الأدب والهِجـرة «الأدب الكردي نموذجاً»*
التاريخ: الثلاثاء 01 نيسان 2008
الموضوع: القسم الثقافي



 ابراهيم محمود

يتحدث جاك دريدا الفرنسي، ممثل التفكيكية، في كتابه (أحادية لغة الآخر)، عن اللغة، وهو يشير إلى أنه يتكلم بلغة، وهي ليست له، ليقول أن ليس لديه لغة تعنيه( لا لغة له)، ليشير إلى ما هو ما هو مهمٍّ هنا، وهو جعل اللغة مؤمَّمة من كل احتكار، نزع المركزية عنها، فتضم أطيافاً مختلفة فيها، لتكون جديرة باسمها، لتكون قابلة للهجرة إليها، جديرة للانسكان بها، فلا يمكن للغة أن تستمر دون وجود التنوع فيها.


والكاتب عبر اللغة يعيش اختلافه، يعيش الآخر فيه من خلال اللغة!
لكن من هو الكاتب؟ إنه ذاك الذي لا يكف عن الهجرة من مكان إلى سواه، ومن زمان إلى آخر. الكاتب، كائن مهاجِر باستمرار، لا حدود لهجرته، وبحسب طبيعته العضوية- النفسية، وصلته بالبيئة والمكان، لا توقيت لهجرته هذه،إنما ثمة حدود معينة، وتوقيت معلوم، كلاهما يرتبط به وحده. إن كلاً منَّا، وهو موسوم بالكاتب، مهاجر بامتياز. لكن ما هي الهجرة، ولماذا الهجرة هذه، ومن أين تستمد الهجرة أهميتها ، خطورتها، عبقريتها الرمزية والدلالية؟
كل هجرة، وبالمعنى العام، تكون انتقالية، تنقلية، ثمة حاجة ما، هنا، نحن نخضع لقانون الهجرة بحسب حاجتنا الطبيعية، إلى الاستقرار، إلى تأمين ما يلزم لنستمر في الحياة. بالتوازي، تأتي الهجرة الأخرى، تكون مكانية، تغييراً أو تبديلاً،أو بشكل دوري، فكرية ومعتقدية، ونفسية أيضاً، لنكون أكثر حفاظاً على تمايزنا، وهنا يبرز قانونٌ ما، يشملنا،أو نوجِده نحن. هل يمكن تحويل الكوجيتو الديكارتي: أنا أهاجر، إذاً أنا موجود؟ أعتقد أن ثمة حقيقة تاريخية تسنده!
الهجرة هنا متنوعة، لا جهوية، وجهوية في آن، تلبية لرغبة تظهر وتختفي في حالات، لكن عندما تكون الهجرة خارجاً، من جهة، وصوب جهة أخرى، تفقد الهجرة هذه، مدلولَها الطبيعي والنفسي الذاتي، وتصبح عندها تهجيراً، لأن الجهة المتوجَّه إليها تكون تحدَّدت من قبل المهجّر للمهجَّر بداعي التحكم بهً، والتهجير حالة طوارئية، لا يتمناها أي كان، لأنها قسرية، عنفية!
أتذكر ما قاله الاسباني الذي أطل بنا على الكثير من خصوصيات الهجرة، وجوهرها، حين أشار إلى (أننا جميعاً مهاجرون وأبناء وأحفاد مهاجرين. إن الكون متغاير وتحول وسوف يكون أكثر من ذلك مستقبلاً" انظر نص محاضرته (صورة الهجرة المجازية)، في صحيفة (أخبار الأدب) المصرية، بتاريخ 24-2/2008، ص 18)، ولكن هل نحن متساوون في الهجرة هذه؟
الموضوع شيّق وشائك، ولكي لا نقع في فخ التسميات وصدام المفاهيم المركَّبة، يتركزموضوعي حول الهجرة، ولكن من خلال الأدب، وأختار للدقة أكثر: الأدب الكردي، ومثلما حددت نوع الهجرة، وفي المجالات الأكثر إمكانية للنظرفيها، هكذا أحدد مفهوم الأدب موضوع البحث، استجابة لقانون حاضر، لا يمكن تجاوزه، وهوفي الوقت نفسه، ولا بد من النماذ ج إذاً، وأنا أتحدث حول الأدب الكردي، لأنه قابل للمكاشفة، كونه عالماً يستقبِل قارئه بشهية سياحية، ففيه الكثيرمما يغويه بالتعمق فيه، ليس لأفضلية له على سواه، وإنما لحداثته، مقارنة بآداب أخرى، وما أكثرها، وحداثة الموضوع والذي يمكن اعتماده في مقاربة كشفية واكتشافية لسواه.
ولكن، ولكي أحاول منح الموضوع قوة دفع محيطية أكثر، وربما طابعاً من الإثارة المعرفية الخاصة، فإنني أعتبر، ونحن هنا، وأنا قادم إلى هذا المكان مثل سواي، من مكان بعيد بعيد، حيث ثمة هجرة مؤقتة بداعي الرغبة، ولكنها رغبة الكلمة التي تعنيني، رغبتي في أن أتفهَّم ذاتي، وأنا أعرض مفهوماً للهجرة يدخل في إطار التعريف بي ككردي، وإن اختلفت اللغة، أعتبر أن الأدب الكردي حكائي بامتياز، في كل ما تميَّز به من شعر بداية، بأصنافه المختلفة، ومن قصة، ورواية ، ومسرح، في الترتيب الأخير، استجابة لقانون الهجرة الذي يلزم باللاثبات، وانعدام المكان الذي يستوعب ساكنيه، لمقاربة مفارقاته، وبوقت كافٍ، وعندما أربط الأدب الكردي بالحكاية، فليس تقليلاً من أهميته، وإنما تكبيراً له، وحتى محاولة تعريف بأهمّ ما يميزه مأسوياً في وجوده. فالحكاية تكون الهجرة عمودها الفقري، حاملها الجغرافي لأنها تقطع حدوداً، مثلما تعبر أزمنة، دون أن تسمّيها، ونعرف كل ذلك، من خلال صفات ترافق شاغلَ الحكاية المهاجر بلباسه وصوته وكلامه، ونعرف هذا أيضاً من خلال الصيغة الحكائية لما نتحدث فيه، ونتبارى حوله، في مختلف ما يعنينا، أو ربما لا نكفُّ عن الحديث فيه دون تدقيق، فثمة جانب لاشعوري، دائم الهجرة فينا، ونحن نرغب في تأكيد ذواتنا، بطرق شتى، تصدمنا  الصيغة هذه، بمنطقها أحياناً كثيرة، وهذا الجانب، من صُلب الحكاية كبنية وكدور، في الجمع بين عوالم مختلفة، وذلك يستجيب لداعي التنقل من داخل الذات، وخارجاً، على أن هجرة ما، مرتبطة برغبة أخرى، لا تعني رغبة الكائن فينا، حيث أن الذي نتعرف عليه في الحكاية، يصدمنا بطريقته، وكأن قوة ما، خارج إرادتنا تشرف على الحكاية هذه، في صورتها العامة.
ولعلّي أشير هنا، إلى فلاديمير بروب، في (مورفولوجيا الحكاية الخرافية)، وكيفية نبشه في الحكاية هذه، ومكاشفة أصولها، ولكن ما يعنينا، هو الطابع المشترك بين مختلف الشعوب في هذه الأصول المختلفة أو المتشابهة، لأن الذين يمثلونها هم مجسدو قيم اجتماعية ورمزية.
وأنا هنا أشير إلى أهمية الحكاية للكرد، ربما أكثر من سواهما، لأنها تشكل لسان الكائن الذي يعيش حالة الهجرة مضطراً بذاته وفجيعة النهاية فيها، أو تحت حافز ما، أو لتحقيق رغبة ما.
لماذا الإصرار، على أن الحكاية هي البيضة التي فقست أصناف الأدب المعروفة، وكل صنف أدبي كردي، مازال يتنفس برئة حكائية، والشعر الأقرب إليها، يبرز أكثر مجاراة في لغته للغة الحكائي، وهو في أكثر تطلعاته حداثية؟ هذا يرتد إلى التأثير المضاعف لفعل الهجرة فيه.
إن كلمة  çîrok ، في الكردية، تجمع بين الحكاية والقصة، ثمة خلط عوالمي، بين الحكاية المتنقلة،أو المترحلة، عبرالألسن، فالذاكرة هي صفحتها الورقية، ولكنها غير أمينة، إذ في كل فعل ِتكرار، وبحسب الأمكنة، تخضع الحكاية لمنطق خاص بها، منطق الهجرة الذي يخص الحكواتي الكردي، وقد تنوعت أحواله، وفي ثقافة غير مكتوبة، لأسباب سياسية، كما يقال عن الشعرالجاهلي عند العرب، والوضع هنا له ميزته، في التحويروالتبديل، إذ السعي إلى البقاء، يضفي على الحكاية في تعددية أشكالها ضرباً من المناورة والتقدم في كل اتجاه، وهذه حالة هجرة، وما المعتمد عليه كتابياً، يعيش صراعاً في المكان وعليه، أو للتمثيل المكاني، واستقلالية الذات، حتى لو استقرالكردي في مكان ما، كما نعلم، فهو ذاته تضمين حكائي، هجراتي.
إن حالات التحول في الحكاية لدى الكرد، من خلال تعددية نسخها، هي ذاتها مرايا متحركة لمفهوم الهجرة، وما في الحكاية من علاقات بين أشخاص وكائنات، فعل هجراتي كذلك، وأن النهاية المفجعة، في الحكايات الكردية الأكثر تأثيراً، ترمي بصورة ما، إلى دوم تأثيرالحدث.
مفاصل كبرى:
ثمة تفاوتات في مفهوم الهجرة، من جهة المسافة والزمن، والمبتغى من فعل الهجرة، ومن يكون  المهاجرهنا. إن حاجاتنا تسمّينا مهاجرين باضطراد، وتناميها أوتعقدها، يصعد من وتيرة الهجرة!
كيف نكون مهاجرين، حتى لو كنا في ذات المكان، ونحن إزاء الأدب كنشاط متفعل حياتياً؟
لن أتعرض للهجرة في الأدب الكردي، وعبر الحكاية، وكما نعيش مناخاته راهناً، بأسلوب استعراضي، ولو أن الوقت لا يسمح لي في أن أستفيض في هذا المنحى، ولكن حسبي أن أقول، أن الأدب الكردي ما زال يحمل الدمغة الكبرى للحكاية، لأن جغرافيته المَوطنية، أي تلك التي تعنيه مباشرة، ملحقة بمن يلحِقه به، وإذا كان للجغرافيا من سقف فهو تاريخها، وهذا يمثّلها قسراً.
ثمة رهاب هجرة في الأدب الكردي هذا ( فوبيا)، لأنه محكوم بالهجرة، كسوط تاريخي على ظهره، إن التاريخ ليس فزَّاعة الكردي، إنما المهدّد له: إياك أن تستقر، إياك أن تتصرف كالآخر، أنت لست إلا صورة محكومة بإطارها، وبمن يرمّزها...هذه علامات من ذات المكان، مرهوبة الجانب. إن الهجرة، وكما هو المقروء في الأدب الكردي، والذي يعاني هوس الاستقرار في المكان، حيث المكان هذا يضيق به بصور شتى، يتهدد الزمان المرافق له، حتى بالنسبة لذاكرته، فهي ليس رياضية، إنما كيميائية، باعتبارها تخضع لتفاعلات، لمعادلة الجهات التي تقيم فيها، تحلّل قليلاً، وتخضع لحالة تذويب لذاتها، وفي الكيمياء الكردية، تحضرالحكاية، كفعل هجرة، من خلال التقاء بين عوالم أو أطراف، لأن وجوداً ما، يسمّي المهاجرهنا.
لنتساءل مباشرة، ماالذي جلب مم آلان من الخارج البعيد، وهو ذو حسب ونسب مشهورين، والملغَز حتى الآن، وشغل أذهان الباحثين وسواهم، ليلتقي زين، وهذه بدورها ذات حسب ونسب معروفين، وهذا ما يجعل من هذه الحكاية المصاغة شعراً، وتلك الأولى، وربما حكاية باكورية، لم يُهتد إليها بعد، في مصاف الحكايات العالمية في مقومات تكوينها. تُرى ماالذي جمع بين مم وزين عند أحمد خاني؟ ليكون الشعر شاهداً على عصره، وسابقاً كانت الحكاية تلك تغنَّى؟ ما الذي يقوله لنا خان دمدم  ذو الكف الذهبية؟ ماالذي أوجد العلاقة التضادية بين زمبيل فروش"بائع السلال" والست الغنية والجميلة؟ كيف تقرَأ لعلاقة بين كل من سيامند وخجي؟ وهذه جميعها، تشهد على فجائعية النهايات فيها، وحتى بالنسبة للحكايات الأحدث، كما في حال درويش عبدي، وصالح وفاطمة وجتو...الخ؟ لا بد من البحث عن الحكاية، لا بد من اقتفاء أثر الحكاية، لنتفهم التاريخ هنا أكثر، ممَّا لا يعتبَر تاريخاً، ولكنه يفيد في قراءته، بمصداقية أشد، وكمدخل رحب، لمكاشفة البنية الذهنية والنفسية للأدب الكردي، وهجريته. إننا نتلمس في مم آلان، وهي المعتبَرة جامعة حكايات، وسنبلة احتوت بذور حكايات معروفة كردياً. إن عالم مم آلان، وما أوسعه نطاقاً، ومن خلال علاقاته الهائلة والبادية الغرابة، يشهد على مدى تأثير الهجرة، في الجمع بين الناس، ليكتشفوا أنفسهم، ووجودهم الفعلي، وهم في حالة هجرة، وفي السياق، فإن بكّو، أو بكو عوان، هو البطل الأكثر نموذجية في الحكاية كردية، لكنه صار أقرب إلى الشر المحض، في الإيقاع بين المحبّين، وممارسة النميمة (تصوروا لو أننا ألَّفنا كتاباً عن النميمة في التاريخ، ومن موقع تاريخي!)، وهو الأكثر ارتحالاً، وبدقة أكثر: هجرة في النفوس، وفي حياتنا اليومية، كما هو مهتَمٌّ به، لقد خرج من حدوده، من أصله المباشر، وصار رمزاً مهاجراً كردي العلامة، وبوسعه أن يتلبس أياً كان، لماذا؟ لأن ما يتمثله يمكن أن يخيف أياً كان، أو يشكل سلاحاً لتهديد سواه، وهو يغيّر ألوانه. إن النميمة تلغيم للمكان، أعني بها، تغليب التوترعلى الاستقرار، والكردي يدرك هذا الجانب الإشعاعي كثيراً في حياته.
وأحمد خاني، كمثال، لم يكن يتعرض لمم آلان: الحكاية المهاجرة، القابلة لزيادة والنقصان، ويوجد حكايتَه الشعرية هو الآخر، كما لو أنه مبتكرها، وثمة من يعتبرها ملحمة، إلا لأن ذائقته الشعرية استَحلَتها، إنما لأن مساحة الهجرة فيها هائلة، بالنسبة لشخوص حكايته، في اختلاف مقاماتهم الاجتماعية. وربما كانت نهاية الحكاية، والمتمثلة في موت بطليها: مم وزين، ومن كان سبباً في إبعادهما عن بعضهما بعضاً، وهو بكو، ما يفصح عن حالة هجرة أخرى، قد يكون لموقع الكردي، اعتبار كبير، أو دور كبير في واعية خاني، حيث الموت المفجع هجرة إلى الأمام لا تتوقف، أي إلينا (تُرى لو لم تكن النهاية هكذا، هل كنا نعيرها الاهتمام الذي تُعرَف به؟). إن هجرتنا المستمرة إلى أحمد خاني، هي هجرتنا إلى أنفسنا كثيراً، يثيرنا الموت الأليم، لأن ثمة ما يهاجر داخلنا، تحت طائلة الموت يومياً، إذاً ثمة بحث عن النديم، الشبيه الرمزي! بغض النظر، عن مدى دقة الهجرة هذه، وما كانه خاني في زمانه واقعاً، لأن القيم المرسومة فيها، تفتننا، ونحن نعيش حالة لا استقرار، أي يكون في كل منا، ما عاشه خاني، وما تبدَّى عليه مم وزين، وعرِف به بكو، فالنهاية المأسوية لما تزل مفتوحة، وخصوصية الحكاية الأصل، كما أفترض هنا، هي خصوصية الكردي، وهو يخضع لمنطق هجرة، يستحيل عليه الإحاطة به، لأنه محصوركثيراً داخله، ولهذا أعتبر خاني الحكواتيَّ الكردي الأول، إذ لازم شقيقة حكايته الشعرية، والأسنَّ منها، ومنحها حضوراً تاريخياً فاعلاً. إننا وإذ نلتفت إلى مم آلان وزين، وهجرات شخوصه شفاهية، ننظر إلى مم وزين وتفعيل هجرتهما فينا!
 ليس من مجال مفتوح لننطلق، كما نرغب في إملاء الشاعر هنا، بصدد خانة كل من الشعر والرواية والقصة والمسرح، إنها هجرة أخرى، والمهاجر، لا يحمل متعاً ثقيلاً. أختصر إذاً!
لنتحدث عن الشعر الكردي فليلاً، وكيف يبدو هجراتياً وحكائياً! وما تقدمنا به لم يكن مغادراً للشعر، ولكن بصيغة مختلفة، من جهة الزمان والمكان. ولنمثل الحكاية الجكرخوينية هنا!
ليس جكرخوين، هو بداية الأدب الكردي، لكنه نموذج طافح ومؤثر بالهجرة التي لاتهدأ، ليس لأن جكرخوين شاعر متفرد، بالمقابل، وإنما لأن المدى الذي يشهد سلسلة هجراته، ومعاودة الاهتمام به، وأبعاد الاهتمام هذا، تبرز ذلك، كما لو الجدير بالمتابعة البحثية هم نحن وليس هو ومن هو قبله، من الذين برزوا شعراء، أو في مضمار الحكاية الكردية الموسومة بالهجراتية بقوة!
ففي بنية القول الشعري عنده، ثمة دائماً حالة هجرة بين ما يعيشه الشاعر، وهو يعاين الواقع، في تنوع أبعاده السياسية، والقلق الذي يجلوه داخلاً، وما يجسّده في شعره. إذ إن شعره لا يخرج عن حالة الهجنة ، وهي مركَّبة من خطابية نابعة من حياته السياسة، ووعظية إرشادية، تتناسب وواقع الثقافة الكردية الشفاهية في المجمل. ثمة بكو باستمرار يمارس دق الإسفين بين أفراد شعبه، وثمة مم باستمرار يضحى به، وزين يمثَّل بها، بحيث أن الرؤية الشعرية للعالم عنده، لا تخرج عن نطاق المواجهة بين واقع مستقر، ولكنه لا يمثل الكردي، لأن ثمة من يمثله ويتحكم بمقومات الحياة فيه، وواقع معاش نفسياً، ممزَّق وممزّق له، من جهة التقسيم الجغرافي لكردستان، عدا الشعور المستمر بالاضطهاد، والذي يلاحقه أنى حل واستقر، حيث يقول في ديوانه (السلام، ط 1985، ص 177):
هأنذا في السابعة والسبعين من عمري
وأنا نهب الآلام والآوجاع
ولعله يحتفظ بصورة مشرقة لخاني في ذاكرته ، في هذا المجال، فهو سلف رصين له (أذكّر بقصيدته (مرشدنا أحمد خاني)، في ديوانه الأول (الناروالجمر) وصلتها بالموضوع، إلى جانب الجزيري، إنهما مهاجراه النموذجيان، ولكنه، في تاريخه المختلف، مطوّر الحكواتية المحفّزة على تبصرة الواقع بصورة أفضل، وهوفي سباق المسافات الطويلة، إن جازالتعبير، وفق تصورات خاصة به، تشغله الهجرة وآلامها، كما هورحيله الأبدي بعيداً عن مسقط رأسه، وكأنه أراد تعزيز فكرة الهجرة في أسلوب حياته، وطريقه موته، بأكثر تجلياتها مأسوية، استجابة لرغبة هي أقوى منه، قارَّة فيه تاريخياً. وليس هذه العودة المستمرة إليه، إلا لأنه معمّق حالة الهجرة، والقيامة الروحية الشعبية الطابع، في نفوس بني جلدته، وأن لغته البسيطة وفي مستوى واقعه الاجتماعي، ما زالت تؤكد حيويتها، ليكون مفهوم الشعر هنا منطلقاً من خصوصيه اللهجرة المركَّبة فيه!
في هذا الإطار، ماذا يمثل شاعرٌ حداثي من نمط شيركو بيكه س؟ إن قراءة شعره، تذهب بنا بعيداً، من خلال تنقلاته، وتنوع موضوعاته، أي عوالمه الشعرية، كما لو أن ليس من أرض تسنده أو تأويه، وهو المسكون باضطراب العوالم، إذ نقرأ في ديوانه (الصليب والثعبان، الترجمة العربية،ص 116):
أنا المتحف المتنقل للتشرد
لا أملك سوراً كما هو جسمي
مفتوح طيلة الأربع والعشرين ساعة كما سهلي
مستعد طيلة الأربع والعشرين ساعة كما دمعي
ليس في بيكه س، كما هو لقبه، ما يفضي إلى السكينة، إنما هو البحث اليوليسيسي عن عالم يستوعبه بجغرافية تعنيه، يكون جاراً للآخرين، وهؤلاء جيرة له، دون هجرة قسرية. إن هذا يمكن السير بمقتضاه في النصوص الشعرية لآخرين، وما أكثر الآخرين من شعراء الكرد في تنوع مشاربهم، وعندما أتحدث عن الهجرة، أشدد على ذائقتها المرة للعالم، من جهة الحامل لها.
وفي الرواية، تبدو الحكاية السالفة، وبصورة مباشرة، حالة هجرة متحولة باستمرار، كما هو اختلاف المكان والزمان كردياً، وتحضرني هنا رواية محمد اوزون (يوم من أيام عفدال زينكي)، حيث الحكائية غالباً عليها، كما لو أنها خرجت من معطف أحمد خاني اللاحق، من خلال الحكواتي نفسه "أحمد فرمان" وهو يسرد حكاية عفدال المغني ومحبوبته كلي، والمشاهد سياحية بامتياز، من ناحية الوصف، لكن فعل الهجرة بالصيغة السابقة، يتأصل أكثر في روايته الأخرى (صرخة دجلة) والحكواتي، وعلى أكثر من سبعمائة صفحة، وفي جزئين، لا يتوقف عن إدهالنا في مغامرات المكان والزمان، عارضاً مشاهد مصورة لمم آلان (صوت زنزانة مم آلان، كان ذلك، دون شك، في ذلك الوقت، صوت التاريخ الذي جرى، ثانية، في الأيام المماثلة تلك، يتكرر بكل المقاييس: صوت تاريخ الحروب والنزاعات، للمواطن والأوطان، للأفكار والمشاعر..ج2،ص137). ليس هناك ما هو أكثر التفاتة للنظر من طبيعة الهجرة وحدَّتها في الرواية هذه، ومن مناخها المأسوي. وهي ليست استعادة لخاتمة مم آلان، مم وزين الحدادية، وما أكثر الخواتم المأسوية في الحكايات الكردية، إنما استمرار لوضع ساري المفعول عنفياً.
وما لدى لالش قاسو في مجمل رواياته (المتنور) مثلاً، أو حسن مته (القيامة) من خلال بكو: الشخصية الرئيسة، ورواية (خريف متأخر) لفرات جوَري، وجان دوست في (مدينة الضباب) ، وحليم يوسف (خوف بلا أسنان)...الخ، تجلّي حالة الهجرة الدامية، استجابة لرغبة حكواتية قاسية، كما هو المقروء في السرد الأدبي عند هؤلاء.
وفي قصص كردية كثيرة، تكون الهجرة فاعلة، كمؤرّق لكتابها، لدى فواز حسين، في (مدينة عامودا)، وحليم يوسف، كما في (مم بدون زين)، وأنور كاراهان وحسن مته ورضوان علي ولقمان بولات....الخ، يمكن تتبع خيط الهجرة، وكيف تتفعل الحكواتية، في نصوصهم الأدبية المختلفة في أساليبها السردية، وهي الحكواتية التي تسند ظهرها إلى جغرافيا دامية، وتاريخ يدمي ملامحهم. وعندما أكرر"الحكواتية" فليس لأن المكتوب هنا حكائي، وإنما يتبدى على خلفية حكائية. إن الشعور بالاضطهاد يحيل صاحبه باستمرار إلى راوية متنقل في الأمكنة، بذاكرة حكواتية، لأن القول السردي يتوسل قارئاً، وبدقة أكثر مستمعاً ينظر في وجهه، وهو أمامه في مقام الحكواتي الغائب، ومنتج الأثر الأدبي بالمقابل.
إلى أين تقود الهجرة هذا الأدب الكردي؟ إلى حيث يبقى هذا الأدب محصوراً بين حدود مراقبَة ولغة مشتتة تشدد أهليها، وهذه اللغة تستثير الذاكرة الحكائية أكثر من غيرها، إذ الظروف تحتّمها، وذلك يتوقف أيضاً على أولي الأمر! وأكرر مجدداً: إن وجودنا هنا، كان تحت إلحاح الذاكرة هذه، وفعل الهجرة كذلك!
------------------
*- ملاحظة: هذه المقالة، هي مساهمتي التي تقدمتُ بها في ندوة (التعايش عبر الثقافة) التي أقيمت في موسكو، بتاريخ 16-32008، من قبل كلٍّ من التجمع الثقافي السوري في روسيا، والتجمع الكردي السوري في روسيا، وقد ارتجلتها، إذ ركَّزت على الفكرة المحورية، وأنا أشدد على أمثلة أدبية محددة كردياً، لحالة التداخل بين كل من الأدب والهجرة (الأدب الكردي نموذجاً)، دون المساس بمضمون الفكرة هذه، ونشر المقالة كاملة، ومن باب الضرورة، كما أعتقد، يوضح ما ارتجلتُه هناك!







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=1488