القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: طريق الضباع

 
الخميس 10 ايلول 2020


إبراهيم محمود

كان علينا أن نستبق الوقت، توفيراً للوقت، سالكين الطريق الذي يصل بنا إلى النبع الذي يغذّي مدينتنا بالماء، حيث يقع على مبعدة عنها، تتطلب مسيرة أيام مشياً، وجهداً ويقظة، فهو غير آمن، إذ لا بد من تنظيف مجراه، وهو ما اتَّبعناه دورياً. حزمْنا أمورنا، وحملنا زوادة الطريق وما يلزم، ربما تحسباً لأي طارىء، على الأقل للدفاع عن أنفسنا ضد خطر عارض، خطر غير محتسَب.
كنا نعرف الطريق جيّداً، واعتبرناه مسيرة استجمام وترويحاً عن النفْس أحياناً، وكان لا بد من ذلك، لأن سلوك طريق كهذا، يحتاج إلى المرونة والخفَّة، حتى لا ينال منّا التعب سريعاً .


قطعنا مسافة معقولة، حيث أصبحت مدينتنا وراءنا، كان هناك منحدرات، وديان، وانعطافات، عبَرناها، ونحن نزداد يقظة، إذ لم يعد في مقدورنا النظر إلى الوراء، إنما إلى الأمام.
اعترضت سبيلنا مجموعة بشرية لفتت أنظارنا جميعاً، كانوا عرجاناً في عمومهم، احترنا في أمرهم: تُرى، من يكون هؤلاء. انقشعت سحابة القلق والريبة سريعاً، كانوا يتكلمون مثلنا.
سألناهم عمّا ألمَّ بهم، راودتنا شكوك في حقيقة الجواب، حين قالوا: من يسلك دروباً كهذه، ويمضي زمناً طويلاً في منطقة وعرة كهذه، يكون العرج أولى الضرائب، جرّاء المتاعب.
كنّا نركّز على النبع، وليس لدينا تفكير سواه، كان رهاننا الأهم، لهذا لم نشأ مطالبتهم بالمزيد من التفسيرات، ولم يكن لدينا القابلية لأن نلحَّ عليهم بتقديم البرهان الكافي على ما يقولونه.
سألونا ما فوجئنا به:
-ماضون إلى النبع، أليس كذلك ؟
بلعنا ريقنا، واستغربنا مما سمعنا:
-وما أدراكم؟
قالها أحدنا .
-لأن قطع مسافات طويلة، وتحمَّل الصعاب، والتعرض للمخاطر، مشدود إلى النبع، ونحن خبراء في المنطقة، فقد أمضينا الكثير من عمرنا هنا .
أراحنا قولهم، طالما أنهم يشدّدون ما نبتغي بلوغه، وتقدّم أحدنا منهم قائلاً:
-علينا أن نتابع طريقنا .
أوقفونا بمزيد من اللطف، كما قرِئت وجوههم، قائلين:
-دعوها لنا. نحن نعرف أقصر الطرق إلى نبع الماء هذا، فنحن خبرْنا المنطقة طولاً وعرضاً .
-إنما هناك الطريق الذي اعتدناه، والذي لا يُخشى منه .
قاله أحدنا.
جاء الرد من رجل بدا أنه أكبرهم:
-ولدينا طرق عديدة، والطريق الذي سنسلكه أقصر وأكثر أماناً من طريقكم.
وتوقف لبعض الوقت، ونحن ننظر إليه، وأردف قائلاً، وقد ازدرد ريقه:
-ثم على المرء أن يغيّر طرقه التي تعنيه في أهدافه، حتى لا يُؤخَذ من طريق واحد .
نظرنا إلى وجوه بعضنا بعضاً، ونحن نفكر فيما قاله، في عبارته الأخيرة تحديداً. لم نجد بداً من التجاوب معهم، خاصة وأن اختصار الطريق ليس بالأمر اليسير.
كانوا خفافاً رغم عرجهم، إنما في بعض الأحيان كانوا يتباطؤون، وينظرون حولهم، أو يستردون أنفاسهم لبعض الوقت، ليتابعوا التحرك بوتيرة بثتْ فينا تفاؤلاً .
فوجئنا بهم وهم يسلكون طرقاً قصيرة، وعبر التفافات، لم نعد نعلم في أي اتجاه نمضي. أوقفناهم، واستفسرنا عما يجري. طمأنونا على أنهم لا يفعلون ذلك إلا ليضمنوا سلامتنا.
لم يعد في وسعنا الاعتراض، لم يعد في وسعنا التوقف بالمقابل. إنما كان علينا مسايرتهم، وفي أنفسنا ما لا يريح أنفسنا، ونحن نقف حيث يقفون، ونتحرك حيث يتحركون، وفيما كدر .
في طريق يقطع أرضاً سهلية، اعترضنا قطيع من الضباع، تنبهنا للخطر، وتهيأنا لأسوأ احتمال.
ضباع حقيقية، ولكن تصرفها لم يكن معهوداً، كانت تتمسح بهؤلاء العرجان.
-لا بد أنكم تعبتم حتى وصلتم إلى هنا ؟
كان كلام ضبع أكبر من حجم أي ضبع رأيناه سابقاً، وهو يضغط بخطمه على بطن أحدهم.
-لقد اعتدنا ذلك. لا بد أنكم تعرفونهم جيداً.
كانوا يكلّمونهم بلغة كما لو أنهم من بني جنسهم، بكلمات ذات مخارج واضحة المعالم، وليس كحيوانات شرسة لا يؤمن جانبها، وهي بأنيابها الحادة المخيفة، ورائحتها المنفّرة.
-طبعاً، وكيف لا نعرفهم !
هز ضبع رأسه وهو بالقرب منه. ونظروا إلينا، وكان علينا أن ننظر في أخطامهم وهم يمارسون شمشمة، وعيونهم الغائمة، وهم يهزّون رؤوسهم بالتناوب مع أذيالهم، ونسايرهم في أسلوب كلامهم، اعتقاداً منّا أننا نحسن التكيف معهم، ولكسب ثقتهم .
وتبادلنا النظرات، كما لو أن أحدنا يريد من البقية تفسيراً لما يجري، وحقيقته كذلك . 
-لا تنظروا في وجوه بعضكم بعضاً، إنما انظروا إلينا .
تابعنا مصدر الصوت. كان صادراً عن أحد الضباع.
سد البعض منا أنوفهم، إشارة إلى الرائحة المنبعثة من قطيع الضباع الذي أحاط بنا.
-لا يُعقَل أنكم لم تعتادوا روائح آخرين، وخاصة رائحتنا، هذا غير مقبول منكم..غير مقبول، أنتم أهل مدينة، وعليكم أن تعتادوا شم روائح كثيرة، خاصة مدينتكم .
لا شعورياً تركنا أنوفنا تحت رحمة الرائحة المنبعثة من أجسام قطيع الضباع. لا شعوريا، وربما بتأثير ما كنا نسمع، أصبحنا نتابع ما يجري .
-مسيرنا إلى الماء .
قالها أحد العرجان، وهو يمرّر راحة يده على خطم ضبع ملتصق به، وكأنه يرجوه عناقاً .
-وهل سوى الماء ؟ نحن ننتظركم منذ بعض الوقت .
قالها ضبع، وهو يهز رأسه صعوداً وهبوطاً، فاتحاً شدقيه على وسعهما .
-سنعطيكم ماء. إنما لا شيء بالمجّان .
قالها ضبع آخر، وهو ينظر إلى بقية الضباع، ثم مسح وجوهنا بنظرة سريعة .
-لقد جئنا بهم، لتسهّلوا مهمتنا سريعاً.
قالها أحد العرجان .
-السريع مقابل الأداء السريع .
قالها ضبع من وسط القطيع، وهو يرتفع في الهواء بجسمه ويهبط إلى حيث هو موقعاً .
-لم تخبرونا بما سيجري. على اللقاء بلقاء غير منتظر كهذا .
وجَّه أحدنا كلامه إلى أحد العرجان .
-لا تكبّروا الموضوع، لا شيء أغلى من المدينة، وإرضاؤهم سهل .
-نحن جوعى .
قالها ضبع في الجهة اليمنى لنا .
-سنوفر لكم لحماً بالشكل الذي يشبعكم، حالما نرجع .
نظر الضباع إلى بعضهم بعضاً، وحرّكوا رؤوسهم، ثم رفعوها وخفَّضوها ، لنسمع صوت أحدهم، وكان واضحاً ومسموعاً من الجميع .
-جوعنا لا يحتمل التأجيل، وثمة لحم هنا، ولا داعي للانتظار، ولا بد أنكم تعرف جوع الضباع .
صدَمَنا الكلام المسموع، وأخافنا بنبرته، وحقيقة محتواه .
-سنرجع دون الماء، وليس هناك من يستعد ليصبح وليمة لهم .
أصدروا صوتاً غريباً، مزيج من العشير " صوت الضبع " وما هو قريب من ضحكنا:
-نحن من يحدد لكم ما إذا كنتم سترجعون أم لا وكيف. أنتم في منطقتنا نحن .
تكلم ضبع بصوت مرتفع، ولم يبد العرجان أي حركة احتجاج أو تعليق .
وأردف آخر:
-كوننا أكثر رحمة منكم، سنكتفي بالقليل، حتى نصل إلى مشارف مدينتكم، وحينها توفون بوعدكم لنا، ونحن من جهتنا، سنسهّل عملية إيصال الماء إليكم بسلام .
بحركة سريعة، خطِف البعض منا من الوسط، من الأطراف، مثل الدوامة. لم ينقص من العرجان أحد، وهذا أثار استغرابنا .
-لماذا لم ينالوا منكم ؟
هكذا سألهم أحدنا . هز ضبع رأسه في الجوار:
-هذا يتبع حكمتنا نحن الضباع، ويبدو أنكم لم تعتادوها. هذا غريب، رغم أنكم تعيشون أهوالاً .
وعلَّق أحد العرجان :
-نحن أيضاً متاحون لهم، إنما يظهر أنهم فضَّلوكم علينا، وقد ذاقوا لحمنا سابقاً.
بقينا في حيرة من أمرنا، ونحن نترقب لحظة العودة.
عدنا أكثر قهراً، أكثر تعرضاً للتعب، أكثر مخاوف. بدأنا نتناوب في حمل العرجان، فقد اشتكوا ضعف قدرتهم على المشي الطويل، ووجدنا أنفسنا ملزمين بحملهم. يا لقهرنا المضاعف .
قاربنا مشارف المدينة. سال لعاب الضباع . رفع أحدهم صوته، وهو ينطنط في الهواء:
-هوذا قطيع الغنم، لقد تضورنا جوعنا، وراعيناكم فراعونا .
قالها الضبع الكبير، وهو يترنح في مشيته .
اضطررنا إلى تقديم عدد كاف من النعاج لهم، كانت تفيض سمنة. رأيناهم وهم ينزِلون فيها نهشاً وتمزيقاً وقضْم قطَع كبيرة:
-إنه لحم لذيذ، منذ زمان، ونحن لم نستطعم لحماً كهذا. إنهم كرماء  كما يبدو .
قالها ضبع متوسط الحجم، وهو يرفع فخذ نعجة عالياً، ويحاول ابتلاعه بالكامل .
-الآن، لا تنسوا مدَّنا بالماء، فمدينتنا تنتظره، ونحن لم نقصّر معكم .
قالها أحدنا .
رأينا الضباع ينظرون إلى بعضهم بعضاً. رأينا الضباع والعرجان ينظرون إلى بعضهم بعضاً، رأينا الضباع والعرجان ينظرون إلينا، ثم ينظرون إلى بعضهم بعضاً مجدداً هازين رؤوسهم:
-كيف لنا أن نترك مرجاً كهذا، وفيه الطعام الوفير، حيث لا منافس لنا. انسوا أمر الماء الآن، لا تستعجلوا كثيراً. دعونا نفكّر، سنتدبر أمركم، إنما احرصوا على عدم إغضابنا .
نظرنا إلى بعضنا بعضاً، وكلنا خذلان، همس أحدنا كما لو أنه يخاطب نفسه، لئلا يُسمع صوته:
-كانوا بعيدين عنا للغاية، وقد جئنا بهم إلى مشارف مدينتنا، ليهددونا في موارد عيشنا، لنخاف على مدينتنا هذه، أكثر من التفكير في الماء، رغم أن التفكير في الماء والخوف مما يجري واحد.
أدركنا حجم المخاطر، ثم نظرنا إلى العرجان الذين كانوا مجاورين للضباع، كما لو أنهم صمٌّ ! 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4
تصويتات: 4


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات