لخنق أنفاسها, في محاولةٍ منه لوقفِ الزّمن ولو للحظاتٍ فقط.
ثمّ راودته فكرة صبيانية كالتي كانت تغازلُ أحلامه الطفولية /لإعادةِ النّقودِ الضّائعة/ بأنْ يتناسى نهوضه, ويعودَ إلى تلك اللحظات عله يعيدها.
مدّ جسده بشكلٍ هندسيّ دقيق, حتى صار أشبه بخط مستقيم أبدعته أناملُ مهندسٍ فائقُ المهارة...وبحركةٍ أتوماتيكيّة منه أخفى الغطاءُ جسده كله, من قمّةِ الهامة وحتى أدنى الأنامل.
بابتسامةٍ ساخرة ركلَ الغطاء ركلة عبّأها بجمّ يأسه وهو يردّدُ:
علّ ولعلّ...ياليتَ و...ياريتَ يعودُ...؟؟
ثمّ توجّهتْ إحدى يديه إلى مفتاح الرّاديو بعد أن اتكأ على الأخرى لتسانده في النّهوض الثقيل, سمع مطرباً يردّدُ:
(يا ريتني طير لأطير حواليك...) وفي محاولةٍ منه لتداركِ ما جرى بدأ يهتفُ:
ياريتني طير لأطير حواليكِ......يادنيا إن كان حال كائناتك يرضيكِ
أتمنّى من ربّي ..... يهديكِ       ......ومن الوسواس المفتون .....يشفيكِ
 كلمة يا ريت عمرها ما تقدر تعمر حتى ركن بيت. 






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=201