كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الحادية والثلاثون (خوندكار كلش*)

سمعنا عن الأحداث من الراديو، وبعدها حاولت الاتصال مع أخي دجوار، الذي كان متواجداً في ملعب قامشلو البلديّ، لكن ردّ عليّ شخصٌ آخر وهو الصديق حسن، قال: إنّ دجوار ترك هاتفه معي..!، وبعدها علمنا أنّ هناك شهداء، حاولتُ الاتصال بالكثيرين وأخيراً اتّصل دجوار من قامشلو.

الساعة الرابعة أتى جوان خالد إلى منزلي، وقال: شعبنا يُقتل.. علينا أنْ نفعل شيئاً، ولا يمكن أنْ نبقى صامتين..! وعند الساعة السادسة تقريباً ذهبنا إلى بيت المرحوم (أبو علي)، والذي كان يمتلك حاسوباً وشبكة إنترنت وتواصلنا مع أحد الأصدقاء في أمريكا.

وبعدها عدنا وتجمّعنا في منزلي، وقرّرنا التظاهر غداً مع بعض الخلافات حول الموقع، وكنتُ قد تواصلتُ مع الشباب في ركن الدين وباقي المناطق واتفقنا أنْ نكون في ساحة الأمويّين.. ولكنْ في اليوم الثاني 13 آذار تفاجئنا بقوات الأمن على مدخل زورآفا، وعند الدرج في مشروع دمر، وأيضاً في ركن الدين.. هنا عرفتُ أنّنا مخترقون..؟.

ما إنْ نزلنا إلى الشارع العام في زورآفا حتى بدأتِ المظاهرة تكبر وتكبر.. توجّهت إلى ركن الدين وهناك شاهدتُ سياراتٍ عسكريةً عند أفران ابن العميد إلى جسر النحاس.. حيث بدء حصارها بعد الظهر، وقد حاولت الدخول ولم أتمكّن..

خرجتِ المظاهرة ووصلت إلى جسر الربوة وكان من المفترض أنْ ينضمّ إليها شباب الجامعة، ولكنْ علمنا أنّهم محاصرون وهناك أيضاً مقاومةٌ من قبل شبابنا في الجامعة..

بعد الجسر كانت قوات الأمن والجيش ينتظرون، وكان هناك هيثم المالح، الذي اتّجه نحونا، وقال: يا شباب عودوا وسيكون لكم ما تريدون..

تمّ قطع طريق بيروت- دمشق القديم، وبالفعل عدنا على أساس وقف القتل في قامشلو، ولم نكن وحدنا هناك في زورآفا؛ لأنّنا نزلنا إلى الشارع صباحاً ووجدنا غيرنا أيضاً مستعدين وكأنّهم ينتظرون من يبدأ..

لا يمكن أنْ أنسى الشهيد عبد الكريم محمود أبو يلماز، الذي سيبقى رمزاً للنضال وقد كان موجوداً وبعض المعروفين بانّهم ينتمون إلى الحركة الكردية.

ربّما لا أكون بطل هذه التجربة، ولكنْ يمكن أنْ أكون أبرز المطلوبين للنظام في تلك الأيام، والبركة بالمخبرين وأيضاً الذين تمّ الحكم عليهم رووا لي: كنّا نظنّ أنّكَ استشهدت.. وأخبرني دلكش وجوان أيضاً بأنّ المحقّق أخبرهم: أنتم تحت التعذيب بينما خوندكار يتجوّل بسيّارته في دمشق..!.

جرى التخطيط لإلقاء القبض على زوجتي وأمّي عن طريق مديرة مدرسة سمير نحاس؛ للضغط عليّ لأسلّم نفسي ويكتمل عندهم عدد كلّ الذين فعلوا هذه الفعلة ضدّ الدولة، وتمّ خطف أمّي وسيدةٍ أخرى تدعى (ميركل) من المدرسة في مشروع دمر (ظنّوا أنّها زوجتي)، وتمّ إطلاق سراحها بنفس الليلة بعد أنْ تأكّدوا أنّها ليست زوجتي.. وهي التي أخبرتْ زوجتي بعدم الخروج أبداً من المنزل، وفي يوم 7 نيسان تمّ إطلاق سراح أمّي أيضاً..

تقول أمّي: كنتُ في السجن وحدي في اليوم الأول ولم يتكلّم معي أحدٌ.. في اليوم الثاني سألوني عن الشباب الذين كنتُ أزغرد لهم وأحرّضهم ضدّ الدولة.. وأنّني قمتُ بإعطائهم الأقمشة؛ ليغطّوا وجوههم ويهاجموا قوات الأمن وفي نهاية المطاف سألوني: أين خوندكار..؟.

أمّي كانت تعلم أنّني متوجّهٌ في ذلك اليوم إلى السويداء؛ فأخبرتْهم أنّني موجودٌ في حماة..!.

وهنا بدأت مسرحياتهم في ممارسة الضغط النفسي عليها.. لم يتكلّموا معها وجهاً لوجهٍ، بل من خلف الباب، كان شخصان يتكلمان وأمّي تسمع من خلف الباب.. يقولان: لاحقت دوريةٌ سيارة خوندكار على طريق حماة، ولم يتوقّف، فأطلقت الشرطة النار عليها وتمّ القبض عليه.

هنا أمّي -وبسبب مشاعر الأمومة- نسيتْ أنّها لم تقلْ لهم الحقيقة، وهي أنّني كنتُ في السويداء..!؛ فانهارتِ المسكينة، وقالتْ: قلتُ سيقتلوه..!.

المسرحية الثانية كانت عندما أسمعوها صوت رجلٍ يشبه صوت أبي وهو تحت التعذيب.. وأيضاً أنّهم اعتقلوا أختي دارين وحلقوا شعرها على الصفر، وأنّها ماتت تحت التعذيب.

أمّي انهارت، ولكنّها كردستانيةٌ قوية وبطلة.. قالت: قلتُ لنفسي: إنّها ليلى قاسم، أنا أمّها أنا أم الشهداء، وقالت: في تلك الليلة التي أخبروني فيها أنّهم اعتقلوكَ.. عرفتُ أنّهم يكذبون؛ لأنّني أعلم أنكَ كنتَ في السويداء، ولكنّ صوت أبيكَ تحت التعذيب، وصرخات دارين وموتها أبكاني كثيراً كثيراً..

وفي يوم 7 نيسان نفس الأشخاص عند الباب يتكلّمون أنّ الدولة ستطلق سراح حمدية حسن؛ بسبب جنازة ابنتها دارين.. استأجروا لها سيارة واطلقوا سراحها.. وهي تقول في نفسها: بالتأكيد حين أصل إلى المنزل سيكون هناك الكثير من الناس ينتظرون جنازة الشهيدة.. وقالت: سأزغرد حتّى دفنها.. هذا يوم عرسها شهيدة كردستان.

وقالت عندما دخلت السيارة حارتنا لم تجد أحداً، وظنّت أنّها تأخّرت.. وعندما وصلت إلى درج البيت، نزلتْ من السيارة وهي بتلك الحالة وهمّت بالصعود؛ لأنّها لا تملك أجرة التكسي؛ فوجدتْ أختي دارين تنزل.. وهنا انهارت أمّي وأصابها انهيارٌ عصبيٌّ تعاني منه إلى الآن..

وتمّ طلب صديقي المرحوم الدكتور نوري كالي، وأشرف على حالتها لعدة أيامٍ، وبعد أنْ تحسّنت قليلاً أرسلتهم جميعاً مع زوجتي وأولادي وإخوتي إلى قامشلو..

وعن نفسي من تاريخ 13 آذار 2004م حتى نهاية العام لم أدخل زورآفا واستأجرتُ بيتاً في ركن الدين.. وأين..؟ فوق بيت المساعد الحمصي أبو عبدو الذي كان يبحث عنّي..!! وكنتُ أسكن في الشقة التي فوقه، وهو يعرفني باسم (أبو خالد)، وذات مرةٍ سألني: جار شو اسمك..؟، فأخبرتُه أنا معشوق كلش، حيث استخرجتُ لنفسي شهادة تعريفٍ باسم معشوق كلش من أحد مخاتير ضواحي دمشق، وكنتُ أتحرّك بموجبها حتى خروجي من سوريا.

حيّ ركن الدين.. تمّ حصاره أيضاً والدولة كانت تخاف منه، ولكنّه لم يشارك ومن شارك من أهل ركن الدين اتجه نحو زورآفا..

من عائلتي تمّ اعتقال أمّي وأخي دلدار وصهري أكرم وإخوته.. الذين تمّ الحكم عليهم 9 منهم من أعضاء فرقة أرخوان التي أسّسناها أنا وأخي دجوار ومحمد زاكر فرمان وجوان خالد، وبعدها استولى عليها حزب بكيتي بمباركتنا من شدّة إخلاصنا.. وفي ذلك الوقت كنتُ أنا وكلّ الشباب معي ننام في الدويلعة، في بيتٍ قمتُ باستئجاره وأسميناه (وكر الأبطال).

كان الأمن يأتي ويدقّ باب المعمل، ولكنّني كنت ركبتُ له قفلاً مع جنزيرٍ خارجيٍّ وقفلٍ مخفيٍّ من الداخل، وكتبتُ ورقةً على الباب أنّ ملبوسات سلاف انتقلت إلى حرستا..

كنّا في بعض الأحيان نأتي باكراً أنا والعمال قبل السابعة صباحاً ونذهب متأخرين، ومن كان يدقّ الباب الخارجيّ لا نفتح له ولا نصدر أيّ صوتٍ، حيث إنّ للمعمل 3 أبواب وعلى الباب الرئيسيّ كنّا كتبنا أنّنا انتقلنا إلى حرستا. 

في أحد الأيام استوقفتني جارتي العجوز التي تسكن فوق المعمل، وقامت بحضني، وقالت: (أنا كرديةٌ يا أمي وبعرف أنكن هون وعم شوف الأمن.. أنا كلّ يوم رح أطبخلكون ونزل الأكل ألكون.. بعرف نحن شعب مظلوم)، طبعاً السيدة كانت من كرد دمشق ولا تتكلّم الكردية..

مررنا بأوقاتٍ صعبةٍ جداً جداً حتّى إنّ الأرض وكلّ الدنيا كانت ضدّنا.. كنتُ فرداً من هذه الأمة يعيش في دمشق، ساعدتُ الكثيرين وساعدتُ عائلات المعتقلين، وفعلتُ كلّ شيءٍ.. ولكنّني كنتُ مثل غيري لا أكثر.. نعم كانت لي اتصالاتٌ مع الجميع، لكنْ هناك من ضحّى أكثر مني..

أفتخر أنّني عشتُ أياماً بطوليةً.. قدّمت كلّ، ما أملك لأجل قضيتي، وعايشتُ أبطالاً كتبوا أسماءهم بحروفٍ من ذهبٍ سيخلّدها قلمكم .. ومجدداً أقول: أنا لستُ بطل تلك المرحلة وكلّ ما قدّمته رخيصٌ لأجل القضية الكردية..

* ناشط  سياسي مقيم في سويسرا

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

م.اياز خلف في زيارة تحمل رمزية عالية، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية مجددًا كمحطته الخارجية الأولى في ولايته الثانية، في مشهد يعيد إلى الأذهان زيارته الأولى عام 2017. هذه الخطوة ليست بروتوكولية فحسب، بل تشير إلى أن الرياض ما تزال مركز ثقل إقليمي لا يمكن تجاهله، خصوصًا في الملفات الحساسة والمتشابكة، وعلى رأسها الملف السوري. تأتي زيارة ترامب في…

صالح بوزان ـ دادالي ما إن تنفس الشعب السوري الصعداء بكافة أطيافه ومكوناته وتياراته يوم ٨ كانون الأول من العام ٢٠٢٤ بسقوط نظام البعث في سوريا وهروب رأس النظام بشار الأسد ، إلا أنه وبعد أيام معدودة من سيطرة الجهاديين المنضوين تحت لواء هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، بقيادة أبو محمد الجولاني ( أحمد الشرع )، وانتشار تلك…

يتابع المجلس الوطني الكردي باهتمام بالغ التطورات الأخيرة المتعلقة بإعلان حزب العمال الكردستاني، في مؤتمره الأخير، وقف العمل المسلح وحلّ الحزب، استجابةً لدعوة زعيمه السيد عبدالله أوجلان. ويعتبر المجلس أن هذه الخطوة تمثل تحولاً سياسياً مهماً وإيجابياً من شأنه الإسهام في تعزيز فرص السلام والاستقرار في تركيا والمنطقة عموماً. وإذ يثمّن المجلس الوطني الكردي هذا التوجه نحو المسار السلمي، فإنه…

فواز عبدي   حسب ما قرأت فإن ما حدث في بحيرة ميدانكي بريف عفرين لا يمكن اختزاله فقط في نفوق الأسماك أو انبعاث روائح كيميائية غريبة من الماء. إننا أمام جريمة متكاملة الأركان، تُرتكب عن سابق إصرار وتصميم، في منطقة أنهكتها الحرب، ولم تَسلم حتى مواردها الطبيعية من وحشية الإنسان. إن تسميم المياه ليس فقط خرقاً بيئياً أو تهديداً للصحة…