القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: هل يقتل الفنان التشكيلي نفسه حقاً؟ الفنان مالفا أنموذجاً

 
الثلاثاء 19 كانون الثاني 2016


إبراهيم اليوسف

خطر في بالي هذا السؤال، وأنا أتابع سيرة الفنان التشكيلي  الكبير-مالفا- منذ بدايات تجربته وحتى لحظة رحيله، عن طريق المقربين منه، فنانين، أو أهلين، أو عبر ما توافر بين يدي مما هو مدون عنه، واختصرت مدونته الأولى التي وقعت بين يدي في كتاب "قصة حياة أو لون" لزوجته جانيت كوركيس، والذي قرأته مرات عدة، بعد أن حصلت عليه، الكثير، وكان من عداد الكتب التي توزع -يدوياً- في سبعينيات القرن الماضي، على ما أذكر، ولم يكن متوافراً في تلك المرحلة في المكتبات، شأن الكتب المسموح لها بالتداول من قبل وزارة الإعلام السورية التي كان يعمل فيها قراء برتبة-مخبر-إلا في حالات استثنائية طفيفة.


ولعل ما دعاني لطرح هذا السؤال، هو ما نقل لي عن طريق الطبيب المشرف على علاج مالفا Dr.Reinhard Schuster
، والذي حذره عندما اكتشف مرضه، إذ قال له: أبعد الألوان عن مرسمك، بيد أنه-مع ذلك- كان يعود بين الفينة والأخرى إلى مرسمه، على أمل أن يرسم لوحته الأخيرة "وجه عمر حمدي" تلك اللوحة التي لم يمهله مرضه الذي احتد و احتدم عليه، على إنجازها، بعد أن اختصر العالم كله في وجوه شخصيات لوحته، بل بعد أن توزع وجهه في وجوه عالم فني كامل. غير أن فناننا الذي قدم للتشكيل العالمي أعظم مشروع، لم يكحل كلتا عينيه برسم لوحته تلك.
لم كان على مالفا رسم لوحته؟
أهي النرجسية، المسوّغة، التي تساور ذات كل مبدع، أم لأنه الوجه الذي تابعه منذ أن فتح عينيه على المرايا، وبات يتابعه بين حبو الطفولة؛  وسرير المشفى  الأخير SMZ Ost-Donauspital
  ؛ وما بينهما من حبور الصبا والصبا والشباب والكهولة. على اعتبار أن عينيه اللتين كانتا بوابتي روحه على الكون اختزنتا سيرة عمرها عقود متواصلة، لوجه واحد، في محطاته المختلفة، قبل أن يخترق حصونه فايروس المرض، ويجعله أشبه بورقة صفراء،  رهن الذوي، تخلو من أرومة الأصفر الذي طالما كان جزءاً من المعادلات اللونية التي اعتمدها.
لا ضير في الابتعاد عن الأسئلة الفرعية، أنى كنا في حضرة الأسئلة الأم التي نفتتح بها دواة الحبر، والصوت، و الحيرة، وهو ما يحيلنا في نصف دورة، أو أكثر، أو أقل، إلى سؤال المقام، أو المقال:
-هل يقتل الفنان نفسه حقاً؟.
ثمة رعونة ذات جذر مازوكي، رغم سادية المظهر، تصل إلى مقام الوحشية تعامل عبرها مالفا مع لوحته، إذ بدأت مسيرته مع فضاء اللوحة، عبر شفرة الحلاقة، المهملة، المرمية، التي كان يغسلها- جيداً- من إثم الحلاقة، بعد استهلاكها، كي يضرب بها قماش اللوحة، يهندس ألوانه، التي ستنتظم ضمن إطار الواقعية التعبيرية، بما يجعلها أقرب إلى عفوية ذلك الطفل الذي كان يرى أن بعثرته لمجرد لونين على بياض لوحة قد يكون أصدق من لوحات كل فناني العالم. ولعله كان دائم السير نحو ذلك الطفل في أعماقه، فلم يكتف بالشفرة-أداته الثانية بعد أصابعه- حتى بعد أن صار يمتلك أفضل أنواع الريشات العالمية الحديثة، حيث ظلت أصابعه تطفح برائحة ألوانه، طوال ساعات متواصلة، دون أن يمسحها بمريولته، التي ظلت في المرسم، بعد وفاته، وهي تحمل آثار أصابعه، كلما أراد أن يمارس استراحة قصيرة، يدخن فيها، أو يشرب خلالها فنجان قهوة، أو عصير، أو كأس ماء فاتر مليمن، ليعود إلى لوحته، وكأن "شاويش" القطن، الذي كان يستحثه وأختيه الكبريين وهم يعملون في حقل القطن، الحسكي، يجنون ندفه، أو جوزاته، لا يزال صوته يتردد في مسمعه، بعد أن تحول هذا العمل إلى هيام لم ينته إلا مع النفس الأخير من حياته.
 هذه العلاقة الحميمة بين عمر الفنان السوري الكردي والألوان منذ لوحته الأولى وحتى الأخيرة، وهي توازي، زمنياً،  محطات عديدة من حياته، كانت تقدم له المتعة، وأية متعة أعظم من متعة الإبداع؟، بيد أنها كانت تنعكس على صحته-تدريجياً- فهي كما ثبت-طبياً- وراء مرض "اللوكيميا" الذي تعرض له دمه، ليكون الفنان التشكيلي، شأن العامل في مجالات-الدهان- في مرمى الكيمياء اللامرئية، معرضاً لهذا المرض، ولابد عليه من وقاية نفسه، بعد أن دفع مالفا حياته ثمن هذه المصاهرة بين روحه، وألوانه، إذ كان عليه أن يجنب نفسه هذا الجو، من خلال إتباع سبل الوقاية، المفترضة، وفي مطلعها تجنب لمس الألوان، على نحو مباشر، بالإضافة إلى استخدام "الكمامات" الطبية، ناهيك عن توفير شروط التهوية الصحية، داخل المرسم، وهو ما لم يفعله فناننا، كما هو معروف عنه.
هل كان مالفا يجهل مايجري له؟
أم أنه كان يعرف أن ثمن صناعة لوحته التي تشبه قلبه، باهظ، لا محالة، حيث كان أخطبوط السرطان يوسع شبكته داخل جسده، يحكم الهيمنة عليه، بينما هوساهٍ عن كل ذلك، مادام أنه لقاء ما يحدث له، يواصل إنتاجه، وإن كانت ثقته بخالق هذه اللوحة جد كبيرة، إذ كان يظنُّ أن من استطاع أن يتحمل كل صنوف الألم في حياته، من دون أن يتخلى عن لوحته، لا يمكن له أن يهزم. هذه الطمأنينة، كانت حافزاً مبيتاً في نفسه، المتلاطمة، كمحيط، والهادئة كصفحة مرآة،  لكي يواصل هذا المرض مداهمته لهذا العالم الوديع، البريء، الذي ليس له سوى مجرد أحلام عامة تخص الناس جميعاً، كما علمته ثقافته التي نهل منها، في بيته، وبيئته، ورؤاه الفكرية، المتشكلة، دون أن ينسى محبة من هم مقربون منه.
لقد كان اعتراف طبيبه له بالقول:
مالفا، أنت تعاني من السرطان، جدَّ صادم له، فقد عض على شفته، لكنه، لم يعدم ثقته بمقاومة هذا الوباء الذي تأخر في اكتشافه، حيث كانت هذه الحقيقة ذلك الخط الرَّفيع، ما بين النقائض: الإبداع واللاإبداع، الجمال والقبح، الحب واللاحب، الحياة والموت، غير أنه سرعان ما صار يفكر بالخطوة التالية، وهي كيف سأقف في وجه هذا العدو الذي استوطنني، من دون استئذان، كي يصارح شقيقه الطبيب د. عمران حمدي، وشقيقته الصغيرة، آخر العنقود، التي كان قد سماها بنفسه، فاتحاً كل نوافذ التفاؤل حتى آخر لحظات وعيه التي هزمت أمام شبح الغيبوبة الفاجع..! .

فصل من مخطوط معد للنشر بعنوان:
عمر حمدي - مالفا
ما وراء اللوحة

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 9


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات