سنوات الكرتون
التاريخ: الجمعة 30 تشرين الثاني 2007
الموضوع: القسم الثقافي



عبدالرحمن عفيف

ربّما آتي يا أدهم شوشا إلى بيتكم فقط لرؤية هذه الطّاولة التي وضعتموها قرب النّافذة، ربّما كانت لي ذكرياتٌ مع سجادتكم وأردت أن أنظر إلى أفكاري فيها بعد السّنوات التي غبت عنها في المجهولِ وربّما شممت رائحة عرس بعيد منذ أعوام والآن أشمّ نفس الرّائحة وكبر الأولاد فصاروا شبّانا وتزوّجوا والفتيات كبرن وتزوّجن، ففرغت عامودا من المعروفين وصارت مليئة بالمجهولين والسلالم لم أعد أراها على أركان الجدرانِ، لقد تغيّرتم بالفعل. ضحكتُ من جهتي من هذا الإعلان، يأتي بعد سنوات من السّجن والقراءة والتثقيف ولا يعترف أنّه يأتي إلى الشّاعر صديقه بل إلى السّجّادة والنّافذة والطّاولة، شاعر الأوراق الحزبيّة والأحزاب الكرتونيّة والإبريق على سطح بدل المداحل.


وماذا سيقول لك الكرسيّ الذي لم يجلس عليه أحد وماذا ستقول لك المدحلة التي على الأرض وهي تتكلّم مع المدحلة فوق السّطح؟ ونحن شعراء عامودا في هذه السّنين لم نكن نخصي الضّفادع، بل نقرأ ونكتب ونحبّ ونغيّر. خذ جيكلوفسكي ومينورسكي والبنيويّة والتفكيكيّة والكرتونيّة وأعد قراءتها خارج السّجنِ. ربّما وفّقت في رأيك.
ركض أصحابه إلى الماءِ، رشوّا فمه به وصدغيه وأنفه وحملوا نظّارته ووضعوها أمام عينيه وقالوا، هذاالإبريق هو الإبريق لشرب الماءِ في عصر الأمسية وليس لوقوع المغشيّين عليهم وصاحوا به، أفق أيّها الشّاعر الوحيد قبل السّجنِ وجاءوا بعطور الحلاقة والشّاعر استفاق وشيئا فشيئا أصبح حوشهم حوشهم ولكن بقيت الورود هي ورود بيت ربّما كان بيت أدهم شوشا وبيت جيرانهم وظلّت وردة نسرينيّة تتأرجح، هل هي وردة أم بدعة سقراطيّة؟ هل هي آخر أمسية لي بعد أن وقعت مغشيّا عليّ بينكم، آه كم مواجهة الجمهورِ صعبة! في تلك الأحايين من عامودا، في تلك الأزمانِ كانت عامودا تفور بثورةِ حزب العمل الشّيوعيّ السوريّ والشّبابُ يتحدّون الجليد بقوّة وينظرون إلى الحبّ أنّه ثانويّ وأساسيّ في الصفوف الإعداديّة والثّانويّة وصار الحلاّقون والبنّاؤون شعراء بشعور طويلة وتركوا المخدّات ولم يحبّذوا النّوم، طالما جائع تحت مصابيح الأفرانِ العاموديّة ينام ليحصل على الخبز الأوّل من الفرن. وكان السّمن قد انكسرت أرجله والحلاوة نفدت من الأسواق ولا سكائر تدخّن في الأعراس والمعازي. رشوّا الماء على قلبه، فاستفاق ونظر حوله؛ نحن أصحابك والوردة توقّفت عن التمرجح والتذبذبِ. عاد الشّاعر وعاد حوشهم هو الحوش والإبريق البلاستيكي قد انقطع من شرب الماءِ والمطرِ واليانسونِ والبئرِ والكرسيّ الخشبيّ وتنكةِ المرحاضِ. وأمّه، هي أمّه. صمتّ حين زار أخي وضحكت من النظريّات، عامودا بدون نظريّات وبدون كلام أفضل ونبقيها على البساطِ الفضيّ للثّلج حين يكون ثلج ونركضُ بعد أن ندقّ الأبواب عشوائيّا ومغامرة وليد وعبداللّطيف مع الشّاعر أدهم شوشا عاشق الأعراس والأنثى، يذهبان إلى نفس الأعراس ويقفان خلف حلقة الرّقص بإصبعيهما خلفه وهو يلتفتُ فيتعكّر عليه الرّقص ويضعان إصبعيهما في مؤخّرته، ويسبّهما وتحمرّ نظّارته في عينيه. مضينا أنا والحلاّق بعد السّجنِ، هو القائد في المشيِ ويعلم أنّي أكتب الشّعر وأعيش في عامودا. وقطعنا شارع الدرباسيّة باتّجاه الدّرباسيّة وقطعنا التّجنيد باتّجاه مدرسة المعرّي وقبلهماالسّوق وفقر مدينة السّوق وقطعنا دكاكين الدبّاغ والحلاّقين في المساءِ الدّاكن وتكلّم الحلاّق الشّاعر عن نفسه كأنّما يتكلّم عن منزلٍ لا تشرق عليه الشّمس ولا أهل للمنزل، منزلٌ من الإسمنت له نوافذ تطلّ على المدرسةِ، له لبلاباتٌ مزروعات وأصص أزهار وأوراق وشوك على اللّبلابِ. في الخريف يصبح المنزل منزلا ويأتيه أحيانا زائران  اثنان، إمرأة شابّة ورجلٌ شابّ ثم أمّ الرّجل الشابّ ويسافران بباص بيت " بكي" إلى حلب الشّهباءِ، يضع الشابّ جاكيت زوجته وربّما هي أخته في رفّ الألبسة والأدواتِ في أعلى المقاعد ويجلس، الجاكيت من الجلد البنيّ. والمنزلُ ربّما يكون دائما في الظّلامِ ولكنّني أراه في قلبي مشرقا بالخريف وعري الأشجار النّاحلة شتاء. نصل إلى المنزل وهو نفسه، نفس هذا الخلدِ الكرتونيّ. فيتكلّم الخلد عن الدّهاليز في حياته والزّوايا النظريّة، ولا ينظر إليّ إلاّ نادرا ويلتفّ في الأروقة تحت الأرضِ. يمشي على أرجله السّوداءِ. لا، هذه المنزلُ المطلّ الذي أراه من الطّابق الثّاني من مدرسة المعرّي ليس منزلكم وهو مشرقٌ بالرّيحانِ، خالٍ من النّاس، تجيء إليه طيورٌ من فوق جبالٍ ومن فوق سياج ووصلنا للتوّ إليه واجتزناه إلى بريّة وبيوت قليلة للبريّة. وسياجات هي سياجات حقولٍ " آشي علاّوي". لأخي تلميذان في مدرسة المعرّي، أحدهما يلبس الأسود حدادا على النّاس كما قال من فوق منصّة المركز الثّقافي، وهذا ثوبي الأسود حدادا عليكم. والثّاني يقرأ أشعار لوركا بعد الأوّل، فيطفىء مستخدم المركز الكهرباء من كافّة مرافق المركز الثّقافي. يظنّ المدير أنّ لوركا اسم كرديّ نشأ وترعرع في ثورة تحت الجبالِ الشّاهقة، فتنقطع الكهرباء لكي لا يدخل لوركا المركز الثّقافي ولوركا تعني بالكرديّة خبزا صغيرا للتنوّر وللأطفال وربّما لوركا هي تلك الموادّ الحليبيّة حين تلد الأبقار ولوركا هو زوج خاتوني وخاتوني لا أحد يعرفعها في عامودا. الذي أمضى في السّنين عمره في السّجن، قصّ شعور النّاس وقام أمام كرسيّ الحلاقةِ ونظرَ إلى المارّين في شوارع عامودا الموحلة في الشّتاءِ وحين يحلّ الصيف، فالغبارُ يلعب بكرةِ القدمِ ويلتفّ ويدورُ حول نفسه ويسمّى العجاج على التّلال وهي ليست تلالا، تلّ هومقبرة. والنّهر ينام في مؤخرة المسلخ مثل حيوان يصيد النّمل ويأكل الرّوث والأكياس ولا شجرة على سطح المسيحيّين في تلك المقربة. يفكّر الحلاّق الذي كان حلاّقا فقط ذات يوم وأصبح شاعرا" حنّا مينة قصّ أشعار النّاس وصار بين أكياس الحمّالين روائيّا، وزكريّا تامر كان بائع عرق سوق في أسواق تدمر" وأصبح الحلاّق شاعرا، فأقيمت له أمسية من الأصدقاء مع إبريق ماءٍ لشربه وتوزيعه كالسكّر على الحضور، الأشخاص الأصدقاء الخمسة أو الستّة. فقام الشّاعر ليقصّ الشّعر على طريقته بغير مقصّ هذه المرّة وكان في حوشٍ آخر ليس حوشهم إنّما يشبهه وهو أعجب بالفكرةِ، أن يكون حوشهم ليس حوشهم وسلّمهم ليس سلّمهم وملحهم ليس ملحهم وبخاصّة بعد السّجن لمدّة ستة عشر عاما. هاتِ الإبريق وهو ليس إبريقنا وخذ الشّاي وهو ليس بشاينا، هو شاي عائلة الشّاعر أدهم شوشا. خذ المنفضة ودخّن سكائر الآخرين وكانت سكائرنا؛ ما هذه الأحزاب الورقيّة على أوراق شعري؛ الحنتورة التي أخذت الشّمس إلى بيت أبيها يا عبداللّطيف من آل الحسيني وثمّة شلّة تذهب إلى الأعراسِ في أوراق اليانصيب وتلدغ أبواب النّاس طرقا وتهرب الشلّة. عيوني تنظر إلى علف الحزب الشيوعيّ السوريّ. حزب مثل الحبل، في بيت التّبن تنام فيه الدّيدان والفراشات التي اصطدتها في حوش السّجن. لم يكن الشّاعر الحلاّق يتحدّث عن سنوات السّجن وأنا لاحظت ذلك بدقّة حين بالغت في طرح الأسئلة والأجوبة كانت النّظر إلى شيء مجهول ثمّ الصّمت الطّويل والتحدّث عن جاك دريدا أو تشكلوفسكي البنيويّ التهديمي وناقد روسيّ ذو حنطورة. ربّما كان لوركا هي منجولي المجنونة في حارة الرّاشنيّين، تسبّ الأطفال كالرّجالِ. والتلميذان يمشيان في شوارع عامودا، نحن شعراء المستقبلِ، نحن أسود حداد ولوركا هو اسم الثّاني الفنيّ الذي انقطعت في صوته الكهرباء، فصاح في المركز وقرأ قصيدته عن نفسه وعن خاتوني المجنونةِ. مضى الوقت حين كان الحلاّقون شعراء وأتى الزّمن حيث الشّعراء هم شعراء فقط وشعراء بقامات كبيرة، طويلة، شعراء يسمّون أنفسهم شعراء. شعراء يلبسون الأحذية التي هي أحذية النّاس ولكنّهم لا يشدّون رباطاتها، يجعلون الخيوط تسترخي هنا وهناك وربّما انجرّت الرباطات خلف الأحذية. هذه عادة التّلميذين الشّاعرين وثمّ لاحظت الرّباطات المفكوكة في حذاء أخي. الشّعور المشترك للشعر، نحن مأسورون في مدينتا، فعلى الأقل لا نأسر رباطات الأحذية، نتركها خلفنا وهي علامة الاسترخاء في وقت غير مسترخ، مشدود كأسلاك معدنيّة على حلوقنا. في حوشهم شجرة ورد بأشجار إلى جانبها. ورد أبيض في الصّيف ينظر إليه عدنان وأخوه حين يخرجان أويأتيان. يحيط بالورد بلوكٌ إسمنتيّ. فارغٌ هنا وهناك. بلوكٌ يتغلّب ويتقوّى على الشّتاءِ. ووردٌ يسكت ويفكّرثمّ يتوقّف عن التّفكير ويعرف شوكه على الوجنات وبدونها. عرفت عدنان بعد أن خرج من السّجن بعد النّوم فيه لعشر سنوات وأكثر من عشر سنوات، هو وأخوه. لم أذهب إلى بيتهم بل هو جاء إلى بيت "شوشا" الشّاعر وكان في حوش الشّاعر شجيرة وردٍ تتلاعب بالشّتاءِ على ورودها البيضاءِ والليمونيّة. وركضت قطّة مجتازة فصل الرّبيع وارتفع صوتُ عرس وضجيج عرس ومرّت سيّارت تحمل عروسا هي نفسها الوردة والشّجيرة الورديّة والفستان الأبيض لبتلات الورودِ وغيمة لم تمطر على السيّارة.

29.11.07






أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=1167