وصاية السياسي على الثقافي: السلطة المتشابكة وتحديات الحرية الفكرية

 إبراهيم اليوسف

تنفرد الساحة الثقافية اليوم بسمات تعكس تشابكاً معقداً بين السلطة السياسية والمجال الثقافي، حيث يبرز السياسي كعنصر  لايزال يتوهم قدرة الاستفراد في قيادة الفكر، كما حوذي أو بهلوان- وذلك بعيداً عن التعميم- رغم إخفاقه في تحقيق النجاح حتى في ميدان السياسة، وما الحال التي آلينا إليها إلا أكبر دليل على ذلك. هذا التشابك يقود إلى حالة من التضييق على المثقفين، وتزايد محاولات فرض الوصاية على مساحات الفكر الحر، من قبل بعضهم.  إذ تتعاظم هذه الظاهرة حين يسعى السياسي، الذي أخفق في المهمات الميدانية، إلى إعادة تدوير دوره من خلال التنظير الثقافي. فقد يبدو هذا التوجه في البداية دليلاً على رغبته في التجدد، وهو أمر محمود، لكنه للأسف، غالباً ما يتحول إلى نوعٍ من الاستبداد الثقافي، مُختزلاً هذا المجال في تصورات ضيقة، لا تتقبل الحوار، ولا تسعى للتفاعل مع الآراء المتنوعة.

يتجلى هذا الانحدار حين يكتفي السياسي بمصادرة الآراء المخالفة، مسقطاً أية محاولات للنقاش الحر، ومفضلاً رؤية أحادية تضعه في موقع  الموجّه المطلق، الذي يُملي على المثقفين رؤاه الخاصة وكأنها مسلمات، وعلى جميعهم الالتزام بها من دون جدال. في هذا السياق، تُهمّش إمكانات الحوار وتُختزل أدوار المثقفين ليصبحوا تابعين، يدورون في فلك التنظيم السياسي،  أو سدنته، ويعتمدون على “جدول عمل” من الأفكار المسموحة، التي تُرضي القيادات ولا تتجاوز السقف المحدد. هذا المشهد يدفع المثقفين غالباً إلى النأي بأنفسهم عن الانخراط المباشر مع تلك الأطر، مُدركين أنّ مجال الفكر لا يحتمل تقييده بقرارات تأتي من خارج سياقه.

إن جوهر المثقف يكمن في حرية التعبير والتفكير، فالمثقف كائن يستمد قوته من استقلاليته، ومن قدرته على إبداع رؤى جديدة تُثري الوعي الاجتماعي، حتى إن لم تعجب أو تتوافق من يتنطع لتصور ذاته في  موقع رسولي، أو إلهي. لكن في ظل سيطرة سياسيين لا يملكون سوى توجهات ضيقة، تناسب تنشئتهم الأيديولوجية، يفقد المثقف حريته حين التزامه الأعمى بها، ويصبح مكبّلاً داخل دائرة مغلقة لا تتيح له الفرصة للنقد أو الخروج عن المسار المرسوم. إذ تتكرر محاولات الهيمنة الثقافية من قبل بعض القيادات التي تتوهم أن الإبداع، بل وحتى الآراء، والمواقف، والتقويمات، والتصورات، يجب ألا تتخطى عتبة تنظيراتها، فتبدو وكأنها تُطالب كل من يكتب بالتزام الإشادة بها فقط، وتحرير أفكاره لتنسجم مع توجيهاتها، أصاب أم أخطأ، بل وبالذهاب صباحاً إلى “مرجعية” القيادة، كي يحصل على “جدول عمل” يُحدّد له حدود الإبداع وحدود النقد، بل هناك من يستطيع الحكم بفرمان مقالي واحد على آلاف المثقفين أنهم: غير جديرين، ليتوج من يتهيبه، ويرغب بتكسبه، في سلوك انتهازي، ليسحب عنه الصفة عندما لا يرضخ له هذا الأخير.

هذا التوجه الأحادي يخلق عزلة تدريجية بين الثقافة والسياسة، فتبدو القيادات مع مرور الوقت وكأنها في برج عاجي، حيث تفتقد الارتباط الحقيقي مع الشارع الثقافي. تلك القيادات التي لا تجد من يتابعها فكرياً، لأنها لم تترك مساحة كافية للمثقفين لكي يبدعوا ويعبّروا عن آرائهم بحرية. في هذا السياق، يظهر عجز واضح لدى بعض هؤلاء السياسيين، الذين رغم إصرارهم على قيادة الفكر، وهم يقودون العمل الحزبي، ولربما من بينهم من لا يستطيعون قيادة أسرة صغيرة بفاعلية، في ظل توافر الشروط الطبيعية، ومع ذلك فهم يحلمون بقيادة المجتمع . البلد، ممتلكين طموحاً يعكس تضخماً في الذات، وكأن الشمس لا تُشرق إلا بمباركتهم.  إذ لطالما هم لا يحتملون أي تفوق لغيرهم، ما لم يكن تابعاً ، ويرون في كل عمل إبداعي مميز يُقدّم من خارج دائرتهم تهديداً يستوجب التهميش والتقليل، حتى وإن كان هذا الإبداع يصبّ في صالح المجتمع ككل.

إن هذا المشهد يذكّرنا بحادثة طريفة من زمنٍ بعيد، حينما خيَّم أحد الغجر  وأسرته في بيادر قريتنا تل أفندي. فعندما استيقظنا ذات صباحٍ مفاجئ، على صوت صراع حاد بينه وبين غجري آخر كان قد جاء وأسرته ليخيموا بجواره، وحين تدخل أهل القرية للفصل بينهما، صاح الغجري الأول بحدة مُحتجاً: “هذه القرية لي! ليذهب هو إلى قرية أخرى!” هذه الحكاية، وإن كانت بسيطة، إلا أنها تعبر بشكلٍ عميق عن ظاهرة الاستئثار بالسلطة، ورفض المشاركة في مجالٍ يعتبره البعض حكراً خاصاً لا يقبل أي منافس أو شريك.

إن جوهر الثقافة يكمن في التعددية وقبول التنوع، حيث إن الفكر الحر لا يُثمر إلا في فضاءات تتسم بالانفتاح والتجديد. أما محاولات فرض السلطة السياسية على الثقافة، فتقود إلى حالة من الركود الفكري والانفصال التدريجي بين المثقفين والحركات السياسية. إذ يَعتبر السياسي ذاته الوصي المطلق، ويترسّخ لديه اعتقاد بأنه يمتلك مفاتيح الحقيقة المطلقة، غير مستوعب أن الثقافة حقٌ عام يهدف لتنوير المجتمع ككل، وليست ساحة لخدمة أجندات ضيقة أو مصالح شخصية.

تأسيساً على ماسبق فإن جوهر المثقف  يكمن في  كونه ساعياً إلى الحرية، ومتحرراً من قيود التوجيهات االاستعلائية الوصائية. ولذا، فإن على “بعض” السياسيين أن يدركوا أن الوصاية على الثقافة ليست علامة قوة، بل انعكاس لضعف في إدارة الفكر وتوجيهه، وأن السعي لإخضاع الفكر لسلطة تنظيمية أو حزبية- على نحو فوتوكوبي كامل مسلوب الإرادة- إنما يعبر عن مخاوف من الفكر المستقل. لأن الثقافة بطبيعتها تتجاوز هذه القيود، وترتقي بالمجتمع من خلال الإبداع الحرِّ

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

كريمة رشكو   لنا تاريخ لا يمكن لأحد إنكاره في محاربة الإرهاب والدفاع عن حقوقنا الشرعية. لم نرفع السلاح إلا للدفاع عن قضيتنا ووجودنا. لا شك أن محاربة الإرهاب والوقوف في وجه داعش، والتصدي لكل فصيل إرهابي، لا يقل أهمية عن مواجهة النظام السوري. ومع ذلك، نحن الكرد كنا من أوائل من طالبوا بإسقاط النظام وإنزال تمثال حافظ الأسد، ولا…

محمد زيتو*   مع سقوط النظام السوري الذي حكم البلاد لعقود، تقف سوريا اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخها. هذه اللحظة ليست فقط تحدياً، بل فرصة ذهبية لإعادة بناء وطن يستوعب جميع أبنائه ومكوناته دون استثناء. لقد عانت سوريا لعقود من القمع والانقسامات التي زرعتها أنظمة الاستبداد، مما أدى إلى صراعات دامية أرهقت البلاد وأثرت على كل مكونات المجتمع السوري،…

إبراهيم اليوسف   تم تسريب تقرير قيصر في عام 2014 بوساطة مصدر سوري يحمل الاسم الرمزي “قيصر”، وهو منشق عن الأجهزة الأمنية السورية، وقد كان يعمل مصورًا في الطب الشرعي في الشرطة العسكرية التابعة للنظام السوري. هذا التقرير يُعد واحدًا من أبرز الوثائق التي فضحت الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري بحق المعتقلين والمعارضين السياسيين. ويحتوي على أكثر…

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)*   أثبتت التطورات صحة ما قالته المقاومة الإيرانية بأن “رأس أفعى ولاية الفقيه موجودة في طهران”. لقد سقط نظام الأسد الدكتاتور، وأصبح هذا السقوط مقدمة حتمية للإطاحة بالدكتاتورية الدينية الحاكمة في إيران.. ورغم أن سوريا مرت بأصعب فتراتها في ظل حكم “الأسد”، ومن حق الشعب السوري أن يفرح ويحتفل بانتصاره على الدكتاتورية الآن، إلا أنه من الضروري…