بين النفاق الأدبي والإطراء . ما هكذا يكون النقد يا ..... (2)
التاريخ: الثلاثاء 22 كانون الثاني 2008
الموضوع: القسم الثقافي



 بقلم : أحمد فراج العجمي

    أحببت أن أردف مقالتي السابقة بصنو لها تتكاتف معها في تأصيل المنهج وتوضيح الأمر الذي ابتدأناه سلفا وهو : بعض سلبيات النقد على صفحات "الإنترنت" خاصة .
   أقول – وبالله التوفيق – : لعل القارئ لم ينس اعترافي بأنني هنا لست ناقدا، وإنما هي نظرات ومشاهدات، أحببت أن أعبّر عن مرادي فيها، وما تراءى إليَّ منها ، وقد سبق قلمي إلى اتجاه من الاتجاهات البارزة في مناهج النقد الموجود على صفحات "الإنترنت" وهو " التعسف " ، والآن يلج في بيان اتجاه سلبي آخر سبقت الإشارة إليه في مقالتي السابقة وهو " الإطراء " ..


الإطراء الأدبي له جذور تضرب في عمق الثقافة العربية والغربية والعالمية، وقد ذكرت مثالا له في النقد الغربي في المقال السابق، أمَا وإن مقالتي هذه تتعلق به وتدور حوله وتؤصل بعض الفروق اللغوية بينه وبين غيره من الألفاظ – ليس تعليما لنقادنا فهم أدرى بذلك مني ، ولكن من باب الاستئناس- لذلك أفضل أن نتوقف قليلا عند هذا المصطلح لغويا 
  أطراه لغة : مدحه بما ليس فيه ، كذا قال الأزهري ، وفي المحكم : أطراه أحسن الثناء عليه، وقال الهروي وابن الأثير الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه . تاج العروس للزَّبيدي .
وصدقوا؛ حيث إن الإطراء صفة ذميمة لما يتبعه من الكذب والتبجيل والإجلال لشخص ليس فيه كل ما مدح به، وكفى بالإطراء سوءا أنه تسبب في إضلال أمم سابقة عندما بالغوا في مدح صالحيهم وعلمائهم، حتى قدسوهم واتخذوهم من دون الله أولياء ، ووصل التحذير منه لدرجة أن يأتي نهي شرعي عنه ، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النَّصَارى عِيسى بنَ مريم " قال شعيب الأرنؤوط : صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين .
  لذلك لا يجوز مضاهأة الضالين واتخاذ طريقهم منهجا في الأدب والنقد أو غيرهما؛ فالإطراء يعمي الحقيقة، ويزيف الحق، ويحول الصواب، فلا تعرف التزيين من التهجين ، والمدح من القدح، فيرتفع المرء عن قدره ، ويضعف قدر الآخرين أمامه وإن كانوا أفضل منه ، ولست أرى في الإطراء بابا هو أسوأ من أن يطري المرء نفسه فذلك منكر عظيم وإفك مبين .
أما  إطراء الآخرين فله سهم كبير أيضا من التدليس والإجحاف ، ومن العجب أن نجد من يغلو فلا يكفيه الإطراء ليمدح من يهواه، فيحقر من أمر الإطراء ليقف على ما هو أعظم منه . قرأت في بعض المقامات أظنها للسكندري بيتا يقول :
يا ذَا الَّذِي يَعْنيهِ ذَا الثَّناءُ         ما يَتَقَضَّى قَدْرَكَ الإِطْرَاءُ
وهاك بيتا مكتوبا عندي لا أعرف قائله يقول :
ما يبلغ الإطراء من سيد            فوق الثريا قدره معتلِ
   ولا يخفى على القارئ الكريم ما في هذا الكلام من سفه وسخرية يدركها من له أدنى عقل، وصدق من قال : "من مدح الرجل بما ليس فيه فقد بالغ في ذمه".
  فالإطراء الفني أو الأدبي أو النقدي ضرب من الخداع ، ومقصد مذموم يعوق الأدب عن مساره ويعرقل الأديب عن تحسين مقاله ، وإنما نتج عن شدة تحكم الهوى بقلب من يمدح فلا يرى إلا شخص الممدوح ، أو من شدة العجب بما قدم من أعمال توافق مزاجه وهواه، وقد يكون لتبادل تجاري ومنفعة مردودة كما يقال " صفق لي اصفق لك "؛ لذلك لا أرى أن المدح المبالغ فيه جاء من باب العلم بل هو وليد الجهل وربيبه .
    وحتى أكون موضوعيا في مقالتي هذه فواجب عليَّ أن أفرق بين الإطراء وبين بعض المصطلحات التي أصبحت نتقاذف بها دون وعي بمعناها، وبالفروق الدلالية والمعنوية بينها وبين الإطراء .
أعني : التوقير ، المدح ، الثناء والتحفيز ، النفاق .
أما عن التوقير : قال تعالى( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) التوقير هو الاحترام والإجلال والإعظام . تفسير ابن كثير .
وللحافظ الذهبي- رحمه الله تعالى - كلمات نفيسة ذكرها في كتابه: "ميزان الاعتدال" قال : فالغلوُّ والإطراء منهيٌّ عنه ، والأدب والتوقير واجب ؛ فإذا اشتبه الإطراءُ بالتوقير توقف العالم وتورع "
    ولعل هذه الكلمات الذهبيات لصاحبها الذهبي تفرق جليا بين الإطراء والتوقير، فالتوقير هو إظهار جانب الاحترام للشخص، بغضّ النظر عن مخالفته في بعض الأمور وهذا من الأدب الجليل الذي أصّله ديننا الحنيف ورسّخه في الجانب الأخلاقي الإسلامي .
    فالناقد الذي يخالف الأديب في رأيه أو غير ذلك وجب عليه التزام الاحترام والأدب معه، أو يتورع ويتوقف  كما قال الذهبي. والتوقير لا يتفق بأي حال من الأحول مع الإطراء ومن يدقق يجد أنهما على طرفي نقيض، فالتوقير صدق وذوق ، والإطراء كذب وجور وحمق .
وأما المدح ، فالفرق بينه وبين الإطراء أن الإطراء "هو المدح في الوجه والمدح يكون مواجهة وغير مواجهة".  الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري .
   فمدح الناقد أو الأديب لأدب ما أو لصاحب هذا الأدب هو عندي على صنفين : صادق وكاذب، أما الصادق فهو الذي يقوم على شعور داخلي صادق ، ومقاييس ودلائل صحيحة تدل على وقوع صفة المدح على الممدوح وقديما قالوا : خير الشعر أصدقه . وقيل كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه.
وإنَّ أَحْسَن بيتٍ أنت قائلهُ ... بَيْتٌ يقالُ إذا أنشدتَه صَدَقَا
   وهذه صفة محمودة، وظلت رائجة في عصور متعددة لا يفقدها من بحث عنها أو استقصاها في بطون الأدب العالمي ، والمدح من باب الاعتراف بالإحسان ، وكل أديب بحاجة لمن يذكر حسنات أدبه، ومهما وصل إلى مكانة إلا أنه يفتقر دائما إلى مدح الناس .
وأذكر هنا أنه قد يمدح الأديب نفسه وأدبه ويجد استحسانا عند البعض، على عكس ما قلت في إطراء الأديب نفسه سابقا ، فنجد المتنبي يقول :
 لا تطلبن كريما بعد رؤيته ... إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أُحمِد الصمم
ونجد ابن الأثير يقدم لهذين البيتين واصفا المتنبي بالصدق فيقول: ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:  "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"    ابن الأثير الكاتب.
 والصنف الثاني هو المدح الكاذب الذي لا يقره عقل صحيح ولا أدب فصيح، ولو رجع القارئ إلى حال الممدوح لتبين له فحش الكلام وسقط اللسان بإنزال الشرف في غير محله والتعظيم في غير أهله، فلا يفرق القارئ العادي بين مكانة أدب وخسة آخر ، وجودة شعر وبذاءة آخر ، ورفعة فن وضَعَة آخر . مما يضر بالأدب أعظم ضرر ، ويترك في توهين حركة النقد بالغ الأثر .
فالمدح إذن وإن كان ينبع من شعور داخلي صادق لكنه يفتقد الصدق الواقعي ؛ لذلك نحن نرفض الكاذب منه ونقبل الصادق .
لذلك استحسن بعض الشعراء الإطراء إذا كانت الصفة تقع على الممدوح فقال بعضهم :
 فأما سجاياه فقل في كمالها    ولا تخش في الإطراء لومة لائم 
 فأجاز الإطراء لما وجده من جميل صفات في شخصية الممدوح . وعلى ذلك جرى الشعر العربي على مر العصور من إغراق المعاني على الممدوح لِظنِّ الشاعر بوجود الصفة في الممدوح ، وتقبلها النقاد لدرجة أنهم استحسنوا قول ابن نباتة في صفة الفرس:
وأدهمُ يستمدُّ الليلُ منه ... وتَطلُع بين عَينَيه الثُّريَّا
سَرَى خَلْفَ الصَّباحِ يطير مَشْياً ... ويَطْوِي خَلْفَه الأفلاكَ طَيّاً
فلَمّا خاف وَشْكَ الفَوْتِ منــه ... تَشَبَّثَ بالقوائم والمُحَيَّــا
وذلك في الفرس ، ما بالك في مدح الأشخاص ؟ فمثلا المتنبي في مدح سيف الدولة ، استحسن النقاد معظم شعره لأنه يقوم على صدق حقيقي واحترام متبادل، ولكن عندما غادر المتنبي ممدوحه إلى كافور، عاب النقاد كثيرا من قصائده لأنها أصبحت لا تعبر عن صدق داخلي واحترام يجده المتنبي في صدره تجاه كافور ، بل إن المتنبي نفسه قام بهجائه وعاب نفسه على سلوك هذا المسلك .
والمدح في حقيقته يعبر عن وجهة نظر الناقد في العمل النقدي أو الأديب ، لذلك لا نستطيع أن نلوم الناقد في نظرته لشعر شاعر أو لعمل أديب . ولا نرفع عليه سيف الكلمات الصامتة الموجعة لأنه حسّن عملا أو قبّحه، وإلا فكل النقاد القدماء أصابتهم تلك اللعنة من هؤلاء المنتقدين المحدثين ، حيث ورد في كتاب المزهر لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر : "سئل الفرزدق فقال: امرؤ القيس أشعر الناس وقال جرير: النابغة أشعر الناس، وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس، وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس، وقال ذو الرُّمة: لَبيد أشعر الناس، وقال نَضْر بن شُمَيْل: طَرَفة أشعر الناس، وقال الكُمَيْت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس، وهذا يدلك على اختلاف الأهواء وقلة الاتِّفَاق." أقول : أنظرت إلى تعليق الكاتب ؟ أوعيتها .
ولا ينس أحدنا أنه ربما وقع الاختلاف في فهم العمل الأدبي أو فهم مقصود أديب أو ناقد آخر  نتيجة قصور شخصي في تلك المسألة التي ينقب فيها ولنتذكر سويا قول المتنبي :
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً         وَافَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
وأما الثناء والتحفيز ففرق واسع وبون كبير بينهما وبين الإطراء ، وأعتقد أننا جميعا نتفهم المعنى ولا يحتاج ذلك إلى استطراد كلامي ، فكلنا - لا شك - دفعنا نحو التقدم ثناء ربما غيْر واقعي، وأنت أيها الناقد لابد أنك كنت تحب الثناء في بداياتك، فكم من كلمة قيلت لك كان لها أثرها الوهاج الذي حملك بثقلك إلى الأمام وبخطوات واسعة ، وأظن أن الناقد الذي يهدم فكرة الثناء في الأعمال الأدبية ربما ما أثنى عليه أحد قط، أو أنه ليس بحاجة إلى هذا المسمى في حياته الأدبية والعملية ! فتأمل .
وأخيرا مع هذه الكلمة التي من أجلها كتبت مقالي ، وهي حول النفاق الأدبي وعلاقته بالإطراء.
ليس ثمة من يزعم أن كثيرا من المطروح على الساحة النقدية من قبيل النفاق الأدبي ، لأن هذه الكلمة في حقيقة الأمر كبيرة .
لا أحب من يرمي الكلام على عواهنه، يتقاذفه الهواء والهوى يمنة ويسرة ، ولكن لابد من تحكيم العقل ، وقبول العذر ، والرفق وعدم التشهير ، عجبا لأمر الأدب في هذا العصر الذي أكلته الكلمات الخاوية ، وشربته الأحقاد المترامية، فلم يبق منه إلى شذرات من الأخلاق الفاضلة يعتصم بها من يعتصم .
إنني كما سبق ونفرت من التوغل في الغلو والإطراء بل الاقتراب منه ، أيضا أنفر من النفاق الأدبي الذي يقوم على حب المصلحة بل أجده أشنع من الإطراء ،؛ ذلك لأن ثمة فرقا مهما بينهما ، ألا وهو : ينبع الإطراء وبالأولى المدح والثناء من منبع واحد وهو الحب أو التقدير فهناك صدق بين ما يبطنه الناقد وما يظهره ، إما بجهل كالإطراء والمدح الكاذب ، أو بعلم كالثناء والمدح الصادق .
أما النفاق فهو إضمار ما لا يظهر وإسرار مالا يعلن ، لا تحترفه إلا النفوس المريضة والقلوب الميتة ، فهو في الحقيقة مخالفة الناقد مع نفسه لأغراض دنية ومصالح شخصية ، لا يقوم كلامه على صدق فني أو شعوري أو واقعي ، والنفاق قد يكون مدحا وذما ، المهم أنه لا غرض له إلا النفس فقط ، فمن جرائمه في دورة الزمان أنه نخر عضد المجتمعات وفرق شمل الكلمات ، وأخر الإبداع والتقدم والرقي .
الخلاصة : كلمة بهذا الثقل المعنوي والدلالي "النفاق" يجب أن نتوقف أمامها كثيرا ، قبل أن نسقطها على عمل أدبي أو أديب ، وتلكم كلمة أختم بها قولي : النفاق عمل قلبي داخلي لا يطلع عليه إنسان فلنتوقف عند حدودنا، فالصحابة كانوا يسألون صاحب سر الرسول – صلى الله عليه ويسلم – عن أسمائهم هل هم ممن ذكرهم الرسول من بين أسماء المنافقين . والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فلنقل خيرا أو لنصمت، عجبا !
بقلم : أحمد فراج العجمي . ليلة الثلاثاء 21/1/2008م
 






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=1306