القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: الخروف المدرَّع

 
الثلاثاء 10 نيسان 2018


د. آلان كيكاني

يا للوحش!
حين بانت قرونه من بين ركام الأطلال، وانتشرت رائحته، رائحة التيس في موسم السفاد، وماج شعره الأسود الكثيف الملبد مع هبوب الرياح، وملأت دمدمةُ حوافره وهدير حنجرته وفحيح أنفاثه الآفاقَ، بثّ الرعب في قلوب أعتى الجبابرة، وارتعدت فرائصهم، وراح أهل الغابة يبحثون عن وسيلة للتخلص منه قبل أن يتمكن منهم، ويقضي عليهم.
"مَن للوحش أيها الأبطال؟ 
من للوحش أيها الصناديد؟ 
من للوحش أيها البواسل؟
ووعداً منا، من دحره، كان له ما يشتهي ويتمنى".


بهذه العبارات خاطب أعيان الغابة ووجهاؤها الجمهور على خشبة مسرح روماني، يشحذون همم شعوب الغابة، ويحثونهم على الدفاع عن وجودهم ضد الخطر المحيق بهم. وكرروا نداءهم مرتين، وثلاثاً، وأربعاً، ينتظرون من يرفع يده ويأخذ على عاتقه مهمة تخليص أهل الغابة من الكارثة الوشيكة.
غير أن آمالهم خابت حين شاهدوا الأسد، أعتى العتاة وأقوى الأقوياء، قد دس ذيله بين فخذيه، وأطرق رأسه حتى لامس خشمه الأرض، ثم استدار وانصرف إلى عرينه في ذل واضح. 
وما لبث أن اقتدى به النمر، ثم الفهد، ثم الذئب، ثم الضبع، ثم الكلب، ثم الوشق، ثم القط. أما الثعلب والأرنب فلم يُعرف لهما، أصلاً، أثرٌ منذ الساعة التي بات يجري الحديث فيها عن الوحش المدمر، قاهر الهامات، ومحطم الرؤوس.
وقبل أن ينتهي سادة الغابة من مناشدتهم، طارت النسور والصقور والعقبان إلى أوكارها على قنن الجبال، ترصد منها ما يجري على الأرض. أما الأفاعي والعقارب والعناكب فقد تسللت إلى جحورها، واختبأت فيها. 

وحتى الحيتان وأسماك القرش ارتدّت من أطراف البحر إلى أعماقه، حينما تناهت إلى أسماعها أحاديث تتناول الوحش، وتصور همجيته، وقسوته، وقوته، وجبروته، وقدرته الهائلة على القتل والتدمير، وتشبهه بالمارد الذي يخرج من القمقم ولا يستطيع أحد السيطرة عليه، ثم لا يعود إليه إلا وقد عاث في الأرض فساداً ودماراً. 
وفي الساعة التي أدرك فيها السادة والأعوان أن الساحة قد خليت إلا منهم، وأن الوحش قادم لا محالة، دبّ الرعب في نفوسهم وقرروا أن يتركوا الغابة ويولوا الأدبار. 
وقبل أن يهبطوا أدراج المسرح سمعوا مأمأة. التفتوا إلى جهة الصوت، فوجدوا خروفاً صغيراً، منفوش الصوف، ضامر البطن، انسل من بين التلال واتجه نحوهم. فتوقفوا له حتى أدركهم. 
وما كان أشد دهشتهم حين سمعوه يقول لهم وبكل ثقة:
أنا له يا سادة.
ضحكوا منه وقالوا له:
لكن صوفك ناعم، وجلدك طري، وأظلافك كليلة، وأسنانك ضعيفة، أيها الخروف الوسيم، وعضة واحدة من أسنان الوحش الكبيرة، أو ضربة من قرونه الحادة، أو ركلة من حوافره الضخمة، كافية للقضاء عليك. فكيف ستواجه هذا العملاق، الذي ترتعش على ذكره قلوبنا، رغم جبروتنا وحيلتنا؟
وبمزيد من الشجاعة والثقة بالنفس، رد عليهم الخروف وقال:
درّعوني، وستروني.
لا عليك، سندرعك، وسنراك.
لكن قبل أن نبدأ، بمَ ستكافئونني إن أنا هزمت الوحش، ورددته على أعقابه؟
انظر إلى هذه الجهة أيها الوسيم، سيكون لك هذا المرج كله، ترعى فيه بسلام حتى تشبع، وتلعب فيه بحرية حتى تتعب. وفي وسطه جداول وغدران تشرب منها حتى ترتوي. 
اتفقنا.
وصنعوا للخروف رداءً من جلد القنفذ، وجعلوا له أنياباً اصطناعية حادة ليعض بها، بدلاً من أسنانه التي لا تهرس غير الكلأ، وألبسوا أظلافه بمخالب نافذة ذوات رؤوس مدببة، وركّبوا له حنجرة، تصدر صوتاً هو مزيج من زئير الأسد، ونحيم الفيل، وزمخرة النسر، ليرهب به عدوه، ثم أطلقوه على الوحش.
حين رآه الوحش، وتأمله ملياً، وسمع صوته الغريب يستدرجه به إلى ساحة القتال قال له:
عرفتك أيها الحمل الوديع، كفّ بلاك عني ولك مني الأمان، فإني في النهاية لا أقصدك، وإنما أقصد من درّعوك.
لكن الخروف المتحمس لم يأبه بتحذيراته، وتقدم نحوه بشجاعة ورباطة جأش. وحين كان على بعد خطوة واحدة منه نطّ فجأة وغرز نواجذه الحادة في عنقه. فصرخ الوحش وجرى بسرعة والخروف يتدلى من عنقه مثل جرس ينوس في جيد كبش، ويحاول خنقه كما تفعل الضواري حين تصطاد فريستها. 
لكن الخروف سرعان ما تعب وسقط أرضاً، فارتد عليه الوحش وركله ركلة قوية، فغرزت أشواكه الحادة في ساق الوحش وراح الأخير يصرخ ويولول من شدة الألم، وينزف من ساقه.
وبعد ساعة من الكر والفر ركن الوحش في واد من شدة التعب والإرهاق وربض هناك يلهث، فارتقى الخروف سفح الجبل وكوّر نفسه حتى صار كرة من الأشواك وتدحرج سريعاً نحو الوحش حتى ارتطم به فزعق الأخير من الرعب، وقفز في الهواء، وأطلق العنان لقوائمه، وجرى بأقصى سرعة، دون أن يلتفت إلى الوراء حتى غاب خلف الأفق.
وحين تيقن الخروف ان الوحش ولى من غير رجعة أخذ يلعب ويقفز في الهواء فرحاً بالنصر الذي حققه. ثم عاد إلى المسرح، حيث كان الأعيان يراقبون صولاته وجولاته مع الوحش مصفقين له وهو يذيقه شر الهزائم، وطالب بمكافأته. 
وبينما كان ينادي مناد شعوب الغابة قاطبة ويدعوها إلى الاحتفال بالنصر الكبير الذي حققه الأعيان على الوحش ويطالبها بالحضور لتناول وليمة الغداء على أرض المسرح، نزع الأعيان سترة الخروف من جلد القنفذ، وأزالوا نواجذه الحادة وبراثنه الصلبة. ثم أبطحوه أرضاً، وتحكم أحدهم بقوائمه الأربعة وجاء آخر وفي يده سكين يلمع نصله، ثم تناول رأسه ووجه السكين إلى عنقه، فقال له الخروف:
لكن أين المرج؟ إني جائع بالفعل.
فقال القابض على السكين:
ستأكل منه. فقط أرخ نفسك ولا تتوتر.
ها قد أرخيت نفسي. ولكني أشعر بعطش شديد من جراء مطاردتي للوحش، وأريد شرب الماء من أحد الغدران في المرج.
وحين اقترب السكين من عين الخروف نظر إليه وسأل:
من أين أتيت بهذا السكين؟
هذا هو السكين الذي ذبح به جدي جدك، بعدما قضى جدك على وحش ظهر عليهم في ذاك الزمان. أراك تثرثر كثيراً، أيها الخروف الجميل، هل لك كلمة أخيرة أو وصية تريد ان تقولها أو طلب نلبيه لك؟
نعم. بالله عليك، سنّ السكين جيداً حتى لا يؤلمني وهو يحز رقبتي.
يا للترف الذي تحلم به! في الحق إن قيمنا تفرض علينا تخدير الضحية وشحذ السكين جيداً قبل الذبح. لكن الظرف طارئٌ، فمن أين سآتي لك بمخدر ومبرد؟
ها هنا، اشحذه على أسناني. (يطرق أسنانه بظلفه بعد أن أفلت قائمتيه الأماميتين قليلاً وأبقى فمه مفتوحاً). أما التخدير فلا داع له، فقد أدمنت على الذبح ولم أعد أهابه.
على السمع والطاعة، أيها الحمل الوسيم. (وشحذ السكين على أسنان الخروف)
وبعد ان بصق الخروف ليطرد طعم برادة الحديد من فمه قال:
لكن أين المرج...
في مكانه..
لقد وعدتموني به!
كان هذا حين كان خطر الوحش قائما.
قل لي، ماذا ستفعل بهذا السكين فيما بعد؟
سأحتفظ به لأحفادي. ربما سيحتاجون إليه.
وما شأنهم به، إذا جاز لي السؤال؟
سؤال جيد، إذا عاد إليهم الوحش، ودحره حفيدك، كافأوه به.
لكن الخروف لم يسمع الجواب على سؤاله الأخير، لأن رأسه كان مفصولاً عن جسمه، بينما كانت سفود الشواء تنتظر لحمه.
..........
21/3/2018
عن جريدة بينوسا نو

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 2


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات