القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: المير جلادت بدرخان الذي كان يكره الثعالب

 
الثلاثاء 14 نيسان 2020


إبراهيم محمود

لعل المير جلادت بدرخان " 1893- 1951 " الذي كان يشدّد على أهمية الفولكلور، كان واعياً لهذا التوجه، عندما يصبح هو  نفسه في مقام الثقافة المكتوبة جرّاء التكرار، للشعب المحروم من حق الكتابة، كالكرد، فلا يعود الفلولكلور فولكلوراً، كما هو شائع في معناه لدى " شعوب الكتابة ". والذي يتحرّى عالمه " الفولكلوري " الكردي هذا، يتلمس حضوراً لافتاً للثعلب في متون حكاياته التي سمِع بها أو عايش أصداءها. والسؤال ماالذي كان يرغّب المير جلادت في منْح الثعلب هذه المكانة؟ ألأنه كان يعرِف الكم الوافر " من الثعالب في محيطه، ومن يموّهون شخصياتهم كأسود أو ذئاب، وهم مجرد ثعالب، وهو ما يمكن متابعته قبل ولادة المير الكبير، وبعد رحيله، ليستعاد قوله المضيء، مُظهِراً صنوف الثعالب هذه؟


من المؤكد أن الثعلب ظريف، وجدير بأن تسرَد حكايات كثيرة عنه، وليس من شَعب، إلا وفي حكاياته أمثلة كثيرة عن مكْر الثعلب، وألاعيبه، وصيَغ الخداع لديه، لينال ما يريد غالباً. سوى أن الثعلب هذا، يعيش طباعه الثعلبية التي تنتقل من جيل ثعلبي إلى آخر، ولا أرى فيما يورده المير عما هو ثعلبي، من باب الطرافة حصراً، وإنما لتسليط الضوء على من يعيش في داخله سلوكاً ثعلبياً، ويزعم أنه أكبر شأناً وأعظم مقداراً منه، دون ذلك من الصعب إيجاد علاقة بين مكانة المير ابن المير، والثعلب ومن يجسّده في سلوكياته بشرياً، وما في ذلك من مقالب كذلك .
في مجموعة من حكاياته " راوي حكايات- حكايات كُردمانجية- بالكردية، آفستا- ستانبول، 2009 " نعثر بسهولة على مثل هذا الحضور المؤثّر أو الفاعل من عالم الثعلب وأدواره" وهي تسع حكايات، بأسمائها ".
ففي حكاية " الديك والثعلب "، يظهر الديك " مؤذّن " القرية، والسلوقي " كلب الصيد " مختارها، وحين يفشل الثعلب في النيل من الديك الذي يمضي به إلى السلوقي " مختار القرية " الخربة طبعاً، وهو يعلِم من خلال الديك أن هناك استعداداً لبنائها، فيقول له الثعلب: أيها المنحوس، طالما أنك مؤذن القرية، والسلوقي مختارها، فإن هذه القرية لن تعمَّر أبداً. ص 11 .
وفي حكاية " الثعلب والأسد " يصادف الأسد ثعلباً هزيلاً وقد أنهكه الجوع، فيعلِمه بأنه سُيتبعه، شريطة أن يأتمر بأمره، وهو يسأله " أي الأسد " عمّا يكون في صفاته: من اسمه حتى قوائمه، وكلها أسدية، وهكذا يمضي به، فيشبع الثعلب، ويسمن،وتكر الأيام، وفي هذه المرة يصادف الثعلب الشبعان البطران، حسب منحى الحكاية، ثعلباً أكثر هزالاً وجوعاً منه ذات يوم. فيقوم بتقليد الأسد، طالباً منه، أن يسمّي كل حركة، وكل جانب فيه، كما هو حال الأسد، فيمضي به، حيث بقعة خضراء، وفيها ترعى خيول وبغال وكدِش، وما أن أبصر الثعلب الشبعان البطران كديشاً حتى يثب عليه من الخلف، فيفشل في النيل منه، حين يتلقى ركلة موجعة من الكديش، وهرب الثعلب الهزيل، وهو يقول: قسماً يا صاحبي كنت أعلم أنك لست أسداً، سوى أنك عملت من نفسك أسداً أمامي، وأنا بدوري، طمعاً في قطعة لحم، كنت أوافقك على ما تقول. ص 35 .
وجهة الحساسية بين الثعالب نفسها، نجد مثل هذه المقالب والمواجهات، كما في حكاية " الثعلب ذو الذيل المقطوع "، حيث قطِع ذيل ثعلب نظراً لدناءة نفسه، فأصبح عرضة لسخرية " جماعته " حتى لقي مخرجاً لنفسه، بأن استعاد القسم المقطوع وقد زيَّنه، فطمعت فيه جماعة الثعالب تلك، ورغبت أن تكون مثله، فقادها إلى حيث تتعرض ذيولها جميعاً للبتر، بأن أشار عليها أن تضع ذيولها في ماء الغدير، حتى يتجمد في الصباح، وحين فاجأها الرعيان، هربت بجلدها، لكن الماء المتجمد على ذيولها جعلها مقطوعة الذنب، لتصبح هي نفسها هذه المرة مقطوع الذيل، ومثار سخرية الثعلب ذاك .ص36-37.
ونعثر على موقف آخر، في حكاية " الذئب والثعلب "، حيث يتصادق الاثنان، وبعد مدة، يجوع الذئب، فيحاول افتراس الثعلب، لكن الثعلب هذا، بطريقته المعروفة، ينجو منه مرتين، بالعكس، يوقع الذئب في حفرة مميتة. ص 38-39 .
ويمكن التوقف عند الحكايات الأخرى، سوى أن المقصد هنا ليس إحصائياً البتة، إنما محاولة أولية لمكاشفة العالم الداخلي لجانب من كتابات المير في سياقها الفولكلوري، وما يمكن استخلاصه جمالياً وقيمياً منها.
إن ما أتلمسه هنا، كما أسلفت، هو أبعد من حدود تزجية الوقت، أو ليتعرف الكرد على هويتهم الثقافية، وللفولكلور هنا اعتبار كبير، حيث يتعدد نطاق الاسم حرفياً، وليس لإضحاك من حوله. فلا أظن أن المير كان " هاوي " الضحك، أو يبحث عن مهرجين ليؤنسوه في مجلسه، وهو مثقَل بهموم شعب ممزَّق، وتاريخ عائلي منجرح كذلك. وإن كان لم يدر في خلده ما يمكن النظر فيه، عبر كل حكاية مسرودة، أو مسموعة واعتبارها كردية، وهو ما يتطلب المزيد من التمحيص والتدقيق والمقارنة، بينها وبين شبيهاتها في ثقافات الشعوب الأخرى، وكيفية صوغها أو تسلسها. لكن ذلك لا يحول دون اعتماد قراءة مخبرية، واستقصائية للمنحى الدلالي لعالم كل حكاية، وصلته بعالم أي حكاية أخرى .
وفي العودة إلى " ثعلبـ:ـنا " وكيفية تصريف مقامه الرمزي، حسبي أن أشير مجدداً إلى ما تحدثت فيه، وهو الحضور الملموس لـ"ثعالب " بشرية، أو بشر، يتكلمون بلغة المير، أو لهجة " بوتانـ:ـنه "، ولكنهم فيما يتكلمونه، ويفصحون عنه سلوكياً ليس كما هو المرئي في تصرفاتهم .
وما يستحق الإشارة إليه كذلك، هو أن ليس من إمكانية استغناء عن " سلوكية " الثعلب في التعامل مع الآخرين، وتحديداً من قبل دهاقنة السلطة أو السياسة، وعلى أعلى مستوى. سوى أن المنوَّه إليه، هو ألا يتصرف أحدهم كثعلب، وإنما أن يتقمص سلوكاً ثعلبياً في علاقاته الواسعة سياسياً، وهو أكثر قدرات منه. وهذا يذكّرنا بـ" رومل ثعلب الصحراء " أي من خلال سلوك الدهاء والمكر لديه، ولم يكن ثعلباً في الاعتبارالشخصي، هذا يذكّرنا بما أفصح عنه صاحب كتاب " الأمير " لميكيافيلّي ، الذي أشار إلى أن السياسي الفالح هو من يجب أن يكون كالأسد حتى يقضي على الذئاب، أو لا تنال منه الذئاب، وأن يكون كالثعلب، حتى لا يُقبَض عليه ، فله منافذ كثيرة لجحره، فينجو بذلك.
ومن باب الطرافة أيضاً التنويه إلى أن الثعلب مزدوج في الموقف منه، بالمفهوم الإسلامي، فهناك من يحلّل لحمه، وهناك من يحرّم لحمه. أي ما يمكن اللجوء إليه باستعارة سلوك ثعلبي عند اللزوم، وليس التصرف بهيئة ثعلب، المضحك وليس المرهوب الجانب بقوامه.
المفارقة الكبرى، أننا، من السهل جداً، العثور على نوعيات لافتة، ثعلبية، وفي مجالات حياتية مختلفة في أوساطنا، في الأفعال والأقوال، وفي الربط بينهما. أي من يسهل رؤيتهم بهئات ثعلبية مكشوفة، وليس استعارة مكر ثعلبي، دون لفت الأنظار في الحال، وبذلك بالكاد تكون لهم ظلال خاصة بهم، خلاف الموسوم بـ" الحيوانات النبيلة"، كالأسد، النمر، والفهد، إذ في ظل أي من هذه الحيوانات المرغوبة أكثر من ثعلب يتحرك، أما بالنسبة للثعلب، فمن الصعب تعيين ظله، حتى يتسنى لنا تعيين حيوان من مرتبة أدنى وأبأس قوة منه، كابن آوى مثلاً...الخ.


 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.1
تصويتات: 10


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات