القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

هامش الحرّيّات / تهشيم الحرّيّات

 
السبت 21 تشرين الاول 2006

هيثم حسين

ما يهمّش، أي ما لا يعطى أيّ قيمة تذكَر، والمهمَّش: الذي يبعَد ويبعَّد كي لا يقدَّر، كي يُبخَس حقُّه، أو الذي يقصى عن المركز الذي قد يحتلّه حين يكون جديراً به.. أمّا المهمِّش عادة فيكون قوّة ممثّلة بفردٍ أو جماعة أو منظّمة أو نظام، وهو بدوره يمارس التهميش لأكثر من سبب.. منها الخوف ممّا قد يشكّله المهمَّش من قوّة أو نواة قوّة قد تشكّل تهديداً على سلطة القائم بأعمال السلب والنهب على أكثر من صعيد..

ويكون التقليل من الشأن، والتصغير، والتحقير، من وسائل التهميش المتّبعة غير المباشرة، أوقد تكون المحاربة بالتصميت والتكميم والقمع كوسائل مباشرة، أو وسائل هجوميّة تطبيقاً للقاعدة التي تقول بأنّ الهجوم خير وسيلة للدفاع.. أو كما يقال بالكرديّة (basko kirin) أي حرفيّاً: قصقصة الجناحين، وذلك بغية إقعاد المراد تهميشه، تمهيداً لتهشيمه والقضاء عليه وإفنائه.. ولا يملك المستلَب قوّة دفاعيّة تمنع عنه الهجوم الشرس، أو تعوّضه الغبن الملحَق به..
فما بالك بالحرّيّة حين تهمَّش، لتصبح من المنقرضات النوادر، التي يقال بمناسبة ذكرها أو الحديث عنها: كان يا ما كان في قديم الزمان.. في سالف العصر والأوان.. .. .. كلمة اسمها الحرّيّة، هذه التي لم يبقَ منها، إلاّ رسمها في المعاجم، وصور متغنَّى بها في بعض القصائد، وفي أحلام بعض الحالمين الفارّين من تهميشهم الواقعيّ إلى اللغة، لتشكّل لهم مستراحاً خياليّاً، فردوساً مأمولاً، وليستكينوا إلى بعض المتروك من الكلمات.. لتنضمّ الحرّيّةُ ككلمةٍ إلى غيرها من الكلمات المصفوفة في فقرات، أو فصول، لا تعدو أن تصبح مراجع للدارسين التراثيّين، ولا تقوى على الحلم بغير ذلك، ليضاف إلى فقهِ اللغة للثعالبيّ، باب المتروك من الكلم، الدالُّ على الحرّيّة، المرويُّ على ألسنة بعض المستهترين بها..
ولكن هنا، في الحالة هذي، أيّ هجومٍ يبني قاعدة صدّ هجومٍ محتمَلٍ من عدوٍّ مختلقٍ في طور التكوّن، منهَك القوى، مبدّدها، لدرء خطر قد يشكّله بُعيد تكوّنه جنينيّاً..!
عندما يقال، غضّتِ السلطات الفلانيّة الطرف عن الفعل الصادر عن أحدهم، أو عن كاتبٍ ما، أو عن كتابٍ ما، فإنّ ذلك يدرَج شعبيّاً ورسميّاً ضمن خانة هامش الحرّيّات، هذا الهامش المظلوم باسمه ونعته هكذا، والملصَق بالحرّيّات إلصاقاً بليداً لئيماً..
وأيّ حرّيّة تكون تلك التي تسوّر وتحدَّد بهوامش، تلعب عليها، وتغيّر من صفاتها ومدلولها الذي به تصنّف من بين الكلماتِ المفاخرِ الطموحِ، وكأنّها هنا تشبَّه بصفحة جديدة يجرَى لها الإعداد وتختار لها الهوامش، وتكون المفارقة بأن تكون الكتابة، ويكون العمل كلّه على الهوامش، ويتمّ ترك بقيّة الصفحة على حالها، لتنقلب المعادلة، فتكون الساحة التي من المفترَض أن تكون مخصَّصة للكتابة والعمل ممنوعة على الكتابة والعمل، وتكون الهوامش التي يستحيل الكتابة عليها والعمل فيها، ملعباً لما ليس لها، ومَضْحكَ لحىً للمحتلّ هذا الحيّز، أو عليه، هذا الذي لا يجير مهموماً، ولا ينير لمعتوم عليه أيّ دربٍ أو منجىً..
المفارقة التي تثير الانفعال وعكسه، أن يغدو غضّ الطرف ميزة وانتصاراً للمنادين ببعض الهامش للحرّيّات، (دقّق هنا على المفرد: هامش، والجمع: الحرّيّات، أو الحرّيّات المهمّشة) ليكون الأسى أعظم، بأن يكون للحرّيات المتعدّدة المبتغاة، المنادَى بها، هامشاً مفرداً يتيماً شاحباً من لدن لئيمٍ ماكرٍ لقيطٍ..
إعادة النظر في التركيب تجعله أقرب إلى التصوّر، وتمنحه رحابة معنى، كما هو المسعى إلى ذلك، بأن تغدو للهامش الحرّيّات، وأن تكون الحرّيّات برّيّة، وإن تخطّت كلّ صحارى الوهم القائل بانقلابها فوضىً غير محسوبة وغير مضمونة النتائج، باعتبار أنّ الشعوب المغلوبة على أمرها، المقهورة داخليّاً وخارجيّاً، المهدورة الدم على يد انكشاريّاتٍ منتهية المفعول، هذه الموجّهة حِراباً إلى الأهل، المفلولة السيوف، المكسورة الرماح، المقتولة بسيف الحقد، والمنتحرة بعقليّة الإلغاء والإقصاء والإخصاء، غيرَ قادرةٍ على ضبط ما قد تُعطاه من هامش حرّيّات يمنَّن بها عليها، ليكون ريّها بالتنقيط الهامشيّ الحرّيّاتيّ المبهدَل بهم، أو الرذاذ المجلوب لحساب بعض المتنفّذين، الآمرين الناهين في مَبْغاهم الحرّ كصفقة تشليحٍ لمن لم يصبحوا بعدُ مهيّئين للتمتّع ببعضٍ من الهامش المتكرَّم به عليهم، وعلى ذرّيّاتهم من بعدهم.. لترقّع الحرّيّات برقع ومزق تقبّحها وتضفي على الجرم الدناءة والضعة..    
كيف إن انقلب السفين على رأس من لا يجيد العوم إلاّ في بحور الوهم فقط.. ليغدو المراد إلغاؤه وجوديّاً وإقصاؤه إنسانيّاً وإخصاؤه فكريّاً وفعليّاً، فاعلاً دون أن يمارس الفعل الإجراميّ نفسه الذي ينأى بنفسه عنه؛ الفعل الحاقد المُلغِي المُقصِي المُخصِي على مَن لم يكن يتوانى عن كلّ إجرامٍ مدفوع ببصيرة معمّاة، وعين لا ترى ممّا يدور حولها أيّ شيء، رغم خروجها من حدقتها وادّعائها الإحاطة بالمحيط.. تطبيقاً لسياسة وقاعدة، القصّ ومن ثَمَّ العَدّ، البوليسيّة، والتي فحواها أن بوليس أحد المهمِّشين أشاعوا بأنّهم سيقصّون آذان كلّ من له ثلاثة آذان، ليرتاح الناس بأنّه لن تُقصّ آذانهم، وليستبشروا بذلك خيراً، ثمّ ليفاجَؤوا وليُفجَعوا ولينتكبوا بالقول الآمر بأنّ العدّ سيكون بعد القصّ.. أي عملاً بالقانون العسكريّ: نفّذ ثمّ اعترض.. كذلك تكون الحرّيّة المهمّشة المصابة بالغرغرينا مجتثّة، إثر سجنٍ مرضيّ مزمنٍ، بعد إفقادها معناها وتقييدها بقيود مضاعة المفاتيح..
وعلاوة على تخصيص هامشٍ منبوذ، لا لعدم جدواه فقط، بل لعدم مصداقيّة السامحين به، والغاضّين عنه الأطراف، كمن يلعب الغمّيضة، فيتحايل على من يلاعبونه، بأنّه لا يراهم، وهو حقيقة وواقعاً يعرف إحداثيّاتهم بدقّة متناهية، فإنّ الهامش هذا، المسدّس الأوجه، المدبّب الرؤوس، الحادّ الزوايا، الجارح ساكنيه، يكون جمّاعاً لبعض المغضوض عنه الطرف، وفي الوقت نفسه محاصَراً بخطوط حمرٍ متعدّدة، تقزّمه، وبالتالي، تضيف تحجيماً إلى تحجيمه، لتنحاز إلى الأسقف الواطئة الجاهزة، التي يجب على داخلها، أو ساكنها، أن يعيش حاني الرأس طيلة مكوثه، والزمن اللاحق لهروبه أو انعتاقه كلّه، والتصيُّر هياكل غير قابلة للمشاركة، أو هياكل عرضة للذوبان في حمم حاقدة، أليفة العتمة، معادية لكلّ نور.. لا اعتدال مع الخطوط الحمر، ولا سلام، بل المراد الخنوع، والعواء المداوم: أمرك مولاي.
كذلك ليكون الهامش الملعون باسمه، فرصة للتمرّن على الحرّيّات التي لا يجب أن تعطَى دفعة واحدة. حسب رأي المهمّشين. لأنّ المحروم يجب أن لا يلقَى في الكروم، حسب المثل، بل يجب أن يقرّب منها أشباراً أشباراً، لئلاّ يُصدَم بالواقع غير المعتاد عليه، الحاوي على السخاء والوفرة والعظمة، على ما كان يحلم به، فينقلب على نفسه منتحراً، لمعرفته ويقينه بضياع حياته الأولى التي قضاها في  الرعب، وفي الرجاء. هكذا حال المحرومين يكونُ..
يُتَّخذ الهامش الحرّيّاتيّ، بضاعة للمتاجرة، يغدو قميص عثمان، بادّعاء السعي إلى نشر الحرّيّات، بداية، بفسح مجال لها، لتعبّر عن نفسها، ولتستطيع بمعونة مانحها أن تختطّ خطّاً واسع الأفق، دون أن تتعثّر وتكبو، هذا إن لم تعثَّر لتكون الحجّة قائمة وثابتة بعدم قدرتها على تحمّل أعباء الهامش، وبأنّ الاعتياد على الحرّيّة، بحدّ ذاته، يحتاج مقدرة هائلة على التكيّف والتأقلم، كما يستدعي مرونة كبيرة لدى من لم يمارسها، ليتمكّن من تطويع كفاءاته للمهمّة المنتظَرة.. لذا، وحسب الطغاة، تحتاج الشعوبُ الطفلةُ إلى سنواتِ تمرّنٍ وإحماءٍ قبل خوض المباراة الافتتاحيّة التأهيليّة للانتقال إلى الدور الأوّل في دورة نيل الجدارة ونزع الاستحقاق، ثمّ ليحوَّل المتنفّس المفترَض إلى أنشوطة تضغط على أعناق من لم يسعدوا بعد بدربهم إلى الحرّيّات الموءودة.
يكون المهمّش، مالك القوّة، وصاحب السطوة، مراقباًَ للساحة التي سمح بها، محاصراً نفسه، ناقلاً جنده، من رقعة لرقعة، مناوراً تارة ومداوراً أخرى، لينقلب السحر على الساحر، ويتهشّم الرأس المدبّر لتهميش الآخرين ولتهشيم الرؤوس التي قد تفكّر بأن تتجاوز الخطوط الوهميّة في المنطقة الاستوائيّة الحارقة، فيقع ضحيّة حيله ومؤامراته.. وليكون الملاّح غير الجدير بقيادة السفينة التي تنقلب على رأسه، فتعدمه بدورها الصياح..  

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 2


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات