رضوان سيدو*
بدأت، بعد انتفاضة 12 آذار، الأجهزة الأمنية بعملية اعتقالاتٍ واسعةٍ، حيث اعتقلت بالمئات من الشباب، الذين تمّ إطلاق سراح العديد منهم، بينما بقي العشرات منهم قيد الاعتقال، وقد استخدم الأمن مختلف أساليب التعذيب بحقّهم، وأخذ منهم اعترافاتٍ تحت التعذيب، وكانت الاعتقالات من دون مذكّرات توقيفٍ من المحكمة، وكانت هذه الاعتقالات بطرقٍ غير قانونيةٍ، وعندما لاحظنا ازدياد أعداد المعتقلين، قمنا نحن المحامين بتشكيل لجنةٍ، وفي ذلك الوقت قام كلّ حزبٍ بتقديم محامين من طرفه، وسمّيت هذه اللجنة: (لجنة الدفاع عن المعتقلين)، وكانتِ جميع الأحزاب الكردية وقتها تعمل تحت اسم: مجموعة الأحزاب الكردية، وجميع المحامين كانوا متطوّعين من دون أيّ مقابلٍ مادّيٍّ، كنّا فريقاً متفاهماً نعمل مع بعضنا وكنّا جميعاً ندرك بأنّ الحمل ثقيلٌ، ورغم ذلك دافعنا بإرادةٍ وتفاهمٍ ومعنوياتٍ عاليةٍ عن قضية المعتقلين الشباب الكرد.
بعد ذلك قمنا بترتيب أمورنا ووضعنا خطّةً للعمل، حيث كان لنا نحن لجنة المحامين في كلّ أسبوعٍ اجتماعٌ على الأقلّ، وفي حال وجود وضعٍ أو عملٍ استثنائيٍّ كنّا نجتمع أيضاً.
في البداية وعندما تم تحويل المعتقلين إلى سجن صيدنايا، وانتقال ملفّاتهم إلى محكمة الجنايات العسكرية في دمشق، وتمّ تكليف مجموعةٍ من المحامين للذهاب إلى دمشق، وأنا كنتُ ضمن هؤلاء الذين ذهبوا إلى دمشق، لكنّ الذاكرة لا تسعفني الآن لأذكر أسماءهم خشية ألا أنسى أحداً منهم.. المهمّ قمنا بتنظيم وكالاتنا وكتبنا ورقة إذنٍ للذهاب إلى سجن صيدنايا العسكريّ، وقمنا بزيارة معتقلينا الكرد، والتقينا عدداً من المعتقلين وكان من ضمنهم اثنان من أصدقائنا المحامين؛ لأنّنا أردنا في زيارتنا الأولى أنْ نفهم منهما بعض التفاصيل لنقرّر من أين نبدأ بالعمل ونتفق على الخطوة الأولى وهما الأستاذ سليمان إسماعيل من الدرباسية والأستاذ لقمان أيانة من رأس العين، وبالفعل زرنا المعتقلين والتقينا بهم، في هذه الزيارة لم تلتزم إدارة السجن بالقوانين وكان اللقاء في غرفةٍ تحت مراقبتهم ولم يسمحوا لنا بالتحدّث باللغة الكردية حتى لا نأخذ راحتنا في الحديث، فمن قوانين مهنة المحاماة، ومن المفروض هو جلوس المحامي مع موكّله في غرفةٍ وحدهما حتى يتمكّنا من الحديث بحرّيّةٍ.. لكنّهم لم يتقيّدوا ولم يلتزموا بالقوانين وبدل أنْ نقاطع المحكمة على هذا التصرف؛ التزمنا الصمت وقلنا: المهمّ أنْ نتعرّف أوضاع المعتقلين وأحوالهم، ونخلق لديهم شيئاً من التفاؤل حتى يعرفوا أنّنا لم نتخلَّ عنهم ونحن هنا للدفاع عنهم، نحن المحامين تحمّلنا إجراءاتهم الغير القانونية حتى نحقّق هدفنا.
وبعد أنْ التقينا بمعتقلينا وشرحنا لهم الوضع وشرحوا لنا أوضاعهم ارتفعتْ معنوياتهم كثيراً ولاسيّما أنّ رؤيتهم لنا كانت بعد عدّة شهور من اعتقالهم.
بعد ذلك توجّهنا إلى المحكمة ونحن نحمل وكالاتنا وملفّاتنا، وكانت التّهم الموجّهة لهم: التّجمّع بصدد الشغب، وإثارة الشغب، وإثارة النّعرات الطائفية، ومنع السلطات من ممارسة وظائفها والحرق قصداً، كانت تلك التهم الموجّهة لهم بشكلٍ عامٍّ.
كان المعتقلون من جميع المناطق، فقمنا بتوزيع الملفّات على بعضنا، أيّ كلّ ملفٍّ لمعتقلي منطقةٍ معيّنةٍ
استلمه محاميان أو أكثر، مثلاً، أنا ومحاميةٌ أخرى استلمنا ملفّ معتقلي عامودا، وهكذا، وبالفعل كانت الملفّات كثيرةً وكان العمل متعباً وكثيراً.
في فترة وجودنا في دمشق كان هناك محاميان من الواجب ذكر أسمائهم؛ لنشكرهم على موقفهما الوطنيّ، وهما الأستاذ أنور البنّيّ وكان مكتبه مفتوحاً لنا دائماً وكنّا نعمل فيه، وكذلك الأستاذ خليل معتوق الذي كان معنا منذ البداية، والآن هو معتقلٌ ونرجو من الله أنْ يفرج عنه عمّا قريبٍ وأنْ يعود بالسلامة إلى أهله وعائلته.
لم نتمكّن كالمحامين من البقاء في دمشق بشكلٍ مستمرٍّ، فقد كنا نذهب يوماً أو يومين في الأسبوع، وكان للأستاذين المذكورين آنفاً فضلٌ كبيرٌ لما بذلاه من جهودٍ كبيرةٍ من أجل قضية معتقلينا، إنّ موقف هذين المحاميين محلُّ تقديرٍ واحترامٍ لدى الشعب الكرديّ، وكان لهما أيادٍ بيضاء في الدفاع عن المعتقلين وفي عملهم، وقبلها أيضاً كان لنا معتقلون سياسيّون وكذلك لم يقصروا.. ويستحقّون الشكر الذي نرفعه لهما باسم المحامين الكرد وجميع معتقلينا والشعب الكرديّ.
طبعاً تمّ تحويل المعتقلين إلى المحكمة العسكرية، ولا بدّ لنا هنا من قول الصدق، فقد قامت المحكمة بتطبيق الإجراءات القانونية، ولكنْ كنّا نعلم أنّ المسألة لها وضعٌ سياسيٌّ، وليس بيدهم ولكنّهم كانوا يطبقون الإجراءات القانونية؛ ففي كلّ جلسةٍ كان يتواجد ممثّلين عن منظمّات حقوق الإنسان وكانوا يحضرون بشكلٍ سرّيٍّ ولم يصرّحوا هم عن ذلك، وكان هناك أشخاصٌ من قبل بعض المحامين أو أشخاصٍ غير معلنةٍ يحضرون الجلسات.. وكذلك تواجدَ ممثّلون عن سفاراتٍ وقنصلياتٍ أوروبيةٍ وعن الاتحاد الأوروبيّ أيضاً..
استمرّ اعتقال شبابنا حوالي سنة، وبتاريخ 31 من الشهر الثالث عام 2005م تمّ إطلاق سراحهم بموجب قرارٍ صادرٍ عن وزير الدفاع (1129)، هناك وضعٌ آخر، بعد إطلاق سراحهم، كانت هناك ملفّات الأحداث الجانحين وكانت تتمّ محاكمتهم من قبل محكمة جنايات الأحداث في محافظة الحسكة، وهم الذين لم تتجاوز أعمارهم 18 عاماً، وتمّت محاكمتهم وبتعويضٍ ماليٍّ كبيرٍ مقابل الأضرار التي ألحقوها بدوائر ومؤسسات الدولة، وهذا الحكم لم يتمّ تنفيذه؛ لأنّه وفي كلّ مؤتمرٍ للمحامين كنّا نقوم بمداخلة مفادها غلق هذا الملف، وفي ذاك الوقت كان لدينا في مدينة الحسكة فريقٌ من المحامين، جهودهم مشكورة، وهم من تولّوا أمر هذه الملفات.
في تلك اللحظة وعندما كنّا ندافع عن معتقلي 2004م كنّا نشعر بأنّنا كمحامين من الكرد ندافع عن من ناضلوا في سبيل القضية الكردية؛ لأنّ سبب اعتقالهم كان في سبيل استعادة الحقوق الكردية وضدّ الظلم والقهر والاضطهاد، وكان شعورنا بالمسؤولية عالياً، وعندما قررت دراسة الحقوق وامتهان المحاماة كان ذلك من أجل أنْ أدافع عن شعبي وحقوقه المسلوبة والدفاع عن كلّ مناضلٍ اعتُقل في سبيل قضيته.
في طريقنا إلى دمشق وصلنا خبرٌ عن إطلاق سراح المعتقلين، وصلنا إلى دمشق وعُدنا في نفس الليلة إلى الحسكة، ومن ثمّ توجّهت إلى عامودا حيث كان الأهالي في استقبال أبنائهم وعندما وصلتُ إلى هناك، قام الأهالي بحملي على أكتافهم، هنا شعرت بالفخر والاعتزاز؛ لأنّني قمتُ بشيءٍ لم أكنْ أتوقّعه، وما لقيتُه من حفاوة الاستقبال من قبل الأهالي أعتبره أكبر رصيدٍ لي.
* محام وسياسي وكاتب