المسرح الكرديّ بين الواقع والطموح
التاريخ: الأربعاء 28 تشرين الثاني 2007
الموضوع: القسم الثقافي



هيثم حسين

قل لي أيّ مسرح تتابع، أقل لك مَن أنت..!
هذا على الصعيد العامّ، ولكن عندما يكون الحديث مخصَّصاً، والسؤال موجَّهاً إلى متفرِّجٍ بعينه، هو الكرديّ هنا، يصاغ السؤال بصيغةٍ أخرى، إذ لابدّ أن يكون السائل معنيّاً بالإجابة أكثر من المسؤول، لأنّه مساهم في بعضٍ ممّا جرى، ويجري، وإن كان في الابتعاد عن الهمّ الذي لا يَني يحضر في كلّ مناسبة، لأنّه يبقى على حاله، رغم بعض محاولات التغيير فيه، واعتبار ذلك الحال أفضل الأحوال، وكأنّه يجب أن يبقى هكذا، ليبقى الآخرون على حالهم، الكلّ مشارك من جهته، وإن كان بالصمت، بالتعامي، بالتهرّب إلى الانهماك في بعضٍ ممّا يُنسي استمرار الجرح النازف، ويتحايل به..


ولا بدّ من طرح السؤال بصيغة أخرى، لأنّ مَنْ يُسأل، سيقول بأنّه لا يتابع المسرح، ولا يتفرّج عليه، وعدم متابعته، ليست نابعة من رغبته عن المسرح، بل لأنّ هذا ما قد فُرض عليه فرضاً سلطويّاً، وهو نتاج تراكم من القهر، قد يكون له فيه جزء ونصيب، وإن كان من دون اتّفاق مُسبق..
لستُ بواردِ التأريخ للمسرح، بدايات ظهوره، على يد مَن طُوِّر، مَن أحرقه، ولمَ، رغم أنّ الإحراق لا يزال ساري المفعول، والنار لا تزال قائمة بالفعل، فإنّه وإن كان قد استُخدم كإطار ترفيهيّ عند النخبة، مفصّلاً بين المأساة والملهاة، ليستخدم فيما بعد من قبل الكنيسة، وفي الحاضنة الدينيّة، كوسيلة دعائيّة فعّالة لنشر سيطرتها، خاصّة أيّام الاحتفالات الدينيّة الرسميّة، لنشر ثقافتها، ليتطوّر فيما بعد، هذا الفنّ، وينتقل إلى أكثر من بقعة، ليعتمده مَن يتعرّف عليه.. فإنّه في الواقع الكرديّ، لا يكون الاحتفاء به، ضمن حدود الممكن، ومن خلاله، في الاحتفالات الدينيّة، بل في القوميّة، وبخاصّة عيد النوروز.. 
إن كان المسرح فيما مضى ـ كما يرى مكسيم غوركي ـ يكتفي بتصوير المآسي العالية، والصدمات الفرديّة، اليوم عليه أن يبرز الدوافع الاجتماعيّة لهذه المآسي وتلك الصدمات.. ففي الواقع الكرديّ، ورغم تراكم الصدمات، عبر الزمن، ورغم ظهور بضع فضائيّات كردستانيّة في العقد الأخير، إلاّ أنّ الاهتمام لا يكاد يذكَر بالمسرح، ولم يحظَ، والأدبَ المسرحيّ، بالاهتمام المطلوب، ولم يحتلّ الحيّز المُستحَقّ، تبقى الجهود أقرب إلى الفرديّة، لتبشّر ببداية ربيعٍ مأمول، تقتضي قدومَه الضرورةُ، بعيداً عن الانحدار إلى مستويات الاستجداء والترجّي..
يقترب المسرح للتوحّد مع المتلقّي، الستارة ملغاة بين الجمهور والممثّلين، تآلف، انسجام، حيث يجهَّز المسرح المرتحل، لحظة التمثيل فيه، يقدِّر الجمهور للفرقة هذه النقطة، فيتشاغل كلّ منهم مع الآخر، بنكتةٍ، بنظرةٍ، ببسمةٍ، أو يغيّر بعضهم مكانه منتقلاً إلى آخر يرتاح فيه أكثر، ولا ينعدم وجود بعض الفضوليّين، الذين لا تكون رؤيتهم واضحة مكتملة، إلاّ إذا رأوا كلّ ما يحدث، وإنّه، لَمن المفارقات، بالنسبة للمسرح، أن يكون الجمهور المتفرّج واقفاً، ومتحرّكاً، موجاتٍ أو أفراداً، والممثّل بدوره، يحترم هذا "الامتياز" من جمهوره، ويقدّر لهم عدم تقدير البعض منهم، لا تجرفه التحرّكات التي لا تتوقّف، ولا يحتاج إلى الجوّ الهادئ، ليتقن دوره، فهو متوحّد معه، ساكن فيه.. فنصّ الحوار، وإن لم يكن ملتَزماً به حرفيّاً، فإنّه لا يشوّه المعنى، وسيقترب من مطابقته، بالجمل المرتجلة من قبله، لأنّ المطروح، عادة ما يتناول حدثاً مناسباتيّاً، سياسيّاً أو اجتماعيّاً شعبيّاً، مَحكيّاً فيه كثيراً، مُناقَشاً على مختلف الصعُد المتوفّرة، مهما كان الخروج عن النصّ، فهو إيغال فيه، ويمكن أن تكون هذه من محاسن المسرح الكرديّ، الذي هو نتاج طبيعيّ للمعاش، ومولود، وفق ظروف المرحلة التاريخيّة التي يعاصرها..
فضيلة المسرح الكرديّ، رغم كلّ ما يقال وسيقال عنه، من عدم ارتقائه إلى تجسيده كممارسة حيّة، أنّه يحافظ على وجود المسرح، ككلمة في القاموس الكرديّ، وكفعلٍ في الواقع الكرديّ،وإن كان فعلاً قاصراً، وإن كان مسرحاً، احتفاليّاً، مناسباتيّاً، وبخاصّة في أعياد النوروز السنويّة؛ رأس السنة الكرديّة، اليوم الجديد الذي يكون الطموح فيه أن يتحقّق اسمه معنىً، وينعكس على حياة أبنائه، اليوم المصاحَب بالأمنيات الكبيرة..
فالنوروز كبداية يومٍ جديدٍ في روزنامة الكرد، يُبتغى منه، أن يصبح المنطلَق لبداية مسرح كرديّ أصيلٍ، يؤسّس نواة لحركة فنّيّة قادمة، غير متحزّبة بالمفهوم الضيّق الخانق، كرديّة الروح والوجدان، غير بعيدة عن واقعها، وغير متعالية عليه، وعلى الشعب الذي يكون إليه كلّ توجّه..
تنشط "الفرق المسرحية"، التابعة للأحزاب السياسيّة، قبل النوروز ببضعة أشهر، في تجهيز التحضيرات لهذا اليوم الذي تنصبّ فيه كلّ الأعمال الفنّيّة، على الجمهور، دفعة واحدة، دون أن تمهله أن يتذوّقها بالشكل المطلوب، كي يفاضل بينها فيما بعد، فالتضييق طيلة أيّام السنة، ينعكس إلى هذا الفعل، ليكون ردّ الفعل مشبَعاً، مكبَّساً، ليوصل أكثر ما يمكنه إيصاله في أقلّ وقت ممكنٍ..
تحاول القوى السياسيّة، أن تنقل خطابها، ومبتغاها، إلى الجمهور، الذي يصعب جمع مثلهم في غيرها من الأيّام والمناسبات، إلاّ الاستثنائيّة، وهذه نقطة قد تؤخَذ عليها في حالات الانفراج، ولكن، لابدّ ممّا ليس منه بدّ، لأنّ العيد هو الفرحة، وهو اليوم الذي يجب أن يحاول فيه الكرديّ تنبيه نفسه وأخيه، بطيبةٍ وحبٍّ، بأغنيةٍ ولحنٍ، بعقد حلقات الدبكة، بالقول للغير إنّنا نحن أولاء، نريد أن نحيا كالآخرين، نفرح مثلهم، وهذا سلاحنا؛ الإنسانُ المسالم الجدير باسمه..
أستطيع أن أقول، إنّنا سنتّفق، إذا ما قلنا بأنّ المسرح الكرديّ ما يزال في مرحلته الجنينيّة يحبو، وأنّه في خطواته الأولى، وهذا كلّه، أيضاً ليس نقيصة، لأنّنا سنكون أكثر اتّفاقاً على القول، بأنّه النور الذي يكمن فيه الأمل.. فافتقاره إلى التقاليد المسرحيّة، وإن كان لا يعدم بعض الأشكال المُمَسْرحة العفويّة التي يحفل بها تاريخ كلّ شعب، من احتفالات الأعراس، إلى المجالس، إلى صلوات الاستسقاء، إلى التفاخر، إلى المناوشات والمعارك، كلّها ممهّدة، بطريقة أو بأخرى، لما يليها.. 
حسبه أنّه يحافظ على الكلمة بين الكرد.. لأنّ شعباً دون مسرح، هو شعب دون اسمه..
وباعتبار المسرح فنّاً، ولكن، ليس فنّاً من أجل الفنّ، لأنّه لم يصل بعدُ إلى الإبداع للفنّ مجرَّداً، بل من أجل الإنسان وقضيّته، من أجل اليومِ والغدِ، لأنّنا، نحتاج أن نتسامى إلى التدبّر، وإيعاء المعاني وتمثّلها، لنفسح مجالاً للطاقة الكامنة في القلوب كي تعبّر عن نفسها، قبل أن نجازف باستقدام الشعارات وأفكار الآخرين، وتطبيقها كما هي بقالبها، على واقعنا، لنحصر الواقع، ونقوْلبه على المقاس غير الملائم، ليكون عدم الانسجام في الانتظار، للانتصار.. وفي هذا يقول الفرنسيّ آلان: "إنّ الفنّ قادر على تحرير القوى اللاشعوريّة للإنسان، وبالتالي على مساعدته على تحقيق الانسجام مع العالم".
إنّ المسرح يتشعّب في الحياة، ليغنيها، ليغتني بالتجارب الإنسانيّة، ليقوى بالتواصل مع الجمهور والآخرين، ليحقّق فعلاً مقولة، أنّه منهم وإليهم.. والمسرح الكرديّ، متحدّياً كلّ ما يتعرّض له، من استلابه حدَّ الإنهاك، وإرهاقه بإشغال هُواته، يحاول أن يقترب من تحقيق هذه المعادلة، المعقَّدة بقدر ما هي بسيطة..
إن كان المسرح فعلاً شرطيّاً،لا يكتمل إلاّ باكتمال الشروط كلّها، سنُعْدَم المسرح كرديّاً، فلا شيء من مستلزمات المسرح المادّيّة، لا ديكور، لا أضواء، لا ستائر، لا تقنيّات، لا فنّيّات متقدّمة، لا لاقطات صوت دقيقة،.. إنّه يتبع الطبيعة، فإن كان الجوّ غائماً فغيم، وإن كان مشمساً فشمس،.. ولكن هنا، أسُّ الشروط كلّها، المتوافر بإرادةِ البقاء والصمود التي تكحّل روحه، الإنسانُ الصبور الجلد، الذي يسعى إلى انتزاع إنسانيّته بقوّة إرادته، الإنسان "المحكوم بالأمل"، الذي يكفيه أن يعرض مسرحه، بلغته، على مسرحه، عرضاً واحداً في عمر كامل، يطيل به أعمار الآتين من بعده، رغم قهره، وهوانه، والتهاون بمصيره، فإنّه يشعّ بالأمل متألّقاً، لأنّ أيّ لغة من دون الأمل، تبقى ناقصةً حدَثاً لن تبلغ رشدها أبداً..  
إذا ما تساءلنا، هل يعاني المسرح الكرديّ أزمة..؟!
سنلتفّ على التساؤل، لأنّ الجواب سيبتعد عن المسرح بذاته، ليعود إلى قلبه نفسه، فالمسرح لا ينفصل عن حياة الشعب، وهو انعكاس في جانب منه للمعاش، فلابدّ أن يكون مُلحقَاً بالشعب الذي يخرج من بين ثناياه، ويتوجّه إليه، فالكرد المُبقَّى عليهم مؤزّمين، لأسباب باتت معروفة لكلّ ذي عين وقلب، بل حتّى للعمي، بقدر عنادهم، فإنّهم يتميّزون بالطيب، الذي ليس نتاج السذاجة، وإن كان في بعضٍ منه، السبب في جرّ النوائب، التي استُغلّ في معظمها، صدقُه مع غيره، وعدم صدق الغير معه، إنّ ذلك يختصر تاريخاً طويلاً، لا يمكن الحديث عنه بتبسيط أو تسطيح، لأنّه جانب من مأساة معاشة، وتأزيم مُمَنهَج..
والمسرح، حسب ما يرى محمّد مندور: "ليس مرآة  آليّة صمّاء، بل هو مجهر يقرّب البعيد، ويظهر معالم الدقيق، بل ويجسّمها دون أن يغيّر من حقيقتها أو نسبها، بل يجلوها". ومن هنا، وإن كان المسرح محاكاة للواقع، فهذا يقتضي التسليم بما فيه، من مآسٍ وملاهٍ، مصدرها ومرجعها الإنسان، دون إغفال ما يمثّله، ومَن يتمثّله، فإنّ بعضهم يبتعد عن الاعتراف بوجوده بين الكرد، ليكون المبرّر الذي يتخفّى خلفه، حين يسقط كلّ ما يسقطه من عيوب تصدّأت عليه، ولا أظنّ عدم الاعتراف هذا إلاّ اعترافاً مؤكَّداً، وإقراراً بأنّ هذا الذي لا يُعترَف به، هو موجود متجذِّر، ويغضُّ عن ذكره الطرف، إذ يُتبَع في تصنيفه للأنظمة التي تدّعي أقلّيّته، وطارئيّته على بلاده، وفيها..
يقول المسرحيّ العالميّ بريشت: "لا يستطيع المسرح أن يقوم بثورة، كما أنّه لا يستطيع أن يبدّل بنيان المجتمع".
 بالتأكيد، الأدب بمعنى عامّ، والمسرح بشكل خاصٍّ، لاحتكاكه وتفاعله مع الجمهور، وسرعة ودقّة تواصله معهم، لا يغيّر المجتمع تغييراً مباشراً، بين ليلة وضحاها، لكنّه يمهّد لذلك، عاملاً مساعداً مع غيره من العوامل المتقاطعة المساهمة في التأسيس لذهنيّة تدرك تمام الإدراك ما تُدفَع إليه دفعاً يؤذيها، لنسف قواعده، دون إعادة ترتيبٍ للممكن منها.. وهو كذلك، يشكّل لبنة أساسيّة في تشييد بُنيات المجتمع، تدرّجاً عبر الكتابة، قراءة المكتوب، تمثيله، مَسرحته، إيعاء المُمَسْرَح الممثَّل، ثمّ توقّد الرغبة في الخروج من الزنزانة، والجهر بالحقيقة؛ حقيقة الكلّ، من منظور الضحايا أنفسهم، تمهيداً للإمساك بالقدر، وتطويعه، للإرادة الصادقة القويّة، التي تعتمد كلّ ما يتعلّق بالإنسان في توجّهها إليه، لتوصل من خلال ذلك رسالتها المتمثّلة في الدفاع عن القيم والأخلاقيّات.. وفي هذا يقول لوركا: "المسرح من أكثر الوسائل تعبيراً، المسرح مدرسة الواقع والضحك، ومنبر حرٌّ يمكن الدفاع من فوقه عن الأخلاق القديمة، أو الأخلاقيّات المبهمة، واستخلاص القوانين الخالدة لقلب الإنسان ومشاعره".
وإذا ما تساءلنا، هذه المرّة، عن هويّة المسرح الكرديّ..!
سؤال الهويّة،.. إنّه المضيَّق عليه ليكون الأكثر التباساً، والمدفوع كذلك ليكون الأكثر إحراجاً، لنفي كلّ إنسانيّة عن المسؤول، وإظهار قطيعته مع كلّ امتداد تاريخيّ، وانقطاعه عن كلّ جدٍّ مفترَضٍ، لتكون شجرة النسابة، ملفّقة، مزوّرة، تستجدي جذراً، ولا تتعثّر به، سواء كان ذلك من جهة التعريب، التتريك، أو التفريس،.. وأحياناً، حتّى متّهمة اتّهاماً باطلاً بأنّها مُصهيَنة، وهي الطامّة الكبرى، للواصفين طبعاً، وليس للموصوفين، لأنّهم لا يحتاجون إلى صكوك البراءة أو التغفير، من المجرِّمين المعادين أنفسهم قبل غيرهم..
المسرح قادم.. كما الغضب الساطع قادمٌ، كما هطول المطر قادم، كما ممو الذي لن يكلّ من البحث عن زينـ: ـه قادمٌ، ليكسر القيود، ليتعرّف إلى نفسه، دون انتقاص، أو مبالغة..
فلا أدلّ على هويّة شعبٍ من أدبه؛ مسرحه ضمناً، بداية..
إنّ كثيراً من العلل الاجتماعيّة تفعل فعلها النخريّ في جسد المجتمع الكرديّ، مثله في ذلك، مثل بقيّة المجتمعات والشعوب التي لا تزال تعاني، جرّاء تفشّي الأدواء السرطانيّة بين أبنائها، وإنّ أمّة تذكّي بين أبنائها روح العشائريّة والتفرقة، وتزكّي مَن تزكّيهم بدافع من هذه الروح البغيضة الهدّامة، وهي تعلم بأنّ في ذلك مَقْتَلها، لا تستحقّ أن تسمَّى باسمها، ولا تستحقّ أن يكون لها مسرحها الخاصّ بها، وستبقى تلعب الأدوار لمن يضعون لها تلك الأدوار، ستبقى الظلّ دون الخيال، ستكون الأراجوز الملعوب بها وعليها، من قبل غيرها من المخرجين الجاهلين بفنّ الإخراج، المتفقّهين بحيله..
لا أقول ما أقوله، لأجرّد المسرح الكرديّ من قيمته، أو الأمّة الكرديّة من قيَمِها، فأمّتنا الكرديّة رغم أنّها لا تزال تحتفظ بجزء من هذا في بُنيتها، وإن كان، سواء عن طيْبٍ منها، أو فرضٍ عليها، طبعاً، ليس عن لؤمٍ أو رغبة، وإن كان ذلك يقلّ شيئاً فشيئاً، فإنّه يُنشَّط بفيتامينات عدائيّة، ليبقى الحال على ما هو عليه، وهنا أؤكّد، أنّه لا يقال هذا لتأكيد عدم الاستحقاق، تعديماً لأمّة هي مستحقّة لاسمها، بل يقال، لإيجاب البحث عن المسبّبين في ذلك، لأنّ جريمة واقعة، والقتلى لم يدفنوا بعدُ، في انتظار الكشف عن قتلَتهم، لا رغبة في الثأر، بل لإيقاف القتل، لذا فإنّها إن لم تتغلّب على هذه الروح الناخرة المسوّسة، لن تبلغ مستوى غيرها من الأمم الأخرى، ولن تصبح مالكةَ مسرحها، كما يملك غيرها مسرحهم، والأمور لا تنفصل عن بعضها، فأمّة دون مسرح، أمّة لا تجدُر باسمها، أمّة قتيلة، يجب أن تبحث عن قتلتها، ويجب أن يجرِّم كلّ مؤدٍّ لأيّ دور، مهما كان صغيراً، نفسَه، ويتأنّب، لا مازوشيّةً، بل بحثاً عن القتلة الحقيقيّين، لقطع الأرجوحة على الذئاب، وبهم، كي لا يكون مسرحنا ملعباً لهم، وكي لا يكون ممو نفسه الأضحيّة المنذورة لأعياد غير خليقة بأن تعيَّد..
وإذا ما تمعّنّا في اقتراح جان جاك روسو الداعي إلى إلغاء المسرح باعتباره تعبيراً عن مسرّة جزئيّة، مكرّسة لفريق صاحب امتيازات، وأنّه يجب أن يتمّ الإلغاء لصالح مَسرحة طبيعيّة للمجتمعات الحيّة التي تمثّل بنفسها وجودها، وتؤمّن هكذا حيويّة الوجدان الجماعيّ.. نجده يلغي المسرح النخبويّ لصالح المسرح الطبيعيّ المعبّر عمّا يجب أن يعبّر عنه، دون أن يقوم بالمخادعة أو المناورة على مجتمعه.. وقد تصبح هذه المسرحة الطبيعيّة من أسباب تأخّر المسرح أحياناً، كما حدث عند العرب.. "على رأي د. أحمد الأحمد".
أمّا في مسرحنا.. هل الحديث كلّه يكون عن الكاتب، ودوره، أم أنّ المتفرّج أيضاً عليه أن يقوم بواجبه المطلوب منه، وهل مطلوب منه كمتفرّج، أن يبقى متفرّجاً غير مكترث بما يحدث، هنا، كما يقول سعدالله ونّوس، "إنّ أيّ تطوير بالمسرح يتعلّق، كما يقول المسرحيّ الألمانيّ "بيسكاتور"، بالاثنين معاً، كلاهما مسؤول وبدرجات مختلفة عن عمليّات التطوير هذه، وعن تحقيق النجاح لها". ولا بدّ له كمتفرّج، من إيعاء أهمّيّة دوره كمشاركٍ، وموقفه كمتوجَّهٍ إليه، في العرض، أي أن يقول للعُور من المتحايلين عليه بأنّهم عُور في عيونهم، رافضاً أن يُخدع أو يُستغشم.. 
إنّ هذه المختارات المقدَّمة مترجمةً إلى العربيّة، من الأدب المسرحيّ الكرديّ، هي بضع مسرحيّات قِصار، بعدد الصفحات، وبضع نوافذ، كما يسمّيها المؤلِّف، يطلّ من خلالها على واقعه، بعضها نُشر إنترنيتيّاً، بعضها مُثِّل في أعياد النوروز، وواحدة منها لم تنشر بعدُ، وهي بجملتها، تعكس رؤىً وآمالاً لا يراد لها أن ترى النور، وهي تسعى لذلك..
كفاها شرفاً نُبل المحاولة..!
فالكاتب يحاول إيصال المعنى المراد بالبسمة، ومن ثَمَّ إتباع البسمة بعبَرة، تشتمل على العِبْرة، في اللحظة نفسها، في ثنائيّات متجاذبة، لا تبتعد إلاّ لتقترب إلى جوهر المطروق، وهو لا يلغّز قوله، وإن كان يعتمد الترميز في نواحٍ عدّة، بغية الوصول إلى قلب الإنسان وروحه..
أمّا عن طريقتي في ترجمتها، فقد ابتعدت عن الحرفيّة، وإن كنت قد ترجمت بعض التراكيب بشكلٍ قريب من الحرفيّة، في حالات قليلة، لغايات إنسانيّة، للتواصل بين اللغات، وعدم نهب اللغة المنقول منها بعض خصوصيّتها، اتّفقت مع المؤلّف، وبمشورته، باعتباره قارئاً للعربيّة، أثناء الترجمة، بتبديل بعض الصور العصيّة على الترجمة، والتي يستحيل ترجمتها كما هي، فكان إيجاد البدائل الدالّة والملائمة في العربيّة، وحاولت أن يكون هذا التصرّف دون إلحاق الأذى بروح النصّ الذي يحمل روح الكاتب، الذي هو روح الشعب، في جانب منه..
لن تُسدَل الستارة.. فهلمّوا بنا..
معاً نأسى.. معاً فلنثأر لممو من أنفسنا.. عسانا نَجْدُر بأسمائنا، بأبطالنا،.. وبالآتين من بعدنا.. كي يهطل المطر، ويعمّ الطوفان، مبدّداً الصمت، لاعناً إيّاه.. متأنّبين كاشفين عن  شرّ الحيتان التي تعشّش في دواخلنا.. لنجهّز التوابيت..
.. لتكون الدعوةُ إلى الموت، للولادة، للحياة، بمساندةٍ من النار التي هي: حياة الأحرار.. ممات الأشرار..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·        مقدَّمة كتاب: (مَن يقتل ممو..؟! "أرجوحة الذئاب")، الذي ترجمته إلى العربيّة لمؤلَّفه: بشير ملاّ.







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=1164