كونفرانس الكرد: فرصة التاريخ الأخيرة… فهل نضيّعها كما ضيّعنا ما قبلها؟

صلاح عمر

لا أفهم، بل في الحقيقة، يصعب عليّ أن أستوعب هذا الإصرار العجيب – وهذا الإمعان في السخرية والتقزيم – من بعض أبناء جلدتنا، من أولئك الذين يتفاخرون بثقافتهم العالية و”نضجهم” السياسي على منصات التواصل الاجتماعي، تجاه أي خطوة تُحاول، ولو متعثرة، أن ترمّم البيت الكردي المتهالك… وآخرها، الهجوم المستغرب على محاولة انعقاد كونفرانس كردي موسع، يضم تحت مظلته كل أطياف الحركة السياسية الكردية، منظمات المجتمع المدني، والشخصيات الوطنية المستقلة.

أليس من المفترض أن نفرح؟ أن نعلّق الأمل؟ أن نتمسّك بأي خيط يُعيد لحم ما تمزّق، ويخلق موقفًا موحدًا في واحدة من أخطر المراحل التاريخية التي يمر بها شعبنا الكردي في سوريا؟

لكن لا… يبدو أن بعض “المثقفين” باتوا يتلذذون بالخراب، يقتاتون على الانقسام، ويخافون من أي احتمال – ولو ضعيف – يُعيد للكرد شيئًا من وحدتهم المفقودة.

ألا تقرؤون التاريخ؟

أم أنكم تقرؤونه كما يحلو لكم، بنرجسية تبريرية تُخدّر الضمير وتُطمئن الذات العاجزة؟

عودوا قليلاً إلى الوراء… إلى عام 1920، يوم كانت القوى العالمية ترسم خرائط المنطقة بمعاهدة سيفر، وتُمهّد لإعادة توزيع النفوذ بعد الحرب العالمية. يومها، كانت هنالك فرصة حقيقية أمام الكرد لانتزاع شيء من حقوقهم، لكنهم – وكعادتهم – فشلوا في الاتفاق، فشلوا في الاجتماع، فشلوا في تجاوز الأنا والجهوية والتعصب… فكانت النتيجة:

ضياع الوطن، وتقسيم كردستان إلى أربعة أجزاء، وبدل أن يكون لنا دولة، صرنا نُعامل كغرباء في أرضنا، محرومين من الاسم واللغة والكرامة.

واليوم، يعيد التاريخ طرح السؤال ذاته…

هل ستضيّعون الفرصة مجددًا؟

هل سنقف متفرجين على من يُحاول أن يبني جسرًا فوق هوّة الانقسام، ونرميه بالحجارة بدلاً من أن نعبر معه؟

نعم، نحن نعرف أن لدينا “ألف ملاحظة وملاحظة” على أحزابنا، على قياداتنا، على ممارسات الماضي والحاضر…

لكن من قال إننا نملك غير هذه البضاعة؟

وهل انتظار “نبيّ كردي” ينزل من الجبل ليخلّصنا من أنفسنا بات حلًّا واقعيًا؟

أيها المتشدقون بالنقد لمجرد النقد، أيها المترفعون على خنادق الواقع،

أن تكونوا دعاة تقارب لا يُلزمكم أن تكونوا صامتين، بل أن تكونوا صادقين…

قُولوا ما تشاؤون، لكن لا تُشككوا في مبدأ اللقاء، في فكرة الحوار، في حلم التفاهم…

فمن لا يحتمل الاجتماع، لا يستحق أن يحلم بالحرية.

اليوم، يجتمع الكرد رغم كل الجراح والخلافات، في محاولة جديدة، قد تكون متأخرة، لكنها ليست مستحيلة…

فلا تقفوا في وجه ما تبقى من الأمل.

كونوا عونًا، لا عبئًا.

كونوا ضوءًا، لا دخانًا.

فإن ضاعت هذه الفرصة كما ضاعت سيفر، فلن تبقى هناك فرص أخرى.

وساعتها، لا تنفعنا منشورات الفيسبوك، ولا تأملات النُخَب المعزولة، ولا الشعارات…

بل فقط الندم، والندم وحده، على وطنٍ لم نستطع أن نكون بحجمه.

نداؤنا الأخير… قبل أن يُغلق التاريخ دفّته!

يا أبناء شعبنا في كل شبرٍ من كردستان سوريا،

يا من حملتم على أكتافكم حُلمًا أثقل من الجبال،

يا من قاومتم التهميش والقهر والإنكار،

نخاطبكم اليوم، لا بل نصرخ من قلب الجراح: آن الأوان لنعقل، لنتوحد، لنتجاوز.

آن الأوان أن نكفّ عن نحر بعضنا سياسياً، ونبدأ معًا في خياطة راية جامعة نلوّح بها أمام العالم، لا رايات ممزقة نرفعها على قبور فرصنا الضائعة.

آن الأوان أن نغلب الكلمة على الطعنة، واليد الممدودة على المتاريس الحزبية، وأن ندرك أن قوتنا لا تكمن في عدد الأحزاب، بل في إرادتنا المشتركة.

نحن لا نطلب معجزة،

ولا ننتظر زعيماً خارقاً،

بل نطلب منكم – كلكم – خطوة شجاعة واحدة:

أن تُنزِلوا سيوف الشك، وتجلسوا إلى طاولة الصدق.

فلتنعقد مؤتمراتكم، ولتتلاقَ كلمتكم، ولتتشكل مرجعيتكم،

لا لأجل الأحزاب ولا الزعامات، بل لأجل الطفل الكردي الذي لا يزال يكتب اسمه سرًا،

لأجل المرأة الكردية التي لم تنحنِ رغم قهر الأنظمة،

لأجل الشهيد الكردي الذي لم يسأل عن لون الراية، بل مات لأجل القضية.

هذا النداء ليس لقيادة دون أخرى،

ولا لتنظيم دون سواه،

بل هو نداء أمةٍ في مفترق الطرق،

أمةٍ سئمت الانقسام والتشرذم، واشتاقت لأن ترى نفسها واقفة، موحدة، مرفوعة الرأس.

إلى كل من يمتلك ذرة ضمير وذرة مسؤولية:

لا تضيعوا لحظة الحقيقة،

فإن لم نكن على مستوى هذا التحدي اليوم،

فلن يشفع لنا الغد، ولن يُسامحنا التاريخ.

كونوا على قدر الوطن… أو افسحوا الطريق لمن هم مستعدون أن يكونوا.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

علي جزيري يُحكى أن (حسان) ابن رئيس «الجمهورية السورية» شكري القوتلي تأخر عشر دقائق عن الدوام المدرسي ذات يوم، بيد أن مدير المدرسة (جودت الهاشمي)، أنّبَهُ وأعطاه كتاباً ممهوراً بختم المدرسة، يطلب فيه ضرورة إحضار ولي أمره، ولبى حسان حينئذ أمر المدير، لكنه عاد إلى البيت مكسور الخاطر، فاستغربت والدته عودة ابنها الوحيد في ذاك الوقت المبكر، وحين…

صلاح بدرالدين مدخلالى جانب الانشغال اليومي بامور وشؤون الكرد السوريين كمهام لها الاولوية من خلال النضال في سبيل رفع الاضطهاد القومي، والاجتماعي، والسياسي عن كواهلهم، واستعادة حقوقهم القومية، والمساهمة في النضال الوطني العام من اجل الديمقراطية، والتقدم، ومواجهة الاستبداد، كان الهم القومي – الكردستاني – لم يفارق مشاعر جيلنا والذي من قبلنا، ليس كموقف سياسي عابر…

إبراهيم اليوسف الوطن في أرومته قبل الخريطة في حبرها أحدهم   لم يبدأ مشروع “الشرق الأوسط الكبير” من مقاعد البيت الأبيض، بل تسرّب ببطء من: غرف التفكير، مراكز البحوث، خرائط الجيوبوليتيك، وأقلام من ظنّوا أن المنطقة لا تستحق حدودًا ثابتة، وفق تصورات القطب الثاني الموازي بل المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، كقطب قوي عملاق، قبل انهياره التاريخي. إذ إن…

شيرزاد هواري   تشهد منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة تصعيدات عسكرية متسارعة تقودها إسرائيل، مدعومة من حلفائها التاريخيين، في مشهد يشي بتحولات استراتيجية عميقة. هذه التطورات لم تأتِ من فراغ، بل تبدو كحلقة متقدمة من مسار طويل ابتدأ منذ ما يزيد عن قرن، مع توقيع اتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت إرث الإمبراطورية العثمانية على أسس استعمارية، دون أدنى…