القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مسرح: عندما يغني شمدينو

 
الثلاثاء 31 تشرين الاول 2006

  أحمد اسماعيل اسماعيل


مسرحية قصيرة

      ( الوقت: عصر .. فناء دار طينية قديمة ، تتوسطه شجرة توت هرمة أغصانها متدلية ومتشابكة ، ثمة بئر غير بعيدة عن الشجرة . يدخل رجل مسن من باب خشبي عتيق لغرفة واطئة ، يجلس القرفصاء تحت الشجرة  يتأمل ما حوله بنظرات فاحصة وعينين كسيرتين .. لحظات وتتبعه امرأة عجوز . تغمغم بكلمات رتيبة وهي تمصمص كسرة خبز يابسة . تجلس إلى جانب الرجل )

 المرأة   : (بتوجع ) آخ .. لا أعرف كيف صليت .
الرجل   : ...
المرأة   : اللعنة على العجز وآلامه ، حتى الصلاة صرت عاجزة عن القيام بها . مغفرتك يا رب . والله إني أتنفس بصعوبة .
الرجل   : (دون أن يلتفت ناحيتها ) أيؤلمك قلبك كثيراً يا فاطمة ؟
المرأة   : أحس من شدة خفقانه بأنه سيتوقف بين لحظة و أخرى .
الرجل   : (بعد صمت قصير) هل نفد دواؤك ؟
المرأة   : (بسخرية مرة ) دواء ؟! لقد نسيت طعمه منذ زمن بعيد .
الرجل   : لماذا لم تخبريني يا امرأة ؟
المرأة   : بماذا أخبرك يا رجل ؟ ليت هذا القلب يتوقف إلى الأبد .
الرجل   : وأبقى وحيداً ؟!
المرأة   : لتتخلص من همي وترتاح ..و أرتاح أنا أيضاً .
الرجل   : آه فاتي ..لو تدرين بماذا أحلم لما قلت هذا الكلام لشمدينو .
المرأة   : (باستغراب ) تحلم ؟! ياه .
الرجل   : أي نعم .. أحلم .
           (يدندن . المرأة تهز رأسها على إيقاع دندنته .. )
المرأة   : لم تقل بماذا تحلم ..؟
الرجل   : أحلم بأن أشتري لك بابور غاز .. هل تعرفين ما بابور الغاز يا فاتي ؟
            (المرأة تحملق فيه دون أن تفهم شيئاً) أنا أعرفه . نعم ، رأيته في إحدى المرات في بيت ابن أوصمانو ..اسمعي . ما أن تشعلي عود الثقاب ثم تقربيه من هذا البابور حتى يشتعل فوراً،كم هو مريح هذا الغاز، إنه شيء مدهش ..مدهش حقاً .
المرأة   : لا بد أنه ينضج الطعام بسرعة . أليس كذلك ؟
الرجل   : أوهو.. بسرعة عجيبة .
المرأة   : (بانكسار وهي تعالج كسرة الخبز بأسنانها)يا حسرة . وماذا أصنع به ؟
الرجل   : وأحلم بتمديد صنبور ماء إلى الحوش . إنه خير من الدلو .. هذه البئر     تضاعف من آلامك .
المرأة    : والبيت . ألا تريد أن تصلحه ؟ أخشى أن يقع على رأسينا يوماً ما .
الرجل    : سأصلحه ، وسأبني لك حماماً مستقلاً .. حماماً مستقلاً يا فاتي !!
المرأة    : حمام ؟!
الرجل   : نعم . ألا تصدقين ؟
المرأة   : ....
الرجل   : لا بد أن هذا سيعسدك كثيراً ، و يخفف من آلام قلبك .
المرأة   : ....
الرجل   : (بضيق ) فاتي ؟
المرأة   : ماذا ؟
الرجل   : لماذا لا تقولين شيئاً ؟
المرأة   : وماذا تريد أن أقول ؟
الرجل   : لا أعرف .. قولي أي شيء .
المرأة   : (بعد صمت ) شمدينو .
الرجل   : نعم .
المرأة   : ألست جائعاً مثلي ؟
الرجل   : (بانكسار ) أنا ؟
المرأة   : لليوم الثاني لم نتناول أي طعام .
الرجل   : ...
المرأة   : ما بك يا رجل ؟!
الرجل   : (يدندن بحزن وألم )...
المرأة   : منذ أيام عديدة لم يطرق أحد باب دارنا .. هل خلت الدنيا من أهلها ؟
الرجل   : لا أحد ؟!
المرأة   : نعم . لا أحد .. لا أحد سوانا .. وهذه القطة المسكينة .
الرجل   : أيام زمان كان هذا البيت يمتلئ بالرجال .. هل تذكرين ذلك ؟
المرأة   : وكيف أنسى ، كانت أيام عز وجاه ، كنا خالاً وعمة للكثيرين .
الرجل   : كانوا رجالا كالقطط .. يا خسارة .
المرأة   : كنا في كل سنة نذبح بقرة أو اثنين .
الرجل   : لم يكن يخلو بيتنا من اللحم .
المرأة   : كنت أجففه وأصنع منه القلِّية ، أتذكر القلَّي ؟
             ( تضغط على بطنها مربدة الوجه ..)
الرجل   : (يتلمظ) وكيف أنسى القلَّي ؟!
المرأة   : أما الآن ..
الرجل   : (يدندن ) ..
المرأة   : عندما أشم رائحة اللحم عن بعد أحس .. أحس بأنني ..
           ( يتهدج صوتها .. فتصمت )
الرجل   : ( يدندن) ...
المرأة   : مرات .. مرات كثيرة أنسى وجع قلبي من شدة الجوع .
الرجل   : (يدندن )...
المرأة   : ( تنصت ) هس . اسمع
           (لحظة صمت وترقب . يسمع صوت صرير الباب )
الرجل   : (مستبشراً ) هل قدِم إلينا أحد ما ؟
            ( القطة تموء ..)
المرأة   : (بخيبة ) لا. إنها هذه الملعونة . لا أفهم سبب مكوثها هنا . (للقطة ) بس .
             بس .
الرجل   :  إنها أصيلة ..أكثر أصالة من الكثيرين .
المرأة   : هذا صحيح . حتى أعز أصدقائك لم نر أحداً منهم منذ زمن بعيد .
الرجل   : (بسخرية ) أصدقاء ؟! من تقصدين ؟
المرأة   : حسو و أوصمانو  .
الرجل   : حسو مات يا فاتي . مات المسكين وترك أحفاده اليتامى الذين كان يعيلهم
            للحاجة والشارع .
المرأة   : حقاً ؟!
الرجل   : نعم .
المرأة   : الله يرحمه ، كان رجلاً طيباً .
الرجل   :  كان يحلم  دائماً بأن يرى الملا . أن يصافحه ويقبل يده .
المرأة   :  المسكين ، لم يحقق شيئاً من أحلامه .
الرجل   :  ومن منا حقق أحلامه ؟
المرأة   : و أوصمانو .. ما أخباره هو الآخر ؟
الرجل   : أوصمانو رجع إلى سابق عصره ؛ محمودكياً عنيداً .
المرأة   : ماذا تقول ؟ هل عادت هذه اللعنة مرة أخرى ؟!
الرجل   : نعم يبدو أنها لم تغادر قلوبنا .. وأخشى أن تدوم إلى الأبد .
المرأة   : لكنكم مع ثورة الملا قلتم : لا محمودكية  ولا عثمانكية بعد اليوم .
الرجل   : نعم .وعندما مات الملا ارتد كل واحد منا إلى ما كان عليه من عصبية.
المرأة   : (بجزع .بعد تفكير قصير ) هل قلت : مات الملا . هل مات حقاً ؟!
الرجل   : نعم ، ألم أذكر لك ذلك مراراً يا امرأة ؟!
المرأة   : بلى . لكني لم أصدقه .أقصد ..
الرجل   : معك حق ، أكاد،أنا أيضاً ،لا أصدق موت هذا الرجل، الله يرحمك يا ملا
             مصطفى .
المرأة   : (بخوف ) شمدينو .. ولمن تركنا الملا ؟!
الرجل    : (يدندن )...
المرأة   : شمدينو .
الرجل   : ...
المرأة   : آه لو كان ابننا هنا .
الرجل   : ...
المرأة   : (بغيظ) كان عليك أن تمنعه من الهجرة . إنه وحيدنا .
الرجل   : وحيدنا لم تكن تعجبه حياتنا .
المرأة   : لمن تركتنا يا ولدي ؟
الرجل   : لا بد أنه سعيد هناك .
المرأة   : هل ستراه عيناي مرة أخرى ؟
الرجل   : ماذا ستفيده عيناك يا امرأة . عيون الشقراوات هناك أجمل . (يضحك)
المرأة   : وي . وي  أتضحك من شقاوة ابنك يا رجل ؟! .
الرجل   : (بتخابث ) إنه ابن أبيه . هل نسيت أيام أبيه ؟  (يلكزها )
المرأة   : (تضغط على قلبها بألم ) أووه .. ألا زلت تذكر تلك الأيام !
الرجل   : نعم . ولن أنسى نظرات فتيات كَولي الجميلات .
المرأة   : (بغيرة بسيطة ) ولن أنسى غيظي منك ومنهن .
الرجل   : (بسعادة ونشوة) كان غيظك مبعث سعادة فائقة لي .
المرأة   : لهذا كنت لا تنفك تتردد يومياً على نبع القرية .
الرجل   : (يضحك بنشوة ) ..
المرأة   : كنَّ أحياناً يتشاجرن بسببك .
الرجل   : وأنت فاتي . هل تشاجرت معهن بسببي ؟
المرأة   : لا . كنت أصمت وفي دخيلة نفسي أتمنى أن أفقأ أعينهن جميعاً .
الرجل   : لكنك فقأت أعينهن يوم عرسنا .
المرأة   : (حالمة ) نعم . كأن يوم العرس كان البارحة .
الرجل   : (حالماً  ) يومها راح شباب القرية يلحون عليَّ كي أرقص .
              (صوت الطبل والمزمار يتصاعد ..)
المرأة   : أذكر ذلك . حينها رقصت كغزال .
           (يتجسد الحلم مع ارتفاع صوت الموسيقى ويبدأ الرجل بالرقص شيئاً
             فشيئاً )
الرجل   :  وصار والدي يصيح :هيه..  تعالوا يا شباب كَولي،اليوم عرس شمدين.
             هيا إلى الدبكة . هيا ..
المرأة   : وأنا كدت أطير كالعصفورة . فرحت أرقص وأرقص ..
             (المرأة تشاركه الرقص .. أصوات مختلطة . هرج ومرج )
صوت   : اقرع بقوة يا رجل .
            (صوت الطبل يعلو ..)
صوت   : أين الشباب . هيا يا شباب .
صوت   : شاباش .
             (زغاريد النساء تشق عنان السماء ..)
المرأة   : ( تقف . بألم ) آه ..
الرجل    : (يهز رأسه طرباً ) هيا يا شباب
المرأة    : (بتوجع ) شمدينو .
               (الموسيقى تخفت )
 الرجل    : ياه ...
المرأة    :سأموت .
             (صمت تام .. يلتفت الرجل ناحيتها كمن استيقظ من حلم )
الرجل    : ما بك يا فاتي , أهو قلبك مرة أخرى ؟           
المرأة    : ( تتألم ) ...
الرجل    : لماذا لا تجيبين يا امرأة ؟
المرأة    : لم أعد أعرف ما يؤلمني .. قد يكون قلبي . وقد تكون معدتي الخاوية .
الرجل    : ( يتحسس معدته ) لو تذكرنا ابنك وأرسل لنا أي شيء .. لكنه كلب .
المرأة    : ( بجزع ) لا تغضب منه , كم أنا خائفة عليه .
الرجل    : اطمئني , أحضان الكافرات قد أنسته حليب أمه .
المرأة    : كيف لا أخاف عليه و عيناه زائغتان مثلك . إنه كولي أصيل .
الرجل    : قلت اطمئني يا امرأة . هناك لا يهتمون مثلنا بالشرف .
المرأة    : وهل هناك من لا يهتم بشرفه ؟!
الرجل    : نعم . الرجل هناك يحب أكثر من امرأة ،و المرأة .. ( يهمس في أذنها . 
              يضحك ..)
المرأة    : (باستغراب ) أستغفر الله . أستغفر الله و أتوب إليه.ما هذا الكلام الغريب؟!
الرجل    : إنها الحقيقة . آخ لو كنت هناك الآن .
المرأة    : عيب يا رجل، لقد هرمت ، لم يبق فيك خير .
الرجل    : ( بانفعال ) أنا هرمت ؟! إنك تهذين . أنا مازلت أقوى من ابن العشرين .
المرأة    : ( تكتم ضحكة ساخرة ) ...
الرجل    : أتسخرين مني . الآن لم أعد أعجبك يا بنة عليكو ؟!
المرأة    : ( باضطراب ) لم أقصد السخرية يا رجل . إنه الجوع . الجوع أفقدني
               صوابي .
الرجل    : ( بضيق ) الجوع . الجوع . كفى يا امرأة ، ألا تفكرين إلا ببطنك ؟!
المرأة    : وهل طلبت قلية ؟ تكفيني كسرة خبز ؛كسرة خبز غير يابسة .
الرجل    : ( يطأطئ رأسه بحزن ) ...
المرأة    : هل هذا كثير عليَّ ؟!
الرجل    : ( يدندن ) ....
المرأة    : ( تحدق في السماء بإمعان ) هل هبط الليل ؟
الرجل    : ( يدندن ) ..
المرأة    : ( تجيل ببصرها فيما حولها ) غريب !
الرجل    : ( يتأملها.بعد صمت ) فاتي  .
المرأة    : (تنشج ) ..
الرجل    : هل أنت جائعة كثيراً ؟
المرأة    : ( تمسح دموعها بصمت )..
الرجل    : أعرف أنك تتألمين من ..
المرأة    : لو كان للصخر قلب لأنفطر حزناً علينا .
الرجل    : هل سئمت مني يا فاتي حتى.. (يتهدج صوته فيصمت ).
المرأة    :لا . بل سئمت من روحي اللعينة .
الرجل    : إذن.. أنت مللت من طول قعودي في البيت ؟
المرأة    : (بيأس ) شمدينو..
الرجل    : لقد صدق ظني.
المرأة    : أوه..
الرجل  : (بقهر وكبرياء ) أيام زمان كنت تتوسلين إلي أن أبقى ليلة واحدة في
            البيت،ليلة أبقى فيها إلى جانبك ولا أخرج فيها إلى الجبل،أما الآن..
            (يصمت بأسى )
المرأة  : ايه..أيام زمان !! ليتها تعود.لكن..
الرجل  : لكن ماذا ؟! لم يبق إلا أن تقولي لي : انقلع. لعنة الله على العجز.
المرأة  : (باستغراب ) أنا ؟ أنا أقول هذا الكلام ؟! كيف تفكر بذلك يا رجل ؟!
            فليشل الله لساني ويدي قبل أن أنطق بكلمة كهذه، لكن..
الرجل   :(يقاطعها. انفعال ) لكن ماذا ؟ لكن تريدين أن أخرج إلى العمل .أنا أعرف
             ما تفكرين به .أنا لست غبياً. لكنني.. ( ينشج بحرقة )
المرأة   : (مرتاعة وحائرة )..
الرجل   : ...
المرأة   : شمدينو أنا أريدك أن تبقى في البيت دائماً،أن أسمع في كل لحظة صوتك
            يجلجل في الدار وأنت تناديني: فاتي هاتي الماء..فاتي أسرعي بالطعام،فاتي
            افعلي كذا ، فاتي لا تفعلي كذا..يا الله ما أعذب وأرق اسمي وهو يجري
           على لسانك !!
الرجل  : ..
المرأة  : أتذكر ؟ أتذكر أيام زمان؟ عندما كنت تعود من الجبل بطريدة أو اثنتين ؟
الرجل  : ..
المرأة  : كنت في كل عودة لك ،كنت أريد أن أزغرد وأهتف ملء صوتي : شمدينو
           عاد. بطلي رجع ،لكن الخجل ،الخجل وحده كان يمنعني من فعل ذلك .
الرجل  : ..
المرأة  : لكن عندما عدت ذات يوم بذئب ضخم، الذئب الذي كان قد دوخ رجال
           القرية، كنت سأزغرد وأرتمي بين أحضانك .
الرجل  : (بحسرة وبما يشبه التمتمة ) كأنه حدث البارحة .
المرأة  : نعم، وضعت يدك على فمي وقلت : فاتي عيب. فصمت من فوري.
الرجل  : كنت ستفضحيننا في القرية .
المرأة  : صارت النسوة ينظرن إلي بحسد وغيرة .      
الرجل  : لقد فرت تلك الأيام..فهل ستعود يوماً ؟
المرأة  : ( تحس بدوار مفاجئ .تمسك رأسها ) ما الذي يجري يا ربي ؟!
الرجل  : ماذا ؟ ما الذي يجري يا فاتي ؟
المرأة  : السماء تدور بي ، والشجرة.. الجدران أيضاً !
الرجل  : ( يحاول النهوض فيسقط ) آخ..
المرأة  : (بخوف ) شمدينو..ماذا حدث لك؟ هل أصابك مكروه ؟!
الرجل  : لا .لا شيء ،إنه ألم في الرأس و..البطن .
المرأة  : هذا سببه الجوع والمرض .
الرجل  : ماذا ؟!
المرأة  : أعرف أنك جائع مثلي..وربما أكثر .
الرجل : ...
المرأة : قل شيئاً يا رجل .
الرجل : ( بأسى ) في الجبل كنت أقضي أياماً وليالي طويلة دون أن أتناول فيها
           طعاماً ؛ورغم ذلك لم أكن أحس بهذا الجوع الذي..
المرأة : (بعد صمت قصير ) الآن كبرنا يا رجل..لقد هرمنا .
الرجل : ( ينظر إلى السماء ) غريب ! لقد هبط الليل سريعاً !
المرأة : ( ترفع رأسها إلى السماء ) لا. لم يهبط الليل ، يبدو أن غيمه عابرة حجبت 
           وجه الشمس .
الرجل : ربما .
المرأة  : ( تشمشم .بسرور) إنه الخبز !! ألا تشم رائحة خبز ؟
الرجل  : ( يشم،مستبشراً ) فعلاً. إنها رائحته .
المرأة  : ( بسرور زائد ) لا بد أن أحدهم قد تذكرنا .
الرجل  : (بارتياح ) وأخيراً .
المرأة  : الحمد لله .
الرجل  : أولاد الحلال كثر يا امرأة .
           (  لحظة ترقب وانتظار يستنشقان فيها رائحة الخبز بسعادة،ترتسم بعدها
              أمارات الخيبة والمرارة على وجهيهما )
المرأة  : (بانكسار ) لقد ابتعد .
الرجل  : ..
المرأة  : لم يكن الخبز لنا .
الرجل  : (يدندن ) ..
المرأة  : مرَّ من أمام باب دارنا ولم.. منذ زمن لم يطرق أحد بابنا !
الرجل  : (يكف عن الدندنة. بعد صمت قصير ) أين ذهبت القطة ؟ لم أعد أسمع
            مواءها .
المرأة   :(بيأس ) لا أعرف ، لتذهب هي الأخرى إلى الجحيم .
الرجل   : لا تكوني قاسية عليها يا امرأة .
المرأة   : غريب ! لم تكن تطيق سماع صوتها ؟! ولا رؤية القطط .
الرجل   : ماذا أفعل ، صوتها يشعرني بالحياة ،يشعرني بأنني مازلت أعيش .
المرأة   : ستتركنا هي الأخرى ، ستغادرنا كي لا تموت من الجوع .
الرجل   : (بامتعاض ) ها قد عدت إلى الشكوى مرة أخرى .
المرأة   : وماذا قلت ؟! قلت ستغادرنا كي لا تموت من الجوع . حتى الفئران هربت
             ولماذا لا تهرب وهي لا تجد لدينا ما تأكله .
الرجل   : آه لو كان لدي ما يكفي من نقود ل..
المرأة   : ل.. لماذا يا شمدينو ؟ أكمل . لتتزوج بها .أليس كذلك ؟
الرجل   : بل لأجدد شبابي ،أو أذهب إلى هناك . ولكن ابنك الكلب لم يرسل إليَّ قرشاً
            واحداً.
المرأة   : ( بانفعال وخوف) لن ادعك ترحل لتلحق امرأة أخرى.فاطمئن .
الرجل  : ( برضى وسرور) هل تغارين عليَّ يا فاتي ؟
المرأة  : نعم . أكون كاذبة وحمقاء لو قلت غير ذلك .
الرجل  : حقاً ؟
المرأة  : طبعاً .
الرجل  : إذاً أنت امرأة حمقاء . (يضحك )
المرأة   : وأنت، ألا تغار عليَّ ؟
الرجل   :( يحدجها بنظرة عتب واستغراب ) الآن ؟! أغار عليك وأنا في هذا العمر
             يا امرأة ؟!
المرأة   : نعم .ولم لا . أيام زمان،أتذكر ؟ كانت غيرتك عليَّ مجنونة .
الرجل   : (بابتسامة أسى ) نعم. ولا زلت يا فاتي.
المرأة    : ( بسرور زائد ) حقاً ؟!
الرجل    : نعم .وكما يوم حملق فيك خضرو التالاتي ، هل تذكرين ذلك اليوم ؟
المرأة    : نعم أذكره جيداً كما لو حدث البارحة ،رميته أرضاً ورحت تركله وكأنه
             حيوان .
الرجل    : طبعاً حيوان ، نظراته الوقحة إليك لم تعجبني .
المرأة    : مسكين خضرو .
الرجل    : (بانفعال ) مسكين ؟! ماذا يعني هذا يا ابنة عليكو ؟! 
المرأة    : ( بسعادة وخوف ) لا شيء.. أما زلت تحبني كما كنت في السابق ؟
الرجل    : طبعاً .
المرأة    : ( بما يشبه الدلال ) لكني لم أعد جميلة كالسابق، لقد هرمت .
الرجل    : ليكن ، ستبقين وردة أومريان الجميلة .
المرأة    : وردة أومريان ؟! ياه !! كنت دائماً تقول لي هذا الكلام . (بأسى )
              لكن هذا كان فيما مضى،وهناك، أما الآن.وهنا..آه..مما جرى لنا !!
              ( يسود صمت قصير وثقيل. يدندن بعدها الرجل بقهر )
الرجل    : ( يدعك عينيه فجأة ) لقد حلَّ المساء سريعاً .
المرأة     : ماذا قلت ؟
الرجل    : كم أتمنى أن أخرج الآن .
المرأة    : إلى أين ؟!
الرجل    : يجب أن أخرج .
المرأة    : لماذا ؟
الرجل    : لأجلب لك الدواء.
المرأة    : أنا لا أريد الدواء ، كسرة خبز تكفيني،إني جائعة جداً يا شمدينو .
الرجل    : ( لنفسه ) جائعة ..وماذا أقول أنا يا فاتي ؟     
المرأة    : هل ستخرج ؟
الرجل    : (بحرج ) ماذا ؟
المرأة    : كيف ستأتي بالطعام؟ وهل تملك نقوداً ؟
  الرجل  : (يدندن ) ..
المرأة  : (تدلك صدرها ) ضربات قلبي تتسارع كوقع حوافر حصان..إنه يؤلمني.
الرجل  : ( يدندن ) ..
            ( صمت ثقيل تعبر عنه موسيقى مناسبة. يحل الظلام شيئاً فشيئاً )
المرأة  : اسمع ما سأقوله يا شمدينو . إذا مت قبلك فلا تتصدق على الفقراء بأي شيء
           من طعام أو.. ما ستمنحه للآخرين كلْه أنت؛ أنت أولى به .
الرجل  : (كمن لم يسمعها ) فاتي .
المرأة  : (دون أن تسمعه ) اغفر لي يا شمدينو ،سامحني يا رجل، يقال :إن المرأة
           لا تدخل الجنة إن لم يكن زوجها راضياً عنها .
الرجل  : ( دون أن يسمعها ) اسمعي ما سأقوله لك يا امرأة ،أود أن أقول ..
المرأة  : شمدينو..يجب أن ترضى عني كي ..
الرجل  : إذا مت لا تبكي كثيراً، البكاء سيؤثر على عينيك .
المرأة  : أين ذهبت يا رجل ؟ شمدينو .
الرجل  : إنها وصيتي .
            (تغيم الأشياء أمام أعينهما،وتشتد حلكة..صمت كموسيقى صاخبة يسود
              المكان،يتحدثان معاً دون أن يسمع أو يرى أحدهما الآخر )
المرأة  :لا تتركني وحدي يا رجل. إذا مت الآن فمن سيدفن جثتي ؟
الرجل  : أين ذهبت يا امرأة ؟
              ( يتحسسان ما حولهما بخوف وذهول )
المرأة  : لا تذهب، أنا أخاف الوحدة كثيراً .
الرجل  : ( لنفسه ) أين ذهبت في هذا الوقت المتأخر ؟!
المرأة  : غنِّ يا شمدينو ,غنِّ أرجوك،صوتك يؤنسني..يذهب عني الخوف..غنِّ.غنِّ
           ( تدندن مشجعة شمدينو )
الرجل  : فاتي .
المرأة  : (تدندن ) ..
الرجل  : إني أموت .
المرأة  : ( تدلك صدرها بألم ) آخ. أخشى أن يكون قد ذهب إلى ولده..عدْ. عدْ يا
            رجل. عيب .
الرجل  : (بألم ) آخ يا فاتي،لو تدرين أية أوجاع تستوطن جسدي ما اشتكيت من الألم
           الذي في قلبك .
المرأة  : شمدينو أين أنت يا رجل ؟!
            ( تحتضر ، تحاول فعل شيء ما ،يغني الرجل بصوت مشروخ )
المرأة  : شمدينو..اهتم بنفسك يا شمد .. ينو .  
           ( يسقط رأسها على ركبة الرجل.فيجفل )
الرجل  : (بفزع ) فاتي..ما بك يا فاتي ؟

             ( يتحسس بيديه المرتعشتين رأسها وجسدها .يناديه بخوف ،ينشج حين
              لا يسمع صوتها ويتأكد من موتها . يضع رأسه فوق رأسها وهو ينشج
              يصمت ويجمد على حاله، ينبعث بعد ذلك صوت غنائه من أعماق
              سحيقة. تدخل قطة سوداء . تقترب منهما ، تشممهما، تموء بصوت
              ممطوط ،صوت غناء شمدينو يخفت ويتلاشى مع مواء القطة واشتداد
               الظلام )


·        إشارات :
1-       كولي : قرية كبيرة من قرى جبال أومريان في كردستان تركيا .
2-      المحمودكية والعثمانكية  : نسبة إلى الآغا محمود والآغا عثمان،من منطقة جبال أومريان ؛وهما الشقيقان اللذان انقسم الأومريون على إثر خلافهما الشخصي إلى جماعتين متعاديتين عرا باسمهما .
3-      القلية،أو القلي :  لحم كان يطبخ ويحتفظ به للمؤونة .
    

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 2


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات