طلاء الكاتب أخفى لون جدران شخصيات «وهل من فرق؟»
التاريخ: الأثنين 11 اذار 2024
الموضوع: القسم الثقافي



 جان بابير

رواية «وهل من فرق؟» لمجو ويس، الصادرة عن دار آفا للنشر والتوزيع، والتي تقع ضمن 126 صفحة من القطع المتوسط، تتوزع صفحاتها في ثمانية فصول.
في الاستهلال، يبدأ الكاتب بالتعريف بهاجس ودافع الكتابة لديه، حيث نجد - قبل أكثر من عشرين سنة - حواراً بينه وبين الدكتور المحاضر الذي منحه الرسالة لتثقل كاهله كل هذه المدة، ثم يعرج في الاستهلال على شخصية الدكتور وتفانيه في خدمة التعليم الذي شغف به أيما شغف. تلك الرسالة بما احتوت من كلمات كانت الدافع والمفتاح للدخول إلى دهاليز الكتابة.
 
الفصل الأول:
يبدأ الفصل برسالة من صبري إلى صديقه سوار، وهنا يتم التمهيد لظهور شخصية سوار فنتعرف على جوانب من حياته من خلال تقديم سيرته الذاتية لأجل العمل. يبدأ الكاتب بتعريف القارئ تدريجياً على سوار، وباستخدام تقنية "تيار الوعي" يعود بالذاكرة إلى الطفولة والمدرسة الابتدائية والتزحلق على الدرابزين، وبداية الشباب والتردد إلى الفروع الأمنية، خاصة حينما يكون في مقابلة العمل والسيد فنسنت يراقب حواراته. وبالعودة إلى شخصية سوار فقد حدثنا الكاتب مجو عنه: إنه منضبط ويهتم بالمواعيد، ويمتلك ثقة بشخصيته، يعرف كيف يحاور ومتى يجمع شتات أفكاره، فيغوص في أغوار الشخصية. والمونولوج محكم لا يشعر القارئ معه بالتصنع أو الغرابة بل بانسيابية ورشاقة: أي إسقاط ما عايشه في الماضي على الحاضر المعاش.


الفصل الثاني:
بعد خروج سوار من المبنى حيث تقدم للوظيفة، يتجه نحو المقهى لعله يلتقي بالفتاتين اللتين صادفهما في البداية، كما أن البيرة وهذا المشهد يعودان به إلى طفولته المبكرة في الرقة، وإلى نجلاء وجميلة والعلاقة السرية بينهما. ما نجده أن الرواية تسير بخطين متوازيين: الحاضر الذي يعيشه سوار، وإسقاط الماضي عليه أو تذكر الماضي من خلال الحاضر، وبطريقة الفلاش باك من الذاكرة. ونجد أيضاً أنه لا يمل من التكهنات في طفولته أيضاً، وأيضاً هناك ملامسات حقيقية لواقع تلك المدينة التي تشبه بعاداتها الأرياف أكثر من المدن، حيث يمر على علاقات الناس في تلك الحقبة من الزمن.
 
الفصل الثالث:
الصراع بين بروين وصبري - صديق سوار، العودة إلى العلاقة التي يشوبها الحذر من حيث المنبت العائلي لهما، والانتقال من سوريا إلى بلجيكيا وزيادة الشرخ في العلاقة الزوجية، وعدم اندماج الزوجة بروين مع الوضع الجديد بسبب التربية المجتمعية في بيئتها السابقة، مما يجبر صبري على النزوع إلى التحرر من تلك الورقة التي كانت تختم زواجه بامرأة مثلها، ويمزق بقراره تلك الورقة ليغدو حراً. وأيضاً يتم الغوص في علاقة سوار مع صبري كعلاقة قوية متشابكة.
 
الفصل الرابع:
للمرة الثانية يستخدم الكاتب تقنية استخدام الحلم في هذا الفصل كما استخدمه في الفصل الثاني. يقوم سوار بمقارنة جزئيات الاختلافات الثقافية بين موطنه الأصلي سوريا وبين هولندا فيطرح هذه المرة مفهوم الرشوة والوساطة والمانح والطالب على الطاولة، ويُجري كل هذه الحوارات بالشرود الذهني بينما هو يغادر تاركاً صديقه صبري في البيت، متجهاً للقاء فنسنت في منزله. كما أوضحت في البداية هو يسير على خطين: خط الماضي وإسقاطه على الواقع المعاش في الحاضر، وتلك العلاقة الحميمية لسوار مع تلك المرأة العابرة بيترا وسرد ما حدث له بالتفصيل لصديقه صبري.
 
الفصل الخامس:
إبلاغ سوار بقبوله في الشركة حيث تقدم فيما سبق لمقابلة العمل، ومن خلال هذا الفصل يظهر الكاتب سيكولوجية الشرقيين ويقارنها بالهولنديين، حتى أنهم يتحدثون بأدق التفاصيل جهراً كما انفصال انغريد وزوجها/شريكها ألبيرت، وبصفته زميلاً جديداً في العمل، فقد وجد الزوج لزاماً أن يعرف سوار بذلك الأمر، فأطلعوه على ما حدث بينهما. لا بد من الإشارة إلى أن الكاتب حريص على استغلال اللغة في الجزئيات كبيان منبت ألبيرت الإندونيسي ليذكرنا بأن إندونيسيا كانت مستعمرة هولندية سابقة. ما يدهش سوار أن الزوجين السابقين بقيا صديقين بعد الانفصال، يجلسان معاً ويتسامران كأن شيئاً لم يحدث، وقد تكون هذه المقارنة الذهنية إسقاطاً على واقع صبري وبروين أو... وهل من فرق إن كانت إسقاطاً على واقع سوار وسولي؟ حديث سوار مع زميله صبري عن المال والعمل كقيمتين أساسيتين يكشف أكثر مدى اندماج سوار، إذ يدور الحديث حول الوظيفة ومنافعها: ففي كبين السيارة يستمع إلى الموسيقا أو إلى كتاب صوتي يغنيه عن المطالعة، وهكذا واصفاً نفسه بلص شرعي يقتنص القصص في وجوه المارة.
 
الفصل السادس:
حديث المنزل بين الصديقين سوار وصبري حول العطر المختوم يدور حول الفتاة سولي التي ما زالت في هذا العمر تحتفظ بعذريتها، وكيف أنها تدعي التحرر في الوقت الذي لا تستطيع أن تحرر جسدها. هنا نحن أمام قصة سمر قصيرة تم توظيفها ووضعها ضمن الحبكة الأساسية بإتقان. نحن هنا أمام علاقة متعدية بين سولي وسوار وصديقة سولي – شبول. حيث تقوم سولي بدور بكو العوان بالتفريق بين الآخرين بكل حنكة، إلى أن تنتهي قصتهما من حيث بدأت.

الفصل السابع:
يتضمن هذا الفصل اتخاذ صبري قرار العودة إلى الوطن ليعيش هناك الحياة التي يتمناها: أن يكون سيد نفسه ببناء منزل صغير ومزرعة من الأشجار. كما يتضمن حضور سوار للحفل الذي أقامته الشركة بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيسها. في هذا الفصل إسقاطات من الفصول السابقة التي مررنا بها كرؤيته لفنسنت في الحفل وايفا التي صدف أن التقاها في أول يوم تقدم فيه للوظيفة، والآخرين انغريد وألبيرت. بلقائه بإيفا واستفساره عن ما يتعلق بالعمل في الشركة والاستحضار الثاني لقصة جميلة ونجلاء يركل الكاتب الباب بقدميه ليبقيه مفتوحاً على الرغبات الإنسانية وميولها وطبيعتها المعقدة.
 
الفصل الثامن:
يظهر في هذا الفصل أن الكاتب مجو انتهى من كتابة روايته، ويود الفرار كمن يهرب من فعل شائن ارتكبه، من عبثه بإحدى شخصياته بلا سبب. وما جوابه لبيتر بأنه فرض عليه أن يرسم تلك الشخصية بذاك الشكل إلا تحريض على التمعن: تُرى أي شخصية يقصدها مجو؟ يبدو أن الباب مفتوح أمام القارئ، يبدو أن الكاتب يراهن على أن القارئ لابد يجد نفسه في هذا العمل من خلال الشخصية "المعبوث بها". يشبه هذا الفصل الخاتمة، ليعود بنا هذا إلى الاستهلال الذي بدا كما المقدمة (دافع الدكتور المحاضر ليبدأ مجو بالكتابة) أي أننا أمام حلقة دائرية: الاستهلال كمقدمة والفصل الثامن كخاتمة. وهنا أرى أن الاستهلال والخاتمة ليستا من صلب الرواية، فالاستهلال أو المقدمة استخدمها الكاتب كتمهيد تعريفي بنفسه وأسلوبه، أما الفصل الثامن فهو أشبه بالخاتمة، ولا أعتقد أن مجو سها عن ذلك، بل الأرجح أن جواباً ما لديه ينتظر تساؤلي، لتبقى هذه المكاشفة رهن الأيام القادمة: بالمجمل أرى أنه كان لدى مجو أكثر من خيار يمكن اتخاذه بهذا الصدد...
إن الوصف لديه في كثير من الأماكن يتصف بالدقة ونقل صورة حية تدخل عقل القارئ من الأماكن إلى الأدوات، الكراسي، الشارع، المحطة وصولاً لنقل وجوه الشخوص في الرواية، لكن أغلب الملامح كانت ضبابية في رسم الوجوه، لا يستقر في ذهن القارئ صورة للشخصيات، فالكاتب لم يجبر نفسه على الانغماس في التفاصيل الإيمائية، وهذا ما خلق خيالاً غير مريح لمتتبع الأحداث، وهنا نسأل أنفسنا: هل إيجاد شخصيات من حبر أسهل من تناول شخصيات واقعية؟ إن الكاتب حر أن يكتب ما يريد في النهاية، وأن يجعل الشخصية الرئيسية ويحدد مصيرها كما يريد: أن يقتلها، أن تبدو أنانية أو يشوبها الشك، وأن تكون أكثر فاعلية.
 
السيكولوجيا:
من الناحية النفسية، إن بطل العمل الرئيس المتمثل بشخصية سوار دائماً ما نجده يحاور نفسه، وهو يتملك الفراسة والشك معاً، يفكر في كل ما يحيط به من شخصيات، وأحياناً يفكر عنهم، يدخل إلى علاقاتهم، يستفسر، يجيب عنهم، يشعر عنهم، يشعل حريقاً ويترك أن تتلوث جثث أحلامهم تتمرغ في الرماد، كما قال سيغموند فرويد: "الكاتب أو بالأحرى الروائي ربٌّ صغير لأنه يخلق شخصياته".
 
الزمن:
إن الزمن الفعلي للرواية قصير لا يتجاوز الأسبوع، بينما الزمن المسقط على الرواية يعود إلى الماضي – إلى طفولة سوار، كما يدخل بسلاسة وبطريقة حالمة إلى المستقبل من خلال عودة صبري إلى الوطن: أي أنه يتجاوز الأربعين عاماً أو أكثر. إن الزمن فيها كشخص يخاف من المرتفعات، يختار الأماكن المنبسطة، أو أن الصعود والمعرفة ستضعه في متاهات الغرق. الزمن لم يهرم، ولم نجد التجاعيد على وجوه الشخصيات، إلا التجاعيد التي بدأت القصة معها، السفينة الزمنية كانت غارقة داخل الكاتب مجو قبل أن تبحر على موج الورق.
 
اللغة:
رغم أن الكاتب يتجنب خلط الجنسين الأدبيين – أقصد النثر والشعر، ففي بعض الجمل تكون اللغة بلاغية أقرب إلى الشعر، وهذه تحسب للكاتب لا عليه إذ أعطى مسحة من الجمالية والشاعرية للرواية، فتختلف العاطفة وتكون في مناورات قصيرة أو سباق ماراثوني طويل، إنها قدرة الالتفاف حول ما يريد قوله الكاتب. هناك أشياء ملحّة في الرواية تم تجاهلها بجرة قلم كمصير الشخصيات ونموها مع الأحداث؛ هذا ما وجدته من خلال شخصية سوار، أما باقي الشخصيات فكأنها أُهمِلت عمداً.
وقد اخترت جملتين للكاتب أقدمهما لكم:
"وكأن رصاصةً مشتعلة دخلت لتوها جمجمته لتدمي مخَّه من الخلف".
"الأمر برمَّته أشبه بمراحل عملية صنع اللبن من الضرع إلى صحن المتضور جوعاً".
 
الرسالة:
حسب إدراكي فإن رسالة الرواية الواضحة هي المقارنة بين ثقافتين مختلفتين: الشرق الأسير لعاداته وإرثه الديني وسلطويته، والغرب المتفتح والمدني بقيمه والمتحرر من سلطة التابوهات، وضعها الكاتب بإخلاص في النص بكلمات وُلدت من صدّغي المجاز حيناً ومن هاجس الكتابة أحياناً، مستعيناً بالضجيج الداخلي أكثر من الخارج.
 
كلمة أخيرة:
لن تملَّ من كل هذا، ومجو يحيك الخيال بخيوط تقودك إلى الجهات المكتظة به والإبقاء على حبل التتابع بيدك يلملم حطام الثرثرة. كما في كل حكاية لا ينفصل الكاتب مجو ويس عن محيطه وشخصياتها: يتداخل فيهم وكأنه يكتبهم لآخر مرة بما أوتي من شغف. أتمنى للقارئ الاستمتاع بالقراءة وأن نلتمس جميع أطراف هذه الرواية قبل أن تتحول إلى إشاعة ذات بصمة، فليست كل ولادة يسيرة.







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=10127