القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: رياح العولمة، وتأثيرها على الأكراد عامة، والأكراد السوريين خاصة

 
الأربعاء 02 نيسان 2008


  خالص مسور

العولمة يقابلها بالإنكليزية (Globalisation ) وفي الفرنسية (Mondalisation  ) وهما تقابلان الكلمات العربية، كالكونية، العالمية، الكوكبية، الشمولية...الخ.
هذا المصطلح الجديد لظاهرة جديدة، يفيد - على مانعلمه اليوم- محاولة لفرض ظاهرة أو نمط ثقافي، اجتماعي، سياسي، اقتصادي شامل، وفق مفاهيم ومنطلقات الدول والمجتمعات الغربية، وبالأخص مفهوم الولايات المتحدة الأمريكية عن الظاهرة بغية تغيير بنية وركائز المجتمعات التاريخية لدى شعوب العالم قاطبة وبدون استثناء، أو هو فرض لنمط حياة المركزعلى الاطراف، حسب تعبير المفكر الدكتور(سمير أمين).


رغم أن تعبيره قد يفتقر إلى الدقة لأنه يغفل تأثيراتها على شعوب المركزذاتها. فحقيقة الأمر أنها لظاهرة ترقى إلى مستوى فرض نوع من الرأسمالية اللاأخلاقية المتوحشة، وأقصد باللاأخلاقية من ناحية مؤثراتها الطاغية على معيشة الإنسان والقوة العاملة بالدرجة الأولى، وتحول الإنسان العامل إلى مجرد آلة جامدة من آلات الإنتاج الرأسمالي، فالعولمة – والحال هذه- وما يرافقها من نمطية ذات عمومية وشمول، قد بدأت بالشعوب والأقليات في المركز قبل الأطراف، وظهرت بوادر رفضها من قبل الشعوب المستضعفة ومن تضامنوا معهم من الشعوب الأخرى، في مظاهرات، سياتل، وكوبنهاغن، وكوريا الجنوبية...الخ.
ويعتقد أن العولمة كانت النموذج السائد في علاقات الشعوب مع بعضها، منذ العهود السحيقة، ولكن اختلفت التسمية ووسائل نشرها وامتداداتها عبر البلدان والأوطان، ولكن العولمة الحديثة أخذت صداها من طريقة انتشارها عبروسائل الإتصالات المختلفة، كشبكات الإنترنيت، والأقمار الصناعية، والفضائيات والهاتف والصحف والمجلات والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما قد يؤدي – بل من المحتم أنه سوف يؤدي- إلى قطع روابط الإنسان مع ثقافة مجتمعاته وتراثه الذي هو حصيلة جهد بشري متواصل، حافظت فيها الشعوب على خصوصيتها وهويتها المتفردة.  فقد تعرض الكرد في كل مكان من بلادهم، لرياح العولمة والتغيير في فترات عديدة ومتباعدة متواصلة، تمثلت أولاً في الفترة التي سادت فيها الإمبراطورية الآشورية، عندما كان الكرد لايزال متحصنين في مواطنهم الأصلية، كردستان، تلاها الفترة الهيلينستية بثقافتها اليونانية الوافدة مع جيوش الأسكندر المكدوني خلال النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد، ثم فترة الغزو الروماني العسكري في حوالي العام 64 قبل الميلاد، ومارافقه من انتشار مفاهيم الحياة الرومانية التي أثرت ولو جزئيا على الأنسان الشرقي عموماً.
إلا إن أهم فترتين تعرض خلالهما الأكراد لتأثيرات العولمة الوافدة، هما فترتا الفتوحات الإسلامية قديماً، ثم العولمة الوافدة من الغرب حديثاً. بينما كانت الفترة العثمانية ضعيفة التأثير على التراث الكردي وعلى قيمه وعاداته بشكل عام. أما العولمة الإسلامية، فقد بدأت في القرن السابع الميلادي بأجتياحها بطائح كردستان، سهولها وجبالها مع قدوم جيش الفاتح الإسلامي (عياض بن غنم) مبشراً باللإسلام في عهد الخليفة الراشدي الثاني (عمر بن الخطاب) عام 640 ميلادي تنفيذا للمقولة الإسلامية والآية التي بشرت بعالمية الإسلام:(قل أيها يا الناس إنى رسول الله إليكم جميعا) الأعراف 158.
تبعه بعد ذلك بسنتين القائد الإسلامي (سراقة بن عمر)، ثم (سلمان ين ربيعة الباهلي) في عهد الخليفة الراشدي الثالث (عثمان بن عفان). وفي النتيجة فإن هذا الفتح الجديد أدى إلى تفعيل مفاهيم دينية واجتماعية وافدة إلى كردستان، في الوقت الذي لا نرى فيه الإسلام إلا عولمة وعالمية في آن، عولمة ذات مفاهيم ونمط ثقافي خاص أدى ـ بشكل سريع ـ إلى القضاء على مأثورات الشعوب وتراثها وحقها في الحرية والإستقلال كما هو عليه اليوم، وعالمية في جوانب أخرى وهي الجوانب التي أدت إلى شيوع روح المساواة بين الغني والفير، والعربي والعجمي، متمثلة في أقوال عديدة وردت عن الرسول (ص) (لافرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) (الناس سواسية كأسنان المشط) (وأن الله لاينظر إلى صوركم وأجسادكم، وإنما ينظر إلى أعمالكم)...الخ.
وبتأثير هذا الجانب العولمي للأسلام، تخلى الكرد قسرا، ثم طواعية ـفيما بعدـ عن دينهم الزرادشتي القديم، واعتنقوا الإسلام دينا جديدا، انحصر تأثيره الكبير في الجانب العولمي ـ نوعاما ـ بينما ظل الجانب العالمي منه قليل التأثير أولم تدم سوى فترة قصيرة جدا وكانت الطبقات العليا الأرستقراطية من المجتمع الكردي، هي الأسرع في الدخول إلى الإسلام، بعد صدامات ووقعات عديدة مع جيوش الفتح، وبعد أن رأت فيه مصالحها الخاصة لتتحول إلى طبقة اقطاعية، متنفذة، ثم اتبعتها رعيتها بعكس ماحدث في موطن النبوة الذي شهد اعتناقا للدين من الفقر أي استجابت له الغالبية العظمى من الطبقات المسحوقة ومن العبيد والفقراء، رغم أن السباقين إلى الإسلام كانوا نفرا من سراة قريش، كخديجة زوج الرسمول (ص) وابن عمه علي بن أبي طالب وصديقه الوفي أبو بكر الصديق ...الخ
ومع اعتناق الكرد للدين الإسلامي الجديد ـما عدا طائفة قليلة العدد ـ بقيت على ولاءها لدينها القديم، سميت باليزيدية، بدأت معه الكثير من العادات والتقاليد الكردية بالزوال، وكذلك زالت طقوس الديانة الكردية العريقة، وأصيب التراث الكردي في الصميم، وكيلت الضربة الأولى للأعياد الدينية التي لايزال اليزيديون الكرد يتمسكون بها حتى اليوم، كعيد الجماعية، وسرصالي، وبيلندة وغيرها.
وأضحوا يحتفلون بدلاً منها بعيدين اسلاميين رئيسيين، هما عيد الأضحى المبارك (عيد القربان) وعيد الفطر السعيد(عيد الصيام )، ويزورون قبور أولياء المسلمين وصالحيهم، وتغيرت نوعية رجال الدين من حيث المبادئ أو الإعتقاد واللباس، فبدأوا يرتدون، مع سائر اتباعهم من المسلمين الكرد اللباس ذو اللون الأبيض الناصع، وهو نفس اللون للزي التقليدي اليزيدي، وهو ما يرمز إلى الطهارة وصفاء النية والقلب، ولهذا فاليزيديون دائبوا الإشادة بلون لباسهم فيقولون ( çek sipîne, cennetîne,(Êzîdîne أي يزيديون بيضاء ثيابهم طاهرون، وفي الجنة هم خالدون. ولكن يرتدي المسلمون هذا اللباس بشكل يختلف عما يرتديه اليزيدية من حيث التفصيل والملحقات، ويبدو - وبشكل مؤكد- أن المسلمين الأوائل أنفسهم قد أقتبسوا هذا اللباس من اليزيدية عن طريق التأثيرات المتبادلة بين الديانتين، عن طرثق الإحتكاك الذي جرى بين اتباعهما في بطائح شبه الجزيرة العربية وسهولها، حيث كان الفرس والكرد من اتباع الديانة (المجوسية ـ اليزيدية) قد أوجدوا مواطئ أقدام لهم في جنوبي شبه الجزيرة العربية آنذاك، وذلك في وقت مبكر من ظهور الديانة الإسلامية، ولكن ورغم قوة العولمة الإسلامية الإقتصادية منها والإجتماعية في نفس الوقت، فقد بقيت الغالبية العظمى من الكرد في بيئاتهم الجبلية ـ ما عدا الملالي وشيوخ الدين ـ محافظين على زيهم التقليدي العريق (Kom û koloz) كغطاء للرأس، وعلى الجسم (Şal û şapik) وزنار سميك يلف حول الخصر عدة مرات، بينما بقيت النساء الكرديات، ومعظمهن ريفيات يحافظن على لباسهن التقليدي المعقد نوعا ما، والذي يتكون من فستان(Kiras) وتحته سروال فضفاض يضيق عند الكاحل، وفوق الكراس يأتي القفطان ذو الأكمام الواسعة المتصلة بأردان (Hûçik ) طويلة وحيث يعقد الردنان معا ثم يقذفان معقودتين على الكتفين خلف الرأس وهناك (Pêşmalk) وهو عبارة عن قطعة قماش مستطيلة الشكل تغطي الجزء الأمامي من جسم المرأة فوق الثياب بدءا مما فوق السرة وحتى اخمص القدمين، ويؤدي البيشمالك وظيفة مزدوجة فهو للزينة كما هو للحشمة وسترالجسم، ويمكن أن نضيف وظيفة أخرى له وهي استعماله كمنديل (بشكير) جاهز بشكل دلئم لتمسح به السيدة يديها أثناء عملها المتواصل في المنزل، أمامن الناحية الدينية فقد بدأ الكرد يتوجهون نحو الكعبة المشرفة في صلواتهم، بدلاً من تقبيل أول بقعة من الأرض تنيرها أشعة الشمس، أو التوجه نحو (لالش حج)، وإفشا السلام الإسلامي (السلام عليكم) بينهم، بدلا من التحية الكردية الأثيرة (Roj baş) أي طاب نهاركم، فضعفت الروابط القومية لدى الكرد وأصبح الولاء لله وللدين يشاطر الولاء للقومية، وحدث انفصال إلى حد ما لدى الكرد بين القومية والدين، بعكس ماهو لدى الأمة العربية التي أصبحت ذات رسالة خالدة تمثلت في رسالة الإسلام والحضارة الإسلامية التي كان العرب نواتها الحقيقيون وتطابقت القومية لديهم والدين، وأنتجتا الحضارة الإسلامية التي أضاءت العالم طوال العصور الوسطى، أما لدى الكرد فقد أصبح الولاء والأولوية للجانب الديني وحده ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى اسقاط الروابط والولاءات القومية كلية.
كما حظي العنصر العربي بالتقديس والإحترام لدى الكرد والشعوب التي اعتنقت الإسلام، لأنه العنصر الحامل لرسالة الإسلام، ولغته هي لغة الرسول (ص) والقرآن الكريم، وبرزت أخوة من نوع جديد بين شعوب المنطقة تدعى أخوة الإيمان (انما المؤمنون اخوة) وهذا شيء إيجابي غير مسبوق أوجدها الإسلام، كما حل الشرع الإسلامي محل الكثير من الأعراف والتقاليد الكردية العريقة، وأصبح الكرد يبحثون عن حل لخلافاتهم الإجتماعية لدى الملالي ورجال الدين المسلمين، مما ساهم ذلك في تغيير الكثير من المفاهيم والكاريزمات الفكرية، والإجتماعية، والإقتصادية وحتى النفسية لدى الكرد. فظهرت قصص، وأساطير، وملاحم ذات مضامين إسلامية، تستقي مفاهيمها وعناصرها من المقدس، والإيديولوجيا الإسلامية، وبعض هذه الأساطير، أو الملاحم والقصص، لحقها التطوير والتحوير، وأدخلت إليها مفاهيم إسلامية ممزوجة بنكهة (يزيديةـ زردشتية ) قديمة يمكن للباحث الجاد أن ينتزعها من أعماق النصوص والمأثورات الشعبية التي لاتزال تنتقل شفاهة بين الكرد حتى اليوم، كما حفلت المأثورات والحكايات بقصص تروى عن نبي الله سلمان وجنه وطيوره، وعن البطولات وصولات أسد الله الغالب (علي بن أبي طالب) وعن الجن والعفاريت، وعن قدرة الله الخارقة، ومقولة الرزق على الله، وقصة الإسراء والمعراج، وعن غزوات الرسول ووقائعه مع المنافقين والكفارة...الخ .
وبدورهم قدم الكرد للحضارة الإسلامية الكثير من الأسماء اللامعة، كإبن يتيمة، وأبناء الأثيرة الثلاثة، وأبي فداء صاحب حماة، وأبي مسلم الخراساني، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم الكثير نافحوا عن الإسلام بالسيف والقلم تاركين وراءهم آثار مضيئة في التاريخ الإسلامي وتراثه المجيد.
ومع مرور الوقت بدأ احتكاك الكرد يزداد ويتخذ مسارا جديدا ونوعية متميزة فوق سهول الجزيرة السورية الشمالية مع اخوتهم العرب، والبداة منهم بشكل خاص، في وقت كان فيه الرعاة الكرد ينتجعون بين الصيف والشتاء على أرض الجزيرة السورية المترامية، وفي أواسط وشمالي بادية الشام، كما كان الأكراد من أنصاف الرحل، أوسكان القرى الزراعية المستقرة الممتدة على طول الشمال السوري، يمارسون الإقتصاد المختلط أي يزاوجون بين الزراعة والرعي، وقد اختلط هؤلاء أيضا على أديم المرابع مع العرب الرحل، ونشأت بين الطرفين مودة وألفة وحميمية لاسابق لها، ووجد كل منهما في الآخر، أخا له في الله، في ظل غياب التعصب القومي أو العرقي لدى الطرفين.
ويقول المستشرق هارولد لامب (إن الأ كراد يشبهون العرب في كثيرمن الأمور ولكنهم ليسوا منهم). ولهذا جرت بين الطرفين عمليات اقتباس، وتأثر وتأثيرمتبادلين، وإن كان التأثيرالعربي بدا أكثر وضوحا في سماء التراث الكردي، بحكم قوة الحضارة الإسلامية التي حمل العرب لواءها، وحسب نظرية ابن خلدون القائلة باقتداء المغلوب بالغالب، فقد اقتبس الأكراد عن البداة العرب لباسهم التقليدي، الحطاطة أو الشماخ وفوقه العكال للرأس، وعلى الجسم القميص(كراس) وفوقه القفطان أو الزبون، وفوق الجميع يأتي العباءة المزركشة. كما تعلم الأكراد الكثير من العادات والتقاليد العربية التي مارسها جنبا إلى جنب مع العادات والتقاليد الكردية العريقة، ومما تعلمه الأكراد، نذكر الرقصات أو الدبكات العربية الفوكلورية بحيث لاتخلو مناسباتهم وحفلات أعراسهم من وصلات للغناء العربي أو الدبكة العربية، إلى جانب تعلمهم اللغة العربية يتكلمونها إلى جانب الكردية، وحيث أدخل الأكراد الكثير من كلمات هذه اللغة إلى لغتهم. فالكردي مثله مثل العربي تماما، جواد مضياف، يقري الضيف ويستقبله في بيته بالفرح والترحاب. كما لم يفت الكرد تعلم وممارسة السرقة والغزو على الطريقة البدوية العربية. وفي كتابه الموسوم بـ (عرب واكراد ـ رؤية عربية للقضية الكردية) يعطي الأستاذ (منذر الموصلي) وصفا دقيقا ومعبرا يصدق عن الكرد وصفاتهم فيقول: (يتحلى الأكراد عامة بمزايا رفيعة يأتي في مقدمتها، حبهم لبلادهم وولاءهم لها واعتزازهم بها، ونحن العرب خاصة، لانجد عند الأكراد ما نستقبح من صفات وعادات وتقاليد. فالكردي فارس ميدان، مقاتل مقدام، صبور شجاع، كريم النفس، سخي اليد نسبيا، كثير الأمانة. لكنه حاد الطبع سريع الغضب، غير أنه إلى الرضى أسرع. فهو طيب القلب جدا، يصادق بإخلاص ويعادي بتطرف وعناد ولكن بلاحقد.) عرب وأكراد ـ ص ـ 131 .
ويقول في موضوع آخرـ ص ـ 142 : (فللأكراد على العرب، يد سلفت، ودين مستحق) وبالمقابل فقد أقدم القليلون من العرب على تعلم اللغة الكردية وتعلموا من الكرد الزراعة والإستقرار بحكم التجاور، واقتبسوا منهم أيضا طريقة خض اللبن في قربة من جلد الماعز معلقة في حامل ذي ثلاثة قوائم من الخشب (Sêpî) المعروفة بـ(الكرادة) لدى عرب الجبور في سورية، حيث ينصب في العراء وتضم إلى بعضها بسهولة عند الأنتهاء من الخض وواضح أن تسميتها بـ (الكرادة) جاءت نسبة إلى الأكراد. ولكن ماهو تأثير هذا الإحتكاك المباشرعلى الأكراد السوريين...؟ وما هو جوانب ومضاعفات ذلك التأثير رهناً؟. وما نعلمه هو أن الأكراد تعرضوا في سورية لمثل هذه العولمات المختلفة، واستمر الحال هكذا حتى حصول الطفرة ماقبل الأخيرة من تأثيرات العولمة لدى الكرد السوريين، وتبدأ منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي، أو عند البدء ببناء مدينة القامشلي عام1926م تحديدا. عند ماجرى احتكاك مباشر بين سكانها الكرد أو من كان يزورونها للتسوق من القرى الكردية المجاورة، مع الجنود الفرنسيين والسكان المسيحيين المدنيين منهم، فتعرفوا على أزياء هؤلاء المكون من البنطلون والسترة أو الجاكيت.
وفي القامشلي سكنت في البدء عائلات أصحاب الأراضي التي بنى الفرنسيون عليها مخفرهم الذي كان النواة والحافز على بناء المدينة، ومن هذه العائلات (آل نظام الدين)، و(آل البيك) مثلاً، وبضع عائلات ماردنلية معروفة، ثم سكنها السريان والآشوريون الذين كان منهم من تطوع في سلك رجال الدرك، فتزيا هؤلاء بزي الفرنسيين، ولم يلبث أن أقتدى بهم – وكما قلنا- من سكن معهم من الكرد والماردلية فيما بعد، بينما كان العرب البداة ينفرون من سكنى المدينة، فحافظوا بذلك على لباسهم التقليدي المعروف، وانتشرت عادة ارتداء الألبسة الفرنجية ـ كما كانت تسمى ـ بين التلاميذ من رواد المدارس الفرنسية أيضا، ثم انتقلت العدوى إلى الريف الكردي المجاور والقرى السريانية والأرمنية، وبدأ سكان تلك القرى يرتدون البنطلون الأوربي وملحقاته بشكل خاص عندما يرتادون المدينة ليتزينوا بزي أهلها، ثم يعودون إلى الكلابية (الكراس) وملابسهم التقليدية عندما يعودون إلى قراهم ومزارعهم، ولم يمض وقت قليل حتى أخذت مدينة القامشلي بشكل خاص ومدن الجزيرة الأخرى بشكل عام في الكبروالتوسع، بعد أن شهدت طفرة لامثيل لها في الهجرة إليها من الريف المجاور، وخاصة في السبعينيات من القرن الماضي، حيث ارتدى المهاجرون من سكانها الجدد والشبان منهم خاصة الزي الأفرنجي بشكل دائم ومستمر، ليحل محل الزي الريفي لدى الكرد والذي هو أصلا الزي العربي البدوي ذاته، واقتدى بهؤلاء معظم الشبان من سكان القرى اقتداء بأقاربهم ممن سكنوا المدينة منهم، وفي هذه الفترة طالت العولمة وماصاحبها من تغير وتبدل في المأكل، والملبس، والمظهر الخارجي، خاصة لدى الرجال منهم، كتسريحة الشعر، ونوعية الملابس وشكل تفصيلها، جريا وراء الموديلات التي كان يدخلها المغتربون من أبناء المنطقة في المتروبولات الأوربية والغربية، أو التي كان يدخلها الخياطون والحلاقون، وأصحاب محلات الكوافير، فتم إدراج الحلاقة الأنكليزية، ثم الشعر الطويل المخنفس، أما على الجسم فكان الدارج من الموديلات هو البنطلون ذو الفتحة السفلية الواسعة، ثم الضيقة جدا،حتى أستقرت اليوم أزياء أغلب سكان المدن والقرى المجاورة، والرجال منهم خاصة على البنطلون والجاكيت أو الطقم العادي، أو بنطلون الجينز والقميص للشبان ومن هم في مقتبل العمر، كما أختفت نوعا ما الموديلات التي سادت في تلك الفترة أي في السبيعينات والثمانينات من القرن الماضي.
 أما النساء الكرديات والشابات منهن، فقد أرتدين أيضا في المدن اسوة بغيرهن، التنورة العادية أوبنطلون الجينز والقميص، أو الفستان الطويل للأميات والمحافظات منهن أوممن تجاوزن سن الشباب والصبا، وكن يتدرجن في أمسيات الآحاد الجميلة مع نساء المدينة المسيحيات في شارع القوتلي الشهير الذي كان بمثابة مسرح لعرض الجمال والأزياء النسائية في المدينة، يغشاه المراهقون والشباب من الجنسين، وذلك قبل حدوث طفرة الهجرة الأخيرة بين صفوف الشباب في تسعينيات القرن المنصرم واليوم خف بريق هذا الشارع بعدما فقد الكثير من رواده الشبان لأسباب عديدة غير الهجرة التي ذكرناها ولامجال لذكرها هنا. وعلينا أن نشير إلى أن الأكراد كانوا أقل تأثراـ وخاصة نساؤهم بالموديلات المستوردة من الأزياء لأسباب دينية وأخلاقية، في الوقت الذي كان فيه الأخوة المسيحيون أكثر تجاوبا مع الموديلات الغربية وأكثر تحضرا من الآخرين، أي من الكرد والعرب الجزراويين حصرا، لأسباب تاريخية وعقائدية أيضا لأن الديانة المسيحية أكثر تساهلا مع المرأة ولم تفرض عليها الحشمة وستر الجسم، وكذلك نتيجة أحتكاك المسيحيين الجزراويين في وقت مبكر مع الرومان واليونان في بلاد الشام، ومع الفرنسيين والأنكليز مؤخرا، كما كانت لهم علاقات أوسع مع الخارج ومع مسيحي حلب في العصر الحديث، ولاأقصد بالتحضر لدى المسيحيين موديلات الأزياء أو أي شيء من هذا القبيل، بل أقصد التحضر في النواحي الإجتماعية، والتعليمية، والإقتصادية، ولاأدل على ذلك من زوال التنظيم العشائري لديهم منذ فترة مديدة، بعكس ماهو سائد لدى السلمين من عرب وكرد، ولهذا يمكننا القول: بأن السريان والآشوريين، وكذلك الأرمن، كانوا في المدينة من بناة القصور والعمائر، وأصحاب الدكاكين والمحلات التجارية، وقاموا بإدخالات تقنيات جديدة في الزراعة والري (كآل الأصفر) الذين فتحوا شبكات للري في مناطق رأس العين واستمطروا الغيوم بقنابل مطرية ...الخ. ومنهم من عمل في الصيرقة والصناعة بينما كان الأقطاعيون الكرد ينتقلون إلى المدينة بحثا عن الرفاهية تاركين أراضيهم الزراعية في أيدي فلاحيهم، ولم يلبث أن تبعهم فلاحوا القرى المجاورة للمدن للعمل في الوظائف والعتالة وأعمال البناء والسوق والخدمات، إلا إن الغالبية من القرويين الكرد، بقوا يحافظون على أزيائهم الشعبية المقتبسة أصلاـ من الرأس إلى أخمص القدمين ـ من الأزياء العربية الدارجة في المنطقة ـ كما بينا سابقاـ ولم تتأثر كثيرا العادات والتقاليد الكرديو القديمة رغم اهتزازها برياح التغيير من الأعلى، وكانت المرأة أكثر صمودا من الرجل في وجه العولمة والتغيير، سواء من حيث اللباس، أوحسب نمط واسلوب الحياة الخاصة بها، فمن النادر أن تجد حتى اليوم المرأة الريفية مرتدية ألبسة مدنية، بينما انخرطت أختها المدنية في زمن الأغتراب ولبس ثياب الأغراب، وخلال الطفرة الأخيرة من العولمة التي بدأت في مرحلتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم والتي لاتزال فاعلة ومؤثرة بقوة حتى اليوم، في العادات والأزياء، والتقاليد، بدأ التراث الكردي يتآكل من جراءها، ويختفي تحت بصماتها المتلاحقة بدون هوادة، فاستقرت أزياء الرجال نهائيا في المدن، وأرست على البنطلون والجاكيت وربطة عنق وقميص أبيض، أو قميص وجينز، بينما حققت المرأة أيضاً قفزات كبيرة نحوما يسمى (بالحداثة)، فكان التعليم وانتشاره بين جميع الشرائح الإجتماعية، كأهم نقطة إيجابية سجلت خلال هذه القفزات النوعية، ولكنها جاءت على حساب التراث الكردي المتضمن في لباسه، وقصصه، وأساطيره، وقيمه، وعاداته، وأخلاقه، التي تعود إلى آلاف السنين، وكانت الضربة القاصمة موجهة أكثر إلى الأزياء التقليدية لدى الجنسين وكانت لهذه الأزياء حصة الأسد في عوالم هذا التغيير المفاجىء، فعمدت الكثير من الشابات إلى ارتداء بنطلون الجينز الضيق الذي يسمح بظهور تفاصيل الجسم وخطتاصة في الأعياد والمناسبات، ولم يكن ذلك دون موافقة الأهل أو بتساهل منهم، وهو ماكان بعيدا عن الأخلاق الكردية وتقاليدهم كما أدى احتكاك المرأة المدنية الكردية بمجتمع المدينة المتحرر مع الوافدين من بلاد الهجرة والإغتراب، الذين تأثروا بالعادات الغربية ودرجوا على ارتداء مختلف موديلات الأزياء وجلبوا مهم التقاليد التي تعود إلى البلدان التي جاؤا منها، والتي تلقفها الناس السريعو الإستجابة للمؤثرات الخارجية، إلى انعتاق نساء مدن الجزيرة السورية بمن فيهن فتيات كرديات من ربقة العادات والتقاليد المحافظة،واختفت بسبب ذلك الأزياء التقليدية للنساء الكرد اللآتي يبتعدن يوما بعد يوم عن ثوابت تراثهن العريق  الذي بدأ يلفه الزمن ويطويه النسيان، هذا التراث الذي كن يميزن به دوماً أنفسهن عن نساء الشعوب المجاورة الأخرى.
ومن هنا يمكن للكرد الغيورين على تراث الآباء والأجداد أن يدقوا ناقوس الخطر، خطر الضياع والتشتت تحت وطأة العولمة الوافدة خاصة من الغرب التي خرجت من الرحم الأوربي ـ الأمريكي والتي تناسب سيكولوجيات الغربيين، وبيئاتهم، وعواطفهم.
وهناك أيضا التأثير المتبادل ـ كما بينا ذلك سابقاـ بين الكرد والشعوب المجاورة، ويتم ذلك في الجزيرة السورية ضمن نطاق المنطق والمعقول ورغم إيجابية بعض الأمور الوافدة إلى الكرد السوريين، إلا إنه يترتب على هؤلاء اتخاذ مواقف منها، ليس لمنعها من القدوم إلى البلاد، بل للتحكم بولوجها أبوابنا، ولتطعيمها بنكهة تراثنا وقديمنا للسير معها ولمواكبتها والمشاركة فيها، والعمل على تطوير أزيائنا وعاداتنا وتقاليدنا بالإرتكاز على تراثنا وفلكلورنا، والبناء عليهما والعمل على تجديد الفكر من داخل التراث وعلى تجديده وإعادة بنائه بكل ماهو جديد ومفيد، ليبقى هذا البناء محافظا على نكهته وطابعه المميزين، إنما بشكل يضفي عليه لمسات التطور والعصرنة في زمن العولمة الشاملة وأداتها التكنولوجيا المتقدمة، والأنترنيت، ووسائل الأتصال، والأقمار الصناعية، حتى نحافظ على استمرارية التجديد، مع عدم التفريط بالخصوصية والهوية الكردية المتميزين .
فمثلا نتذكر من العادات والتقاليد الجميلة المتعلقة بطقوس الزواج والتي اندثرت اليوم، هم ماكان من اعتلاء العريس لسطح الدار وفوق الباب الذي سنلج منه العريس مباشرة إلى الداخل، وذلك ليلقى على رأسها قطعة من لبن أوطين مجفف أو نحوه لتخويفها ولأظهار هيبته ورجولته أمامها، أو لنثر قطع الدراهم فوق رأسها لحظة ولوجها الباب. كما لم تعد أم العريس تقوم بكسر جرة مملوءة بقطع السكر خلف العروس وهي تقترب من الدخول إلى مربض الزوجية، كرمز للتفاؤل بالخير والعطاء، وليكون دخولها البيت الجديد مجلبا للسعادة والهناءة لأهل البيت وللعروسين نفسيهما، وكان إلى عهد قريب يمتنع العريس وبموجب العادات والتقاليد التي كانت سائدة لدى الكرد السوريين عن مرافقة موكب العرس الذاهب لجلب العروس من بيت أهلها، وكان من المعيب أن يفعل أحد ذلك، أما اليوم فقد درج أن يذهب العريس مع الموكب العتيد ليبتأبط ذراع عروسه، وليجلس إلى جانبها في سيارة زينت خصيصا لنقلها مع لفيف من أهلها، إلى ناد أوساحة عامة يجري فيها إقامة الحفل الذي يجمع بين أهل العروسين وكان إلى عهد قريب أيضا يمتنع أهل العروس عن مرافقة ابنتهم إلى حيث مكان الأحتفال، وكان كل من يفعل ذلك يلقى العار والشنار. أما اليوم فقد درج أهل العروس على مرافقتها في سيارة خاصة بهم، ليس هذا فحسب بل إنهم يشاركون في الرقص ومراسيم الإحتفال ويجلبون معهم الهدايا للعروسين كما تدفع بعض العائلات المقتدرة جزءا من مهر ابنتهم على شكل هدايا وأدوات منزلية، وأزياء وألبسة وفي مكان الحفل تقدم قوالب(الكاتو) مع الحلويات والشراب، ويصدح المطربون الشعبيون بأحلى ألحانهم وأجملها مترافقة بموسيقا فوكلورية كردية وبآلات غربية في معظمها تلك التي حلت محل الآلتين الكرديتين العريقيتين وهما الطبل والصرناي، ذواتا الأنغام الموزونة الرتيبة أحيانا والمتنوعة في أحايين أخرى وهي تناسب الأنغام الفوكلورية الكردية عموما هذا وقد تم إدخال بعض الرقصات والدبكات الشعبية إلى الجزيرة السورية من كردستان العراق وخاصة رقصات (العراقي) و(الشيخاني) و(ججاني) ........وغيرها .
ولكن يبدو أن بعض من المطربي الكرد السوريين وخاصة في المهاجر قد وقعوا في فخ العولمة أيضا، فتلاعبوا بألحان وبنية الأغنية الكردية وسياقها العام، فأخرجوها عن طورها المعتاد، نذكر من هؤلاء جوان حاجو، خوشناف، وروني جان، في بعض أغانيهم فألبسوا الأغنية الكردية لبوس الألحان الغربية السريعة الإيقاع وطوروا - واحياناً شوهوا- تراث الأغنية واللغة الكردية، وجرسها الموسيقي الخاص بها، وتم تطويع ألحان الأغنية الكردية بعيدا نوعاما عن الذوق الكردي، ولتناسب الطريقة الغربية في الآداء والإيقاع بحيث عجز الكثير من هذه الألحان - وليس كلها- عن الأنسجام مع الأذن الموسيقية الكردية أو عن التأثير في احساسات المتلقي الكردي ودخائل نفسه ودغدغة مشاعره وعواطفه. ولكن وبالرغم من ذلك نرى دوما شرائح معينة من الشبان الكرد من الجنسين وخاصة في المتروبولات والمهاجر الأوربية الغربية، يتمايلون طربا وانتشاء لدى سماعهم لأمثال تلك الأغاني والألحان المستحدثة المتغربة، أوربما تصنعا وادعاء للحضاروية من قبل هذه الشرائح من الشبان المنتشين طرباً وحداثة؟.
وإذا كانت الحالة الأخيرة صحيحة على حد ما عندها يمكن القول: بأن جل تلك الأغاني الملحنة على الطريقة الأوربية قد ساهمت وتساهم في إفساد أذواق هؤلاء الشبان الذين يكونون قد استساغوا الحانا وموسيقا، خارجين عن قواعد فن الغناء الكردي العريق، بحيث لايمكن الذهاب أبدا إلى اعتبار ها ـ وبأي شكل من الأشكال ـ تطورا أو ابداعاً لطريقة مبتكرة في اللحن والغناء أو الأداء، بل هو اقحام لنمط من الألحان الغربية في معاقل الذوق الكردي الفني العام، دون ممهدات ومقدمات وذلك لأن لكل لغة في العالم أناس ينطقون بها معبرين بها عن احساساتهم وأذواقهم الخاصة، تلك الأحساسات والأذواق التي تشكلت عبر الأزمنة، ومستمدة من خصوصية اللغة وبنيتها الدلالية والتركيبية، حيث لكل لغة حية جرسها وموسيقاها الخاصين بها. فيطربون لسماعها وبألحانها ينتشون! ناهيك إلى أن لتنوع اللغات واستقلاليتها، سواء من حيث التكلم بها أو تلحينها وغنائها بما يوافق أهواء نفوس الناطقين بها، ظاهرة إيجابية تساعد على الإغناء الفكري والتعدد الحضاري، وأنها تحافظ على خصوصيات الشعوب وتقف في وجه العولمة التي تدفع بهذه الشعوب نحو الإغتراب وفرض ثقافة القطب الواحد ونمط حياته وسلوكيته، على شكل غزو واقتحام بدون استئذان من أحد في عصر تحول فيه العالم إلى مزرعة صغيرة. ولكن لا يمكن ـ والحال هذه ـ من السطو على أي من اللغات الحية وافراغها من محتوياتها لصالح لغات أخريات بأية طريقة كانت، دون أن يثير ذلك اشكالات وردود أفعال قوية من قبل الناطقين باللغة التي قد يجري تهميشها أو الحجز عليها. مثلما لايمكن أداء الأغنية الكردية بلحن غربي، دون أن يثير هذا اللحن إرباكات في نفس الكردي ووقع ثقيل على أذنيه، إلا إذا أدخلت أو أسبغت عليه نكهة لحنية خاصة تقربه من الذوق الكردي العام.
فاللحن، والنص، ونفسية المتلقي، تشكل أساس تراث الأغنية المميزة لدى كل شعب تعودت عليها آذان الأجيال بالتوارت، وقد ترعرعت عليها نفوسهم وآذانهم بشكل مختلف عما هي عليه لدى شعب آخر من ألحان وأغنية، رغم أن أغنية ذات لحن أصيل ومبدع قد يطرب لها معظم الناس في أرجاء العالم إلا إن ذلك ليس شيئا دائما.
وأختم مقالتي هنا بالقول: بأن العولمة قادمة وستكون لها تأثيرا إيجابيا على الشعوب المستضعفة والأقليات القومية من النواحي السياسية، وتخفيف للضغوط العرقية عليها كما هو حاصل في (كوسوفو) مثلا، إلا إنها ـ من جانب آخر ـ ستكون وبالا عليها وعلى تراثها وهويتها القومية وخصوصيتها المتفردة والمميزة بشكل خاص، كما هو على النواحي الإقتصادية والإجتماعية بشكل عام.

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 5
تصويتات: 2


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات