القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: على طريقة الحكواتي .. (حكاية من العنترية)

 
الأحد 20 تموز 2008


  فرمان صالح بونجق

للعنتريةِ طقوسُها الخاصة ، وللعنتريةِ نكهتُها المميزة ، وللعنتريةِ مزاجٌ اجتماعي شفّافٌ قلَّما تجده في مكانٍ آخر، ولا يدركُ هذه المزايا إلاّ من عاشَ فيها وأحبَّها وتحسَّس تفاصيلَ حياة سكانها ، والعنترية حيّ من أحياءِ مدينةِ القامشلي ، ولم تكنْ كذلك فيما مضى ، لأنها كانت واحدةً من القرى القريبة من القامشلي ، ولكنها اليومَ ومع التوسع والتمدد العمراني ، أصبحتْ من أهمِّ المناطق ذاتِ النشاطِ الاقتصادي على مستوى المدينةِ ، ولم تستطعْ تعقيداتُ العلاقات الاقتصادية الجديدة أن تمسَّ العلاقات الاجتماعية في جوهرها ، ومن أبرزِ ملامح أهلها أنهم يتميزونَ بروحِ الفكاهةِ والتسامح والتكاتف والتعاضد


وربما كان لطبيعةِ عملهم دورٌ في ترسيخِ هذه الملامح ، فقد كان القسمُ الأعظمُ منهم يعملونَ كمجموعاتٍ في مكتبِ الحبوب صيفاً يحملونَ أكياس القمح والشعير والعدس (عتالين) ، ومن أولى سمات هذه المهنةِ أن يساعد قويُّ البنية ضعيفهم ، وأن يعطف كبير السنِّ على صغيرهم ، وبالتعبير الشعبي فإنهم يحملون بعضهم، أو يرفعونَ بعضهم بعضا ، ولكنهم أي أهلُ العنتريةِ يمضون جلَّ أوقاتهم بتبادل الشتائم البريئةِ ، فهم قومٌ شاتمونَ لا يعلو عليهم عالٍ ، وقاموسُ العنتريةِ الثقافي غني جداً بالشتائم المستنبطة والمبتكرة ، ومع أنَّ جلّ شباب العنترية وبناتها توجهوا صوب التعليم ، وقد تخرجوا ، فمنه المحامي ومنهم المهندس ومنهم المدرس ، وهكذا .. ولكنهم لم يتنازلوا عن عنتريتهم قط !.
وقد يمرُّ أحد المتعلمين (المثقفين) بلباسهِ الأنيقِ وربطةِ عنقهِ المشرقةِ وعطره الفواح على رهطٍ من كبار السنِّ وهم يتسلون ، فيرمي عليهم التحيةَ ، فيردون تحيته بأحسنِ منها : أهلاً..أهلاً أستاذ ، ويتبعونها بشتيمةٍ ، فيسمعها المتأنقُ ويسعدُ بها ويبتسمُ ثم يمضي في طريقهِ. ومِنَ العائلاتِ التي تسكنُ حيَّ العنتريةِ أو قريةَ العنترية : عائلة حاج حميد وعائلة داوود وعائلة هيبت وفرحان و رِهْ زَرْ وهَسَام وصباغ وجتو وكورو وعرفو وتناتي وسليمو وأمينو وحسينو بالإضافة إلى بعضِ العائلاتِ العاموديةِ التي استوطنتْ أطرافَ العنتريةِ ، كعائلة إبراهيم وأولاده مهيد وصلاح وفهد وغيرهم ، وهناك العديد من العائلات التي قَدِمت من منطقة آشيتا كعائلة رشيد وعرنو وغيرهم ولكنهم سرعان ما اندمجوا مع سكان الحيّ .
ومن الشخصيات المميزة في العنترية ، أو على الأقل مَنْ لفتَ انتباهي منهم المرحوم حسين هيبت ، وكان سبعينياً عندما تعرفتُ إليه ولم يكنْ الرجلُ يشتمُ كثيراً ، ولكنه عندما كان يشتم كانت أبدانُ أهلِ العنتريةِ تهتزُّ طرباً ، وكان الرجل يكنُّ لي معزّةً خاصةً ربما لتطابقِ الأسماءِ بيني وبينَ أكبرِ أبنائهِ ، وبطلُ العنترية في كمال الأجسام أمينو والذي لم يكن يشتمه أهل العنترية إلاّ نادراً وفي غيابهِ فقط  وهذه الحالة غريبة نوعاً ما وقد حاولت أنْ أفهمَ أسبابها ولكنني فشلتُ ، ومن أبرزِ وجوه العنتريةِ قاطبةً (جلّي) ، وتعني بالعربية الخفاش ، وجلّي هذا وفي صِغَرهِ كانَ يبحث عَّمنْ يشاتِمُه ُفي الليل أكثر مما هو في النهار، وكانَ سيّدُ الشاتمينَ في العنتريةِ ، ولم يكن يوَّفرُ أحداً ، وعلى الغالب كان يرغبُ في مشاتمةِ أهل العنتريةِ في زوجاتِهم ، ولم يكن يشتمُ أمهاتهم قط . وعندما تعرفتُ عليه كان قد بلغ الثلاثين من عمره ، وكان قد امتنعَ عن الشتائم وكَيْلِ السِبابِ ، ولمّا كانَتْ مجموعةٌ من أهل العنتريةِ يعملون في مركز الحبوب في (تل كوجر) ، فقد كان جلّي ـ وهو أعرجٌ آنذاك ـ قد نَصَبَ شبهَ خيمةٍ يبيعُ فيها أكواب الشاي وزجاجات المياه الغازية (الكازوزة) لأبناء حيِّهِ ويعتاشُ منهم ، ولم يكن أحدٌ منهم ليرمي عليهِ السلامَ أبداً ، كصباح الخير مثلاً ، ولكنهم كانوا يرمون عليه الشتيمةَ بدلاً منها ، ولم يكن الرجلُ ليرُدَ على أحدٍ ، ومنذ الساعاتِ الأولى والشتائمُ تنهالُ عليه وحتى الساعاتِ الأخيرةِ من النهارِ ، فأدهشني حالُ الرجل ، وسألتهم : لِمَ تشتمونَ الرجلَ وهو لا يردُّ عليكم ؟. وكان سؤالي من بابِ الشفقةِ على حالهِ ، ولكنهم أجابوني دفعةً واحدةً وكانوا أكثر من عشرين رجلاً : لقد أدّبناهُ .. أليس كذلك ياجلي ؟. فتساءلتُ وسألتُ كيفَ أدبتموهُ ؟.
وبعد جدلٍ فقد فوَّضوا أفصحهم لساناً وأخفهم ظِلاًّ وأكثرهم حفظاً ليخبرني عن الواقعةِ :
وبعد أن كانَ جلّي قد تمرّسَ في شتم زوجاتِ آبائنا وزوجاتِنا وزوجاتِ أهلينا وأقربائنا ، فقد احترنا كيف نردُّ عليهِ ، إلى أن جاءَ اليوم الذي أراد جلّي أن يتزوجَ ، وبطبيعةِ الحال كانَ قد دعا أهلُ القريةِ جميعاً لحضور حفلِ الزفاف ، ولما كان يومُ الخميس أي ليلة الجمعة وهي ليلة الدخلةِ ، فاجتمعنا زهاءَ سبعينَ رجلاً وقررنا الانتقامَ من هذا الـ جلّي مشيراً بأصبعه إلى الرجل ، ولمّا بلغنا مكان الفرحِ ، استقبَلَنا والده ورحبَّ بنا ترحيباَ حارّاً وقدْ بَدَتْ على محياه علاماتُ السرورِ والسعادةِ والفرحِ ، وأشارَ إلينا أن نتفضَّل بالجلوسِ في المكان المخصصِ للرجال ، ولكننا قاطعناهُ قائلين : أين العروس ؟. فاستغربَ الرجلُ مما أبديناهُ ، ولكننا صمَّمْنا على أنْ يدلّنا أحدٌ على مكانِ العروسِ ، ولمّا رأى الرجلُ ما رآه منّـا ، فقد سألنا : وما الذي تريدونه من العروس وأنتم زهاء سبعينَ رجلٍ ؟؟. فأجبناهُ دفعةً واحدةً : لقد جئنا لنأخذَ بثأرنا من ابنك جلّي ، فهو لم يترك لنا زوجةً إلاّ وشتمها ، واليوم جاء دورنا ، ولكن أين هي العروس ؟. سنثارُ لأنفسنا ولزوجاتنا دفعةً واحدةً . فما كان من الرجلِ إلاّ أن طأطأ رأسه وأدارَ ظهره ومضى مكسورَ الخواطرِ، لكنه أشارَ إلى جلّي أن يأتي ليعرفَ ما نريد ، ولما أدركَ لِما نحنُ قادمونَ ، تغيَّرتْ حاله من حالٍ إلى حالٍ ، لأنه أدرك حجمَ الورطةِ التي وجدَ نفسه فيها ، فانهال يُقبِّلُ الأياديَّ والأرجلَ ، وحصلنا منه على وعدٍ قاطعٍ بألاّ يشتمَ أحداً من أهلِ العنتريةِ بعد الآن ، ووعدنا وهو لا يزالُ متمسكاً بوعدهِ خوفاً من نعيدَ الكرَّةَ ، وهذه المرة قد نفعلها . أليسَ كذلكَ يا جلّي ؟. وبينما كان جلّي يُشْغِلُ نفسه بتحضيرِ أكوابِ الشاي ، كانتْ الشتائمُ تنهالُ عليهِ من الحاضرين ، والمحيّرُ في الأمر أنه كان يبتسم ...
وفي الأحاديثِ الجانبيةِ بيني وبينَ البعضِ من أصدقائي من أهلِ العنتريةِ ، أسرّوا لي بأنهم مغتاظون من هذا الرجلِ الذي لا تحرِّك له الشتائم ساكناً ، فلابدَّ من سِرٍٍ يخبئه ، وهذا دفعني إلى مناورةٍ ومحاورةٍ ومداورةٍ مع جلّي لأستبينَ منه ذلكَ السرَّ الدفينَ ، وبعدَ شهرين ونيِّف ، انفجرَ جلّي قائلاً : بحسبِ خبرتي الطويلة في الشتيمةِ والمشاتمةِ أدركتُ أنَّ الشتيمةّ تلفُّ وتدووورُ وتعود على صاحبها. (يا خبيث يا جلّي).


 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 0
تصويتات: 0

الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات