يطول الدوار..!!
التاريخ: الأحد 28 ايلول 2008
الموضوع: القسم الثقافي



  قصة بقلم : محاسن الحمصي

"يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلمِ"
(البوصيري)

يجلس على حافة السرير ممسكا يدي الباردة يجس نبضي، يغلق فمي بميزان
الحرارة ، يراقب بصمت وجهي الشاحب الممزوج بسيل من الدمع وتصببِ العرق
، يضع السماعة على صدري متضارب الدقات ، يضرب بأصابعه على ظهري، يقلبني ذات اليمين وذات اليسار ..
يدخل قطعة خشب في فمي ويشعل الضوء ، يخلط زجاجات صغيرة في إبرة توخز شراييني ..

" الحمدلله، لم يرَ اسما على لساني ، لم يجد وجها مرسوما على صفحة قلبي ، لم يسمع خطوات أقدام تركض في نبضي ، لم يخرج جسد مع القيء ..!!" .


- مجرد التهاب رئوي حاد من تعرضك للبرد ، قلة النوم والأكل ، التدخين وأهمها تعرضك لصدمة عصبية.. من الذي تجرأ وأغضب هذا المحيا الجميل وجرح الفؤاد ؟
أنظر بعيون زائغة نحو الوجوه الخائفة المحيطة بي :" ترى على من أضع اللوم ومن الذي تقع عليه القرعة ، ومن أعرض عليه لائحة الاتهام ؟" .
- لا أحد .. فقط دعني أناااااااااااام قليلا ..
- سأبقي المصل معلقا لتعويض السوائل المفقودة، حاولي الابتعاد عن التفكير ، لا شيء يستحق (الزعل) ، ممنوع الموبايل ، التلفزيون ، الصحف ، الكومبيوتر ، ابتعدي عن العالم الخارجي قليلا ، للتعافي سريعا ..!!

يركبُ الدواء موجة التخدير في دمي ، ويدور بجسدي النحيل  ،أغمض عينان متورمتان  ، لكن  القلب  صاح ٍ ..!!

يغادرني، ككل صباح، يتركني معلقة في الساعة حتى المساء ، ألاحقه ب(الموبايل)، بهمسات الشوق ويغازلني بالرسائل القصيرة حتى نلتقي ونرخي شال الحب على أمسياتنا الجميلة .
به ثورة الشباب وفورة الغرور ..لا يفقه من الشاعرية والرومانسية سوى حروف ينمقها حين يشاء ، ومتى شاء ... وأحبه ..!!

قال: انتظريني ، بعد ساعة أكون بين يديك .
 تزينت ، تجملت ،  سكبت العطور ، اخترت أغنية يحبها .. تجولت بين أوراقه وملفاته أعيد ترتيبها..  لا توجد بيننا أسرار ولا محظورات، أوراقنا كشفناها.. الماضي  انتهى بمناقشات إيجابية . بدأنا من جديد ..
الصراحة تجمعنا، الوضوح يربط علاقتنا، والإخلاص جوهر حياتنا المشتركة ..!

ملف جديد ، أراه لأول مرة، تعبث يدي به عن غير قصد ، يغلي التوتر في أعصابي ، ويتسلل إلى صدري الخوف .. إنه ( حدس ) المرأة !
صور ..
صور ..
 صور نساء ماضِيهِ ، وبأوضاع حديثة ..  السمراء والشقراء ، الجميلة
والقبيحة ، النحيلة والبدينة ، جمعها في ملف وأخفاها عن عيني؟؟

لم تمض أسابيع على آخر نزوة ..!!

- تخبرني أنك دفعت ثمن ساعة مع ( ....) تلامس اللحم الحرام لتثبت وفاءَك ؟
- لا أخفي عنكِ حقيقة ، أجل حاولت .. وعدت الى عشنا الهاديء أكثر حبا واقتناعا أنك الأطهر ،الأنقى ، والأجمل ..

يومها اهتزت جدران البيت من زلزال صرخاتي .. فاحتواني بدموع الندم ، مسح حزني بمنديل اللهفة ، بسط دربي بمرادفات التوبة .. فصفحت !
وهاهو اليوم يجمع عشيقاته في ملف ..!

يدخل بعد تعب نهار، أتماسك، أستقبله  بابتسامة مرسومة ، أضمه إلى صدري ، أقبل كفيه، وبركان الغضب يفور في دمي، يكاد يأخذ كل قوة  استمديتها بالدعاء ، أترك الكلام له .. يحكي.. ويحكي.. يثرثر.. يضحك.. أتابع حركات أصابعه ، يديه ..
يتوقف برهة ، مشدوها: ( فتحتَ ملفا جديدا ؟).
يداري ارتباكه:
- أجل فتحته بالأمس ، أين المشكلة ..؟
- والصور ..؟
- يا الله  !كم أنت حساسة وغيورة! هي صور من ماضٍ فات .. مات .. انتهى ..
- لكن الصور حديثة، لمَ أضفتها ؟ هل عدت إلى الحنين ؟
لا... لم أحــنّ.. لكني أمارسُ هواية البصق الجنسي على هولاء العاهرات ..وأحمد الله على كنز ثمين يجالسني ، يحبني ، يخاف علي ، يحفظ اسمي ، ويتسع قلبه لجنوني ونزواتي .. وأنتِ؟ أليس لك أصحاب في كل مكان، تتلقين اتصالاتهم عبر الهاتف أو البريد  الإلكتروني ، وأسمح لك ؟..

- الفرق أنهم أصحاب  لم أشاركهم نبضا ، حبا أو حياة . أنت سمحت لي بالصداقات لأنك تدرك أني لا أملك ماضيا (مسموما) وتعرفهم جميعا.. لم أخفِ عنك علاقاتٍ أخوية ، عاطفية ، زمالة ، قدمتُ بثوب ناصع ليس فيه ثقوبا .. وأنت تتابعــني بعيون مخابراتك وعملائك وعسسك، كيفما استدرت ..!
-  أغلقي الموضوع ، وتعالي لأحبك أكثر .. وأنسى ..!

"حبيبي، أحلم أني وأنت تحت بقعة سماء صافية اللون، أحتمي في صدرك الحنون ، وأغزل حشائش الأرض لك عشقا ".. أرفقتها مع قبلة في ماسيج .

      " وأنا  أحبك ، لا تشغلي بالك ، لولا الشرك بالله لعبدتك ، اكتبي كلما اشتقت إلي .. أنت في دمي يا ابتسامة أيامي .
 صباحك ورد ، عسل ، فراشات وعصافير ، كلماتي لا تسعفني للتعبير عن مشاعري..
(على فكرة ).. غيرتك رائعة لكن غيرتي (دون حد) تحمليها ، تعرفين كم أحبك ، حتى لو كنت أتفوه وأتصرف معك  - أحيانا- بمنتهى القذارة .
 أحبك يا نور العين .."
ويمضي اليوم بيننا..  صبي وصبية غافـَــلا الزمان والمكان ، يسرقان الفرح من سواد عين الحياة المُرْهِق ، يسورا الحب بعناقيد مرح ، وينهلا من نبع المودة ..
مساء السبت الأخير..!
ليلة نهرب فيها ، نختبيء في كهف اكتشفناه على ضفاف نهر الحب، نوقد نار الكلمة ، ننقش على الصخر وجه الأمل ، نركب بساط العنفوان ، نلاحق النجوم ونعبر التخوم ، ننام تحت ظل القمر ..
صحوت على  يد خشنة  تجذبني ، تسكب على رأسي دلو ماء ، تلقيني ، يتبعها صوت صارخ :(ابعتدي عني ) ..أكرهك ، دمرت حياتي  مذ ارتبطت بك.. كلكن (عاهرات قذرات) تركضن وراء (...) ومعسول الكلام .. دعيني أيتها (الزانية ) المخادعة ، الكاذبة ...
        - حبيبي ، مابك ؟ ماهذه الاتهامات الجائرة ؟..
 يدفعني و يغلق من دوني الباب .
               أقف في الشرفة. صقيع برد الشتاء يخترق عظامي والهواء يلسع وجهي ، موسيقى الحزن تصدح في أذني ، فتصطك أسناني وأبكي . أي ذنب ارتكبت؟  أين أخطأت ؟ ماذا فعلت  ؟ (خيانة ) ؟؟ وأنا التي تعيش في محراب الصدق والوفاء ، أفديه بروحي إن قال :آآآآآآه !!
ليس مخمورا ولا يتعاطى حبوبا ، لكنها (هلوسة) لا يحتملها  حتى المريض والمختل ..!
كم شارعا عبرت ومنعطفا طويت  ، كم ساعة مشيت ، كم دمعة ذرفت تحت المطر ، وكم من الوقت استغرقني طريق العودة ..؟
كقطة مشردة أنفض الماء ، ألعق فروي ، أتسلل نحو دفء خيمتي ، بيتي العتيق ..!

تمسح  أمي بكفها  الحنون جبيني ، تمسك( المصحف الكريم) تضعه فوق رأسي ، تتمتم بالأدعية ، تداعب خصلات شعري ، يغرقني الحزن فأتعلق بطوق رقبتها ، أسبح نحو صدرها  وعلى شاطيء رقة الأمومة  أستلقي ..
- من أتى بي هنا ؟
- وحدك ..
- لماذا حظي في الحياة عاثر ؟
- قضاء الله وقدره ، المكتوب على الجبين ، وأنت  قصة وحالة  كقصص نسائنا اليومية ..
- لمَ ربيتني على المبادئ ، الطيبة والتسامح، ومن صفعك على وجهك الأيمن أدر له خدك الأيسر ، والدين معاملة ، وووو..؟ أحببته يا أمي من أعماق الأعماق .
- هل أنت نادمة على التمسك بالأخلاق ؟ الحب وحده لا يكفي لرفع سقف بناء ، يحتاج إلى ركائز وأعمدة احترام ، ثقة ، تكافؤ ، ونضج ..؟
- لا.. لكني شقيت .. لبستني الهموم، وعرتني الصراحة، لأجل الأخلاق تزوجت صغيرة ، ولأجلها هُجرت ..
- زواجك كان في مصلحة شرف العائلة .. هل تذكرين ابن العائلة (....) الذي حاول اختطافك من أمام باب المدرسة ..؟
- طوال عمري جمالي، أنوثتي ، أخلاقي  نقمة علي ّ، حتى عندما أكملت دراستي، وتسلحت بالشهادات والعمل .
- طوال عمرك وأنت مرغوبة و محسودة من القريب والبعيد ..

تدخل أختي  الكبرى تحمل أوراقا بيضاء ، تبتسم بحنو مفتعل ..
- الأميرة استيقظت بعد خمسة أيام .. حمدا لله على سلامة العودة من رحلة  الموت ..
تضع الأوراق ، تسحب أمي بغمزة ، أبقى وحدي .. وأتصفحها، أغوص بين السطور:

اعتذار بشتى لغات العالم ، أحلام ، آمال ، مستقبل مشرق ، أموت إن ابتعدتِ ، أنتحر إن غبتِ ، أحبك حتى آخر رمق ..!
أكتب نعم في الورقة الثانية ، أشتري كرامتي ، أوقع على حريتي ، أوافق دون قيد أو شرط على كافة البنود المرفقة في قسيمة (الطلاق) .. يرتعش جسدي ، أتقيأ أيام عام ، أحضن اكتئابي ، ويطول الدوار ...!!

كاتبة وصحفية
الاردن

 







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=1920