القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: محمد الماغوط قصيدة نثر ومعاناة شاعر (دراسة نقدية)

 
السبت 06 كانون الأول 2008


  بقلم: خالص مسور:

محمد الماغوط هذا الشاعر الريفي المعذب الذي ذاق مرارة الحياة وقسوة السجون، ولد في بلدة السلمية التابعة لحماة عام 1934م، وفي سن مبكرة بدت على محياه سيماءات القلق والتوتر، وكان التوتر جلياً حينما كان ينشد أشعاره وكأنه يعبر بمحياه قبل ألفاظه ماينتابه من معاناة وألم ومرارة، شاعرآلى على نفسه إلا أن يكون نصيرالحرية والعدل والمساواة بين البشر، جسد عذاباته وآلام المعذبين في قصائده النثرية، فكان لابد أن يلجأ الشاعرإلى إخراج ما في نفسه من عذابات وآلام بالكثير من السخرية والتهكم.


نعم تفنحت إبداعاته الشعرية مع قصيدة النثر حتى أصبح رائدها الأول في سورية، من حيث القدرة التعبيرية وعمق التجربة الشعرية، مركزاً على النواحي الفنية والجمالية للقصيدة وعلى إيحاءات سطوره الدلالية. إستطاع أن يضفي على المكان هيبة كبيرة في قصائده النثرية، وخلق حالة من التماهي بين ذاته والمتلقي فيحسسه مثله بالإغتراب والقلق – أنا رجل غريب لي نهدان من المطر- يقاسم قارءه همومه وآلامه. وهو بالإضافة إلى ذلك ورغم خوفه من الإعتقالات وظلام السجون وحذره من السياسة وتبعاتها، رغم هذا كله نراه متسلحاً بكثيرمن الجرأة والشجاعة في فضح المسكوت عنه واللامفكرفيه، مستخدماً أحيناً الكلمات الساخرة المثيرة أوحتى المشينة منها كما يقال، معبراً بها عن مشاعره الصادقة وحساسيته الجديدة المفرطة.
كان قلق الماغوط واغترابه ولحظات الإنكسار التي تنتابه ناشئة عن الحالات السياسية والقمع والجلد اللذين كانا سائدين في البلد، ثم الحالة النفسية المتمثلة بالإغتراب عن المدينة وأجوائها وهو الريفي السلموني البسيط حتى في مظهره وملبسه غير الأنيق، رغم أنه أفاض في مدح مدينة دمشق كعاصمة بلاده، إلا إنه تمرد على كل ماهو خارج الصواب والعقلانية، ويمكننا إستشفاف الكثير من لحظات الإنكسارالحزين، التغرب والتوتر في العديد من قصائده ومنها السطور التالية من قصيدته: (المسافر)
بلا أمل..
وبقلبي الذي يخفق كوردة حمراء صغيرة
سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما
بقع الحبر
وآثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج
وصمت الشهور الطويلة
والناموس الذي يمص دمي
هذه أشيائي الحزينة
سأرحل عنها بعيداً..بعيداً 
إن الإيقاع الشاعري اللهيف الموشى بطابع من الحزن الشفيف في عنوان قصيدة/المسافر/ هو مايعبر بحرارة وعمق لما يلمس في دواخل الذات الشاعرة وموقفها من الناس والحياة والسفروالوداع، نعم السفر ولحظات الوداع وهما دائماً من مستلزمات الحزن والإغتراب الروحي والمكاني، ولكن لماذا الواع والسفر والرحيل بلا أمل؟ ذاك هو الماغوط الحزين. ولكن لن يحزن الشاعرعلى نفسه، بل هو الحزن الإنساني النبيل الحزن على البشرية ومآسيها على يدي الفقر والجهل وطواغيت القمع والجلد في كل جزء يعاني العذاب في هذا العالم الموار بالشروالرذيلة، وبلا أمل سيترك وراءه أشياءه الحزينة التي رافقته في حياته وبيئته الريفية وسيرحل بعيداً..بعيداً..! عن هذا كله، ولكن ما هي هذه الأشياء البسيطة التي سيرحل عنها..؟ وهي الأشياء التي تفوح منها روائح بيئة الريفي البسيط وهي كل ما كان يملكه في عالمه الشعري الأثير إنها – بقع حبر- وصمت شهور- وآثار خمرة باردة- والناموس الذي يمص دمه- ولكني قد أتحسس هنا أنفاس البطل السلبي فهو سيرحل بلا أمل ومستقبل بدلاًمن التمرد على ما يشينه ولا يؤمن به. كما نرى أن في تكراركلمة /الحزين/ سباحة في فضاءات روح متوهجة وبوح وجد مثير وعاطفة شاعرية لاهبة، تخرج من دواخل شاعر إنسان مرهف الحساسية تجاه قضايا وطنه بل البشرية كلها معبراً عنها بكثير من الإدهاش والقلق والتوتر.
ولهذا يحس المتلقي وهو يقرأ السطورالماغوطية ذات الإيقاع الغنائي اللهيف، بتماهيه مع ذات شاعره الحزين وسطوره المتسربل بالآسى. ثم ابتداء القصيدة بعبارة/ بلا أمل/ توحي بكل المعاني والإيحاءات الدلالية للسطور الشعرية، ومع إضافة النقاط جاء لليدخل القاريء في دوامة من الحيرة والقلق والتوقع والإنتظار، فالرحيل يبعث على الحزن ويحرك العواطف، ولكنه الرحيل عن اصدقائه الأثيرين - الحبر- والصمت-  والناموس- الخمرة الباردة- سيرحل الشاعرفي ليلة ما، والرحيل في ليلة نكرة مع الفونيم/ما/ يثيران كوامن الشؤون والشجون، لأنه يترك القاريء في لحظات من الترقب والحذر، فمتى سيرحل شاعره الحزين وإلى أين سيرحل؟ لابد أنها في ليلة ما وبشكل مؤثر، وهو ما يؤكد الرحيل اوربما الموت الأبدي وكأن الماغوط كان يتنبا بموته المفاجيء. وعبارة- الناموس الذي يمص دمي – فيها الكثير من الغمز واللمز من قناة السلطة الشمولية وقد يكون هناك تمرد – بهجرانه الصمت الطويل- وصمت الشهور الطويلة- بهذه العبارات – الحزين – السفر – الوداع- الرحيل- .يكمل معاناة قلب شاعر يخفق كوردة حمراء صغيرة دلالة براءة وطهر وأغاني شاعرتسربل باالحزن ولأسى.
يلجأ الشاعر إلى قدراته اللغوية لتشكيل نصه الشعري واستخدام تقنية المط والتقصيرفي الأسطر الشعرية، حيث اقتصر السطرالشعري على كلمتين او عدة كلمات – بلا أمل - بل أحياناً كلمة واحدة – تانغو–  كما في قصيدته حوار الأمواج وإلى عبارة من عدة كلمات- سأرحل عنها بعيدا- بعيدا. بالإضفة إلى استخدام الصيغ الإسمية – أمل- وردة- ليلة- الحبر- المشمع – الشهور- الناموس- الحزينة- دم...... مقابل ورود أربعة افعال مضارعة هنا فقط وهي- يخفق- سأودع- يمص- سأرحل. وتغليب عدد الاسماء على الأفعال يدل على السكونية الحركية، ثم  شيوع الوصفية في قصائده كما في - كوردة حمراء- أشيائي الحزينة- الخمرة الباردة- الشمع اللزج- الشهور الطولة- والموصوف تساهم في شيوع نوع من الشفافية والتوضيح في الجمل....ولكن ورغم هذا ونظراً لمقدرة الماغوط الشعرية فقد استطاع توظيف الأسماء في شحن جو من الإنفعال والعواطف الجياشة من حيث علاقة النص بالزمن. كما أن كثرة الإضافات تؤدي إلى تماسك الجمل شكلا ومضمونا- الشهورالطويلة- أشيائي الحزينة.. بالإضافة إلى أداة العطف الواو هنا مثل- وبقلبي- وآثار الخمرة- وصمت الشهور- والناموس- يؤدي إلى اكتناه الدلالات الإيحائية للسطوروكشف المسكوت عنه.
وفي قصيدته شريعة الغاب يقول: لم يشرح
كما كانت الشعوب البدائية تقدم للنيل أجمل عذراء كل صباح
لتفادي غضبه على الصيادين والمزارعين
أريد كل صباح أجمل وطن لتفادي غضب ثورتي
ثم، الخمر المعتق، محارات الشواطيء، أسماك الجنس، عروق
المرجان، زبيب التسلية، النسيم العليل، نايات الرعاة،
أجراس القطعان، وتعب المساء، ونشاط الفجر، وصلوات المحن،
وأدعية المأزق، هي نفقاتي السرية، أبعثرها يميناً وشمالاً وعلى من أريد.
هنا رغم امتداد السطر الشعري امتداداً طويلاً وهو ما يؤدي إلى تباطؤ الحركة وإطالة النفس الشعري وإدخال القاريء في لحظة تأمل وتفكيروتماسك البنية النصية من جانب، بيما قد تحد من القدرة الايحائية للعبارات الطويلة من جانب آخر. ولكنها الحركة المتلاحقة التي تكبح الأنفاس وكأنك في مباراة للقفز على الحواجز من خلال العبارات القصيرة الأنفاس ضمن السطرالشعري الواحد. ولكن وكما هو معلوم فإن ديدن منظم قصيدة النثرهو اللجوء إلى الإثارة والإدهاش وصدم المتلقي والتمييز وإثارة التوتر والقلق لديه، ووضعه في واحة من التفكيريستكنه خلالها الإيحاءات الدلالية للسطورالشعرية بصيغها التعبيرية الموحية. وفي السطرالأول من القصيدة هناك تباطؤ في مسارها الحركي فيقول:- كما كانت الشعوب البدائية تقدم للنيل أجمل عذراء كل صباح- فهذا السطر الطويل تتصف بالنثرية والبعد عن الطابع الإيحائي، ويمنع المتلقي من العوم في فضاءات خياله الرحيب، ويبقيه أسيرالمعاني القاموسية وحدها للسطر الشعري. بعكس ما هومطلوب من قصيدة النثر وهونقل القاريء من وضعية السكون والثبات إلى الحركة والسباحة في عالم من اللاوعي والإنطلاق نحوفضاءات  الخيال المحلق والرؤيا الخاطفة. وهنا لايخفي الشاعر خلق حالة من التماهي بين الذات الشاعرة وغضب الطبيعة المتمثل في نهرالنيل الذي كان يثور ويغضب إذا لم تقدم له فتاة عذراء يسفح دمها البكر في كل عام.
فالشاعر مثله مثل نهرالنيل الغاضب لاتهدأ ثورته حتى يرى وطنه الأثيرجميلاً ينعم بالديموقراطية والتقدم والإزدهار، إذاّ هناك حالة من التناص مع التاريخ وميثولوجيا الشرق الأدنى، ومن ناحية أخرى فإنه هناك حالة من التضاد الدلالي بين حالته هو وحالة إله النيل السفاح، فهو ليس كإله هذا النهرالسفاح المبيريشرب الدماء حتى يعطي الخير، أما هوفيطلب كل ماهو جميل ومفيد للإنسان ليهب يميناً وشمالاً وبدون مقابل وعلى – من يريد- أي على من يراه الشاعر يستحق العطاء، وهنا يدخل الشاعر في المجال الرؤيوي والشخصانية في المعالجة والطرح الالتزامي والإيديولوجيزم، فالشاعر لايريد أن يأتيه مايريد توزيعه على طبق من ذهب، بل هو يتمنى له ولوطنه الخيرولكن بعد الكد والتعب وليوزع حسب ثمرة أتعابه وجهده مع - تعب المساء- وصلوات المحن- وأدعية المآزق- ومع عبارة نفقاته السرية يتناص مع التراث الديني والحديث الشريف(حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه).      
                       قصيدة (أطلال دارسة): لم يشرح
 وأنا طريح الفراش بين السيوف والرماح المتناثرة
فلسطين أريد شهدائي
إسرائيل أريد حطامي
أيتها الشواطيء أريد مرساتي
أيتها الصحراء أريد سرابي
أيتها الغابات أريد طيوري
ايها الصقيع أريد جدراني
ينتقل الشاعر هنا من الضمير المتكلم – أنا- إلى الضمير الغائب والتشخيص في مخاطباته كـ- فلسطين- الصحراء- الغابات – الصقيع- مما أعطى للمكان أهمية كبيرة وشخصية اعتبارية مثيرة للجدل، وكنقطة انطلاق للدعوة منها إلى الحرية والنضال، هذا هو المكان المدجج بالسلاح والمستعد دوماً للإنطلاق منه للحرب واستعادة الحقوق، وقد ترافق مع كل مكان مستلزماته الواقعية أي استطاع الشاعر أن يمزج بين ذاته والطبيعة في حركة تمثيلية مستخدماً ياء المتكلم لينسب لذاته الشهداء – والحطام- والمراساة والسراب والطيور. حيث التركيزهنا على فكرة السطرين الأولين وخاصة السطر الثاني ليوحي بأن إسرائيل دولة معتدية لا هم لها لها سوى الضرب والتحطيم، وقتل الشهداء الفلسطينيين، وقد عبرالشاعرعن ذلك بالطريقة الإيحائية لسطوره الشعرية، وبطريقة ضرب المثل السائر للمساواة بين الأفعال كالمثل القائل(المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي) حيث التركيز هنا على الخل الوفي الذي يريد المثل أن لاوجود له. بينما يعبر هنا عن القتلى والشهداء والحطام والتدمير على أيدي إسرائيل وصلفها وغرورها اللذين لامثيل لهما في التاريخ. وتكرارعبارة النداء- أيتها- وبعدها إسم يدل على الجهروالصراخ ليتسنى له إسماع صوته للعالم كله، ومع تكرار كلمة- أريد- يثبت بأنه صاحب حق يريد استرجاعه. وبذا فقد تمكن الشاعر من خلق حالة من التواصل التاريخي بين الماضي المتمثل في السطر الأول- وأنا طريح الفراش بين السيوف والرماح المتناثرة- وكأنه عائد لتوه من معررك مدوية وقد تناثرت إلى جانبه أدوات الحرب القديمة مستعيداً الماضي العربي التليد بتقنية الفلاش باك، ثم الحاضرالدامي في معارك الشعب الفلسطيني مع إسرائيل، فالشاعريتأسف لأن فلسطين لم تتحرررغم الضحايا والشهداء ولازالت إسرائيل تعربد وتحطم ماتريد تحطيمه من العرب. والآن فقت ضاعت فلسطين وكثرت شهداءها ولهذا هجرت الطيورغابات الشاعرالجميلة، وفقدت المراسي شواطئه، وبدأ الزمهريرينهش جسده المنهك. ويبدو هنا الشاعرإيجابي الطرح والمبتغى، فهو يدعو إلى العودة إلى التوازن والإزدهاروالتقدم والسلم وإحقاق الحق واسترجاع كرامة الإنسان وإعادة التوازن إلى الحياة بعدما عبثت بها يد الإنسان وشوهت معالمها وآفاقها الجميلة.          
                            حوار الأمواج
لا أريد أن أكون قذراً ولا معقماً
فلكل من الحالتين تبعاتها
في القرى يدعو الأهل على الولد المشاكس أو قليل الهمة:
لتركض ورغيفك يركض
ولم أكن أعرف أن رغيفي
قد يدخل في سباق "دربي" الشهير
                      *
إنه التعبيرالمثير وبطريقته الشاعرية الإيحائية المعتادة عن سوء طالعه وضنك معيشة الشاعر، فبدأ صوته الإحتجاجي يرتفع مع عبارة/لا أريد/ ليعبرعن التمرد والرفض لشيء لايؤمن به، مع عبارات تلفها الكثير من الحيرة والقلق-
وتشي السطور بحالة من القلق والتوتر تنتاب الذات الشاعرة – الأمواج- القذارة- التعقيم- والركض السباقي وراء الرغيف- ثم الدهشة والإستغراب:
ولم أكن أعرف أن رغيفي
قد يدخل سباق دربي الشهير
وعبارة /الشهير/ تؤكد حالة من القلق والإضطراب، وتكشف عن خلجات قلب شاعرمعذب تتراقص أمواهه في بحرمتلاطم الموج بألفاظ ذات إيقاعية سلسة عذبة ومنتقاة بعناية فائقة. وقد عمد الشاعرإلى تقسيم سطوره الشعرية حسب الجانب الحياتي فيها عن طريق النجوم والفواصل، ليسهل على القاريء الخوض في حفريات النص الشعري واستنباط كنهه ومغزاه دون أن يلتبس عليه الأمر وهو يندمج مع قراءة السطور. وكان العنوان الصاخب/حوار الأمواج/ معبراً عن مضمون السطور وبتركيبية تعبرعن التضاد الدلالي والإيحائية المعبرة حيث الكلمة الأولى منها /الحوار/ يعبرعن طرفين يجري بينهما نقاش هاديء، ولكن إضافة العبارة إلى /الأمواج/ أوحت بالهديروالصخب، ثم البدء بالثنائية الضدية/ القذر- المعقم/ التي تشيرإلى حالة التوازن والاستقرار الذي ينشده الذات الشاعرة التي أفلحت في الإشارة إلى سخونة الحوارالتي تجري بين السارد والذي هو الشاعر وبين الطرف الضد له.
ولكن كلمة الحوار بهدوئها أعادت شيئاً من الإتزان إلى صخب الموج ودفع به نحو الإعتدال نوعاً ما. ثم يتابع الشاعر سطوره بضمير المتكلم الغاضب أو المنولوج الداخلي، ونرى هنا التعالقات النصية للسطورالشعرية مع المقولة الإسلامية /لاضرر ولاضرار/ أو خير الأمور أوسطها، فالشاعر يريد الإتزان في كل شيء فهو مواطن متزن في كل أموره وتصرفاته، ويستعين بالمثل الشعبي فهو يركض ورغيفه يركض مبتعداً عنه، أي أنه أجاد في استخدام رمزية التراث في سطوره الشعرية. وبكلمة الشهير أيضاً أعطى صورة إبداعية جميلة للتماهي بين الذات والموضوع وخلق لوحة تراجيوكوميدية ساحرة معبرة.  
وفي المقطع الثاني ينتقل الشاعر إلى ضمير المؤنث المخاطب، ويبدأ بالإستفهام الإستنكاري وهو ما يدل على الهدوء والمداعبة وأجواء من الفرح والصفاء:
*              
أية أغنية تريدين ؟
وعلى أي إيقاع ؟
وليس عندي سوى نقرات أصابعي
على قفا الصحون الفارغة
وخوذ الشهداء المجهولين
هنا تحفل السطورالشعرية بالرنين الإيقاعي الجميل والثري مع كثيرمن السلاسة والعذوبة، بالإضافة إلى استخدام تقنية التدويرالذي يشير إلى ترابط ووحدة السطور الشعرية، وخاصة في السطورالثلاث الأخيرة منها، وفيها نقرأ الكثير من الحيرة والقلق على سيماءات الشاعرالحزين، فيبدو محتاراً فيما يقدمه لحبيبته ووطنه ولنفسه. وهنا نصادف حالة من الربط والتماهي بين الذات الشاعرة ومحبوبته الأثيرة والتي لاشك أنها وطنه المغروزة في ثراه خوذ الشهداء المجهولين وأنها الفقرالمعبر به بالصحون الفارغة، وبسياحة بهلوانية مع صيغة الإستفهام الإستنكاري في عبارتي– أية أغنية تريدين- وعلى أي إيقاع- فالشاعرلايستطيع أن يلبي طلبات حبيبته والنقروالغناء ولايمتلك أدواته الموسيقية سوى أصابعه وصحوناً فارغة وخوذة شهداء مجهولين، وهو مايدل على معاناة شاعرمعذب وعشعشة البدائية والتخلف وفقدان مستلزمات الحياة في بلده، وأن الشاعر محروم من طموحاته والعيش بكرامة في هذا الوطن العزيز وهذا الشعب المضحي والأبي ولكنه الجائع الذي ينقرعلى قفا الصحون الفارغةً، إنها صورة محزنة وقاتمة يرسمها الماغوط لسيمائات محبوته الأثيرة وهوطنه وشعبه الذي بدا ينهشهما النخر والجهل والتخلف وانعدام قيمة هذا الشعب في هذا الوطن.   
ويستمر الشاعر في قصيدته المعذبة فيقول:                
                                    *
أية رقصة تريدين ؟
تانغو ؟
قد أعديك بسعالي وزكامي
فأنا مدخن عتيق
وفمي فوهة بركان
يظهرالشاعر هنا فحولته وبهلوانيته في الرقص كتعبيرعن تلائمه مع الحدث وأنه صاحب حضارة تليدة ومجد عريق، قادر على التأثير في الآخرين بسعاله وزكامه كناية عن الصعاب التي تواجهه في هذه الحياة القاسية والشاعريقصد بالرقص رقصة الحياة فهو يجيد رقصة التانغو والبحر والغجر وتقلبات الأحوال. ومباشرة الشاعر بداية المقطع الشعري بالإستفهام الإنكاري – أية رقصة تريدين- ثم تقنية الحذف في السطر الثاني- تانغو- أي تريدين تانغو فحذف كلمة / تريدين/ مما اعى ذلك إيقاعاً جميلاً وسيمفونية ترن في فضاءات سطوره الشعرية بكثير من الرقة والعذوبة. فالشاعر يتماسك أمام إغراءات الحداثة ويأبى ان تقتلعه رياح الحداثة من جذوره، وهو ينبذ الصرعات التانغوية الحداثية التي لامعنى لها أمام عراقة الحضارة العربية، فهو يتغنى بأمجاد الأمة العربية، وأنه ليس كما يتصوره الآخرون من أمة ضعيفة خائرالقوى، بل إذا ما استفزالشاعرتحول إلى بركان ينفث دخاناً، وقد ترافق ذلك بالعاطفة الجياشة والتدفق الشعري ووهج العبارة الموحية وهدير إيقاع حرف /الألف/في كلمة البركان الذي يفغرالفم ويعطي مساحة للنفس الطويل، وكأن جسد الشاعرقد تحول بالفغل إلى بركان والفم فوهته.
وفي قصيدة رقصة الغجر يقول:
*
رقصة الغجر ؟
قد أكتشف سوء طالعك
بقذف الودع بين الأفاعي والعقارب
ومسروقات العائلة اليومية
عبارة رقصة الغجرهنا تدل على تصرفات غيرحكيمة، فرقصة الغجرتتصف بالعشوائية واللاحضارية وعنف الإيقاع والإيحاء بالتحدي بلهجة مثيرة واضحة، فمن يتحداه بالعنف والصخب وقرع طبول الحرب فإنه سيء الطالع وسيكون مصيره العيش مع الأقارب والأفاعي واللصوص والحرامية. تمكن الشاعرمن الحفاظ على وحدة قصيدته وهويبوح بمستلزمات التراث الغجري مثل ضرب الفأل بالودع والسرقة...الخ. وهو ما مكنه من أن يرسم بالكلمات لوحة غجرية فائقة الحسن والجمال، أشبه بالجمال الغجري وهذا ماتبدى في الإيحاءات الدلالية لسطوره الشعرية النثرية. 
ومع رقصة الطاووس يدخل الماغوط في فضاءات الكوسموبيليتية، وخلق حالة من الغرائبية والإدهاش مستخدماً الومضة الشعرية في لوحته المعبرة المرسومة بالكلمات، ودوماً بإيحاءاتها ودلالاتها الإنزياحية. يدين العنجهية والتصرفات الشاذة والتبذير والخيلاء لمن هم في مراكز المسؤولية دون أن يحسوا بمسؤولياتهم تجاه شعوبهم. والمعنى الظاهري للسطور يتمثل في خيلاء الطاووس وجماله الخلاب، وحيث أكل الشاه وضيوفه في حفلة إمبراطورية ألف قلب طاووس، وهو ما يشير في الظاهر إلى مجزرة جماعية للطواوويس الجميلة، بينما المعنى الباطن هو في الإشارة إلى قضاء الشاه على كل ماهو حلو وجميل في مملكته، فيلتهم الجميل وترتسم مع خطاه معالم تصحر وتبشيربأيام عجاف وسبع شداد.
ويعني ذكره لشاه إيران النمطية والشفافية والوضوح في الطرح وممارسة في النقد الثقافي التي يجب ألا يغيب في المنطقة الشرق أوسطية عموماً، وهنا يتصف الماغوط بكثيرمن الجرأة والإعتداد بالنفس، ولكن رغم إيقاعات السطرين الأولين في رقصة الطاووس إلا إن السطران الأخيرين جاءا خاليين من الإيقاع وبنثرية عادية خاصة مع حركة التدويرالبارزة، لأمر الذي أثر على النمط الإيقاعي للسطرين الأخيرن وحولهما إلى كلام عادي مبتذل. رغم أن التدويرأعطى من جانب آخرالكثيرمن الشفافية وجمالية الدلالة المعجمية للسطور الشعرية كما في قوله: 
  رقصة الطاووس ؟
وهل أبقى شاه إيران أثراً لها ؟
بعد أن قدم لضيوفه في إحدى حفلاته الإمبراطورية
ألف قلب طاووس كمقبلات
وفي مقطعه الموسوم يـ سامبا.. رامبا، هاتان الكلمتان ذواتا الرنين الإيقاعي الجميل يدل على أن الشاعر يجيد التجاوب مع ما هو الأجمل والأفضل وحب الحياة، باعتماده على إحساسه الرهيف وإمداءات مداركه الواسعة ومرونة ذهنيته وسيلان أفكاره المنفتحة، ولكن هناك مآسي تمنعه من متابعة المسير وتكملة المشوارتدل عليها كلمات مثل- الجرح المفاجيء – الحرب الأهلية كما في:                           
سامبا.. رامبا ؟
إن جسدي لين ومطواع كجسد جين كيلي
في رقصته الشهيرة تحت المطر
ولكن ماذا أفعل بهذا الجرح المفاجيء ؟
ولست بايرون لأخوض حرباً أهلية لإخفائه.
ورغم هذا المشهد الفجائعي ولكن بكثيرمن الإستيطيقا الشاعرية التعبيرية، ينفرالشاعرمن رقصة الحرب في عبارة- كل شيء إلا هذا- وشبهها بمشهد تمثيلي خطريتطلب الأجهزة والإكسسوارات وإكسسواراتها هي عدة الحرب والنزال، ولكن لاتستطيع الأمة العربية في حاضرها خوض أية حرب مباشرة، لأنها مثقلة بجراحات سبعة هزائم متتالية وقد تسببت بالكثيرمن المآسي والشهداء والأيتام والأرامل دون أن تنجز شياً سوى الفجيعة والخيبة والخسران.
                           *
رقصة الحرب ؟
كل شيء إلا هذا...
فاكسسواراتها ولوازمها مكلفة
سيوف، تروس، اوسمة، شعراء، مطربون
كيف أتحمل إعباءها ؟
وأنا أحمل سبع هزائم متوالية على ظهري
ونفقات أيتامها وأراماهل ؟
تكفيني إجرة المقرئين !
وطالما أن الشاعرغير قادرعلى استرداد أرضه وكرامته السليبة، لذا فهو يدعو إلى الرقص واللامبالاة والجنون بل الإنتحاروعمل أي شيء غير مقبول-  لنرقص – لنجن- لنعمل أي شيء غير مقبول- ولننتحر- ولكنه يفضل الإنتحارفي النهاية، وهنا يوظف الشاعرالتضاد الدلالي مع التراث الديني وبمقدرة كبيرة فهويعلم أن - الإنتحار حرام- ولكنه يرى الموت أفضل من الشقاء والذل. وهو هنا يتمثل بشكل ضمني مقولة هانيء بن مسعود الشيباني الشهيرة في معركة ذي قار ضد الفرس – المنية ولا الدنية- أو قول عنترة العبسي وجهنم بالعزأفخر منزل - ويتساءل باستفهام استنكاري مثير يتهاوى كالصاعقة على رؤوس الذين يفرضون المذلة والشقاء على الناس- وهل الشقاء حلالاً..؟.   
                               *
إذاً لنرقص !
لنجن !
لنقم بأي شيء غير مفبول.
-: حتى بيكيت صار متخلفاً وكلاسيكياً في هذه الأيام ؟
-: إذاً لننتحر !
-: الإنتحار حرام !
-: وهل الشقاء حلالاً ؟

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3
تصويتات: 4


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات