كتاب «من أسقط التمثال؟- شهادات وحوارات في انتفاضة آذار الكردية 2004 » الحلقة الثامنة عشرة (فارس عثمان*)

انتفاضة قامشلو بعد عقدين

يعدّ الحراك الجماهيريّ الكرديّ في سوريا، والذي يطلق عليه قسمٌ كبيرٌ من الشعب الكرديّ في سوريا وخارجها تسمية: انتفاضة 12 آذار 2004م، من أهمّ ما قام به الكرد في  سوريا منذ تأسيس الدولة السّوريّة الحديثة، رغم أنّ الكرد شاركوا في الكثير من الحركات الوطنية ضدّ الاحتلال الفرنسيّ كحركة (ثورة) إبراهيم هنانو التي تسمى بـ ثورة الشمال عام (1919م-1921م)، وانتفاضة بياندور في الجزيرة السّوريّة عام 1923م، أو المشاركة المميّزة في الثورة السُّوريّة الكبرى (1925م-1927م)، وكذلك انتفاضة عامودا المسلّحة (Toşa Amûdê) عام 1937م، وحركة المريدين في عفرين 1938م، وبعد الاستقلال وخلال الحكم الوطنيّ قاموا بانتفاضة عليّ فرو عام 1967م ضدّ مشروع الحزام العربيّ، وقد كانت معظم هذه الحركات مناطقيةً ومحدودةً إلا أنّ انتفاضة قامشلو التي قامت في 12 آذار عام 2004م في مدينة قامشلو عمّت كافّة المناطق الكردية في سوريا (الجزيرة، كوباني، عفرين)، وامتدّت إلى التجمعات الكردية في دمشق وحلب وجامعات بعض المدن الأخرى؛ لذلك تختلف عن كلّ الحركات والانتفاضات السابقة.

سعت الحركة الكردية في سوريا ومنذ نشوئها من أجل تجاوز الحواجز النفسية التي تعزل القضية الكردية عن محيطها الوطني، تلك الحواجز التي تأسست على خلفية الصورة المشوّهة التي رسمتها الجهات الشوفينية لهذه القضية الوطنية في ذهنيّة الوسط العربيّ على أنّها قضيةٌ انفصاليةٌ تهدف إلى تشكيل إسرائيل ثانية، وبأنّ الشعب الكرديّ يهدّد وحدة البلاد بالتقسيم، وأنّ حركته السياسية عميلةٌ للاستعمار والصهيونية، إلى آخر هذه الأضاليل التي تحرّض الوسط العربيّ على الشعب الكرديّ وتؤلّبه عليه.

 وفي هذا الاتجاه استطاعت الحركة الكردية ومنذ تأسيسها عام 1957م أنْ تفتح قنواتٍ مهمةً للتواصل مع الوسط العربيّ، ونجحت في تصحيح تلك الصورة المشوّهة عن قضيّتها القومية، ودحض تلك الاتهامات والأضاليل بالممارسة العملية وعبر التواصل الدؤوب مع هذا الوسط على ضوء برامجها السياسية التي تؤكّد على أنّ القضيّة الكرديّة في سوريا هي قضيةٌ وطنيةٌ بامتيازٍ، وأنّ حلّها مرتبطٌ بحلّ مسألة الديمقراطية في البلاد، وتراهن في نضالها السلمي على القوى الوطنية الديمقراطية، الأمر الذي أكسبها دائرةً لا يستهان بها من الحلفاء والأصدقاء في الوسط العربيّ، الذين بادروا إلى تفهّم مطالب الشعب الكرديّ ومعاناته وطالبوا بإلغاء الغبن ومظاهر التفرقة والتمييز بحقّه، وتحقيق مطالبه القومية العادلة، الأمر الذي فضح المشاريع والسياسات العنصرية المطبّقة بحقّ الكرد، وسحب البساط من تحت أقدام منظّريها.

 ومن هنا فإنّ ما حدث في ملعب قامشلي وما تلاه من أحداثٍ مأساويةٍ كانت كارثةً حقيقيةً حلّت ببلدنا وشعبنا، استهدف مفتعلوها وحدتنا الوطنية وحالة التعايش السلميّ والأخويّ بين مختلف فئات وشرائح المجتمع السُّوريّ.. ولولا الحسّ الوطنيّ العالي للحركة الكردية والقوى الوطنية الخيّرة التي ساهمت في تطويق الأحداث لربّما اتّخذت الأمور منحىً آخر أخطر بكثيرٍ ممّا جرى.

من المفيد التوقف قليلاً عند ما جرى، فقد بدأت الفتنة التي أثارها مشجّعو فريق الفتوة والتي كان واضحاً بأنّها مبيتةٌ، فقد أطلقوا هتافاتٍ وشعاراتٍ سياسيةً استفزازيةً مسّت صميم مشاعر وأحاسيس جمهور مدينة قامشلي، ولم يكن لتلك الهتافات أيّة صلةٍ بالرياضة أو بالروح الرياضية، ورغم أنّه كان من الواضح أنّ جمهور فريق الفتوة كان يبدو مصمِّماً منذ البداية على افتعال مشكلةٍ ما، إلا أنّ السلطات لم تعمل على إلغاء المباراة أو تأجيلها، بل ولم تتدخّل لوقف المشاجرات التي كان جمهور الفتوة قد استعدّ لها، لا بل بادرت إلى إطلاق الرصاص باتجاه جمهور قامشلي الأمر الذي أدّى إلى سقوط القتلى والجرحى.

وكان من الطبيعيّ والمتوقّع أنْ تتحوّل مواكب الجنازات السلمية في اليوم التالي إلى مسيرات احتجاجٍ، وأنْ تتعامل معها السلطات المختلفة في قامشلي بروح المسؤولية والوطنية، والسماح بدفن الشهداء بمراسمَ تليق بهم.

لا نستطيع الجزم حتى الآن وبالأدلة على أنّ الجريمة أو الأحداث التي سبقت المباراة بين فريقي الفتوة من دير الزور مع عددٍ كبير من مشجّعيه (المعروفين في الوسط الرياضيّ- وحتى الجماهيريّ بالتّعصّب الأعمى لفريقهم)، وبين نادي الجهاد من قامشلي (الذي كان يسمّى: (بعبع الشمال)، والذي كان يلعب في أرضه وبين جمهوره، قد خطّط لها على أعلى المستويات؛ لأنّ الأجواء كانت مشحونةً قبل المباراة، فالغالبية العظمى من جمهور نادي الفتوة كان متعاطفاً مع صدام حسين، ومستاءً من سقوط نظامه في 9 نيسان 2003م، وكان يحمّل القيادات الكردية مسؤوليّة هذا السقوط، ورفعوا شعاراتٍ معاديةً للكُرد وصوراً للرئيس العراقيّ المخلوع صدام حسين بهدف استفزاز مشاعر الكرد والمساس بالوحدة الوطنية، بينما كانت شريحةٌ كبيرةٌ، لا بل كبيرةٌ جداً من جمهور نادي الجهاد من الكرد فَرِحاً بسقوط نظام صدّام حسين، وفي النفوس ذكريات مجزرة حلبجة والأنفال، ممّا أدّى إلى حدوث حالةٍ من الفوضى والغليان على أرض الملعب البلديّ في مدينة قامشلي قبل بدء المباراة بين الفريقين.

 في هذه الأجواء المشحونة سياسياً جرت مباراة الدوري السّوريّ بين ناديي الفتوة والجهاد في الثاني عشر من شهر آذار 2004م، وتخلّلَ المباراة أحداث شغبٍ وهتافاتٌ كان يمكن لها أنْ تمرّ مثل سواها من مئات حوادث الشغب في ملاعب كرة القدم، لولا تدخّل الأجهزة الأمنية وعناصر حفظ النظام بشكلٍ فظٍّ وسلبيٍّ، وبدلاً من تهدئة الأمور وحفظ الأمن تدخّلت بشكلٍ عنيفٍ ضدّ جمهور نادي الجهاد، وكما ذكرنا كانت غالبيتهم من الكرد، واستخدمت الهراوات، ثم الرصاص الحيّ ربما لتلقين الكرد درساً بأنّ ما جرى في العراق لن يتكرّر في سوريا، وساهم مذيع إذاعة دمشق وهو (خليل أقطيني) الذي كان يعلّق على المباراة وكان معروفاً بشوفينيّته، والذي ذكر من باب تضخيم الحدث وتهويله في الإعلام السّوريّ المسيّس أصلاً، وذكر خلال الاتصال مع برنامج “ملاعبنا الخضراء” في الإذاعة السوريّة نبأ توقُّف المباراة بين فريقي الجهاد والفتوَّة، نتيجة الاشتباكات بين جمهور الفريقين.. وأضاف أنّ ثلاثة أطفالٍ قتلوا دهساً تحت الأقدام، وكان لهذا الخبر أثره البالغ في غليان المدينة.

وقد سقط أثناء إطلاق النار بشكلٍ متعمّدٍ بشهادة بعض شهود العيان ستة شهداء في محيط الملعب، ورغم بعض أعمال الشغب والاحتقان هدأت الأمور، وفي اليوم التالي؛ أيْ يوم السبت 13 آذار 2004م، خرج عشرات الآلاف من أبناء المدينة لتشييع الشهداء الذين سقطوا إلى مقبرة قدور بك، وخلال التظاهرة العفوية بدأ الشبان بترديد الهتافات القومية وتطالب بالقصاص من القتلة، وبعد أنْ اجتاز المتظاهرون شارع مقبرة قدور بك بقليلٍ، قامت أجهزة الأمن والشرطة بإطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين العُزّل، وقد استشهد عددٌ آخر منهم، وعندما انتشر خبر سقوط الشهداء عمّت المظاهرات كافّة المدن والبلدات الكردية في الجزيرة وكوباني وعفرين وفي الأحياء والتّجمّعات الكرديّة في دمشق وحلب.

وقد تعاملت السلطات في كافة المناطق بشكلٍ وحشيٍّ مع المتظاهرين مستخدمةً الرصاص الحيّ؛ لتفريق المظاهرات العفوية التي تخلّلها إضرام النار في بعض المؤسسات الحكومية، وقد وصل عدد الشهداء إلى 36 شهيداً سقطوا خلال تلك المظاهرات، كما عمّت المظاهرات الكردية عدداً كبيراً من  المدن الأوروبية، وهاجم بعض الشبّان الكرد عدداً من السفارات والقنصليّات السّوريّة فيها، وأدّى ذلك إلى اهتمام وسائل الإعلام العالمية والعربية بالقضية الكردية في سوريا، وحول أعمال الشغب وحرق بعض مؤسسات الدولة لا بدّ من الإشارة إلى لجوء بعض الأوساط الشوفينية إلى أساليبها المعهودة؛ لتأجيج الحدث عبر اختلاق حوادث وجرائم، ومن ثمّ محاولة لصق تهمة اقتراف هذه الجرائم بالكرد، فتهمة الكرديّ جاهزةٌ دوماً، وللدلالة على ذلك نذكر بعض الحوادث التي تؤكّد هذه الحقيقة:

1 – جرت محاولةٌ لإحراق خزانات الوقود في (سادكوب) الحسكة من قبل شخصين، وبعد ملاحقتهما والقبض عليهما، تبيّن أنّهما من غير الكرد وهما

مُحرَّضان للقيام بهذه الجريمة لتوجيه التهمة إلى الأكراد.

2 – أقدمت مجموعةٌ من الشباب على تحطيم سيارة مدير بريد ناحية تربه سبي (القحطانية)، وإثر القبض عليهم بالجرم المشهود وتنظيم ضبطٍ رسميٍّ بحقّهم تبيّن أنّهم ليسوا أكراداً..

3 – تقدّم موظّفٌ في المصرف الزراعيّ بديريك (المالكية) بادّعاء أنّ عدداً من الذين يتكلّمون لغةً (لم يفهمها حسب زعمه) أقدموا على نهب مبيداتٍ وأدويةٍ زراعيةٍ (غالية الثمن)… وبعد التحقيق الذي أشرف عليه السيد مدير منطقة ديريك مع هذا المدّعي تبيّن أنّ هذا الموظّف هو الذي دبّر هذه اللعبة.. وقد اعترف رسميّاً بذلك.

4- في محطة القطار بقامشلي، وحسب ما ورد في التقرير الرسمي لإدارة المحطة بأنّ جموعاً من مرافقي فريق الفتوة طلبت بإلحاحٍ من مدير المحطة تسيير قطار الركاب بناءً على رغبتهم (بعد إشعالهم للفتنة وهروعهم إلى المحطة للعودة الى دير الزور)، ولأنّ المدير أوضح لهم بأنّه لا يستطيع تسيير قطارٍ بمن دون أمر حركةٍ نظاميٍّ، لجأوا إلى تحطيم وتخريب منشآت المحطّة، وطبعاً تمّ لصق التّهمة بالأكراد  أيضاً.

5- هناك حوادث وشواهد أخرى عديدة يمكن إيرادها.. ففي قامشلي والحسكة وسري كانيه (رأس العين) أقدمت مجموعاتٌ مسلّحةٌ على نهب وسلب المحالّ التجارية العائدة للأكراد في وضح النهار وتحت الأنظار، لم تتطرّق لذكرها وسائل الإعلام، بل صوّرت الأمر وكأنّ السلب والنهب كان من فعل الأكراد.

6- كما رافقت هذه الحملة محاولاتٌ متعمّدةٌ لإثارة الأحقاد بين العرب والكرد، وجرى تأليب السكان العرب، وتسليح بعضٍ منهم حتى وصلت الأمور إلى حافة هاوية حربٍ أهليّةٍ وكلّ ذلك ما كان ممكناً لولا وجود النية..

وفور تفاقم الأمور وتأزّم الموقف اجتمعت أطراف الحركة السياسية الكردية، واتفقت على ضرورة تطويق الحراك، وتهدئة الأمور على الأرض؛ لتجنّب المزيد من العنف والقسوة تجاه الكرد، وبعد سلسلةٍ من اللقاءات مع السلطات السّوريّة تمّ تطويق الحدث رغم النتائج الكارثية التي نجمت عنها الأحداث، وقد أصدرت أكثر من 20 بياناً تحت اسم مجموع الأحزاب الكردية في سوريا، طالبت فيها بـ تهدئة الأوضاع في البلاد، وتشكيل لجنةٍ محايدةٍ؛ لإجراء تحقيقٍ عادلٍ ونزيهٍ يفضي إلى كشف المسبّبين لهذه الأحداث ومحاسبتهم وفق القانون، وإطلاق سراح المعتقلين وإعادة الطلبة المفصولين إلى جامعاتهم وإلى المدن الجامعية… كما دعوا الرأي العام في البلاد إلى التكاتف وتضافر كافّة الجهود لإعادة الأمور إلى طبيعتها، وأشارت إلى أنّ الوطن للجميع ولا مصلحة لأحدٍ في زعزعة أمنه واستقراره، وأنّ الكرد كانوا على الدوام عامل استقرارٍ لهذا البلد.

كما دعوا جميع القوى الوطنية والديمقراطية والرأي العام السّوريّ؛ للوقوف إلى جانب معاناة الشعب الكرديّ، واعتبار القضية الكردية قضيته وقضيةً وطنيةً، وطالبوا السلطات المعنية للعمل على إلغاء سياسات التمييز والاضطهاد ورفع الغبن عن كاهل الشعب الكرديّ، ومساواته ببقية أبناء هذا البلد ومنحه حقوقه السياسية والثقافية والاجتماعية؛ لترسيخ دعائم الوحدة الوطنية.

ورغم أنّ الرئيس بشار الأسد وفي حوارٍ مع فضائية الجزيرة القطرية بتاريخ 1-5-2004م، أكّد أنّه (لم يثبت أيّ تدخّلٍ خارجيٍّ في أحداث قامشلي)، وأنّ (القومية الكردية جزءٌ أساسيٌّ من النسيج السّوريّ ومن التاريخ السّوريّ)، وأنّ (موضوع الجنسية هي قضية عمرها اثنان وأربعون عاماً وقانون الإحصاء كان فيه ثغراتٌ وهناك أشخاصٌ كانت تحقّ لهم ولم يعطوا هذه الجنسية)، وقد أصدرت الأحزاب الكردية تصريحاً مشتركاً باسم مجموع الأحزاب الكردية في سوريا ثمّنت فيه عالياً مواقف رئيس الجمهورية، فيما يلي نصّه:

(في حوارٍ مفتوحٍ مع قناة الجزيرة بتاريخ (1/5/2004م)، شمل مجمل الأوضاع العالمية والإقليمية والداخلية، تناول سيادة الدكتور بشار الأسد، رئيس الجمهورية، أحداث قامشلي وتداعياتها التي جرت في الثاني عشر من آذار المنصرم، وكذلك موضوع المواطنين الأكراد المجرّدين من الجنسية نتيجة الإحصاء الاستثنائي الذي أُجري في محافظة الحسكة عام 1962م، حيث أكّد سيادته على أنّ التحقيقات لم تثبت أيّ تدخّلٍ خارجيٍّ وبأنّها كانت نتيجةً لحالاتٍ انفعاليةٍ، وأكّد بأنّ موضوع منح الجنسية للمجرّدين منها بات في مراحله الأخيرة، كما أكّد أيضاً بأنّ القومية الكردية جزءٌ أساسيٌّ من النسيج السّوريّ ومن التاريخ السّوريّ… الأمر الذي شكّل ارتياحاً عاماً لدى عموم الشعب السّوريّ ولدى أبناء الشعب الكرديّ وحركته الوطنية.. ومن هنا فإنّنا في الحركة الوطنية الكردية في سوريا في الوقت الذي نثمّن عالياً هذه البادرة الإيجابية التي من شأنها أنْ تعزّز الوحدة الوطنية تجاه كلّ المخاطر والتحديات التي تواجهها بلادنا.. نأمل من سيادته الإيعاز بالإفراج عن كافّة المعتقلين على خلفية تلك الأحداث وإعادة الطلبة المفصولين من جامعاتهم ومعاهدهم وتعويض المتضررين، كما نتطلّع أنْ يؤسّس هذا الموقف لحلٍّ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ للمسألة الكردية في سوريا 4/5/2004م، مجموع الأحزاب الكردية في سوريا).

 والآن ونحن على عتبة العقد الثاني من هذه الانتفاضة العفوية التي قامت بشكلٍ عفويٍّ على شكل صرخةٍ مدويةٍ، ثم تحوّلت إلى انتفاضةٍ عفويةٍ، يتحدّث بعضٌ عن خطأ توقّفها وضرورة استمرارها، ويحملون الحركة السياسية الكردية مسؤولية منع استمرار المظاهرات، وضرورة استمرارها؛ لتحقيق الأهداف الكردية.

 لمناقشة هذا الطرح بموضوعية الآن، وبعد عشرين عاماً من التحليل والمناقشة، وخاصةً بعد (الحراك السّوريّ- الثورة السّوريّة- الأزمة السّوريّة- مهما كانت التسميات) رأينا كيف تعامل هذا النظام مع شعبه، باستخدام كافّة صنوف الأسلحة بما فيها الأسلحة المحرّمة الدولية، وكيف أدار ظهره للمجتمع الدوليّ، ورغم تشريد ونزوح وتهجير نصف شعبه بين الداخل والخارج، ومقتل وجرح وتشويه حوالي مليون إنسان، وتدمير نصف سوريا، لا يزال هذا النظام لا يعترف بأيّ شيءٍ، ولا يزال يردّد الخطاب الممجوج نفسه ويتحدّث عن المؤامرة الكونية.

بالعودة إلى دعوة بعضهم إلى استمرار الحراك الكرديّ، حيث دعا أحد سكرتيري الأحزاب الكردية إلى ضرورة استمرار الانتفاضة- هو كان يقول عن “الانتفاضة” الفتنة في بيانات حزبه، وبيانات مجموع الأحزاب الكردية في سوريا-، (ما الضير في مقتل مائة ألف كرديٍّ لتحقيق أهدافنا)، وكان هو أول من غادر البلاد مع أفراد أسرته خلال تلك الأيام.

هل نحن بحاجة اليوم إلى الرّدّ على هذا السؤال المهم، كيف كان سيتصرّف النظام الذي أرسل قائد الفرقة الرابعة ماهر الأسد وقادة الأجهزة الأمنية إلى قامشلي؛ لتدمير عامودا وقامشلي، عامودا أولاً؛ لأنّها حطّمت تمثال حافظ الأسد، وقامشلي؛ لأنّها كانت مركز القرار والثقل السياسيّ والجماهيريّ الكرديّ، باعتقادي الذي كان يردّد شعار (إذا ما تخرب، ما تتعمّر) كان يريد دفع الشعب الكرديّ إلى أتون حربٍ أو على الأقلّ كارثة مدمرة، خاصة وأنّ غالبية الشعب السّوريّ كان سيؤيّد الحكومة السّوريّة وأعمالها مهما كانت قاسيةً بذريعة أنّ الكرد عملاء ويريدون تأسيس إسرائيل ثانية (وهذا ما يقوله زعيم حزب الله اللبنانيّ حسن نصر الله ليلاً نهاراً اليوم).

أمّا عن ردّ فعل الشارع الكرديّ وتعاطفه مع الحراك، فقد كان في غاية الانضباط والالتزام بقرارات الحركة السياسية الكردية التي تجاوزت في تلك الفترة خلافاتها، واستشعرت الخطر المحدق بالكرد وبالوجود الكرديّ في سوريا، حيث دعت إلى التهدئة وضبط النفس، من دون التّخلّي عن المطالبة بالتحقيق العادل في القضية، وإطلاق سراح المعتقلين ورفع الغبن عن الكرد.

اليوم الشعب السّوريّ بكافة مكوّناته وفصائله السياسية والمدنية ليس بحاجةٍ إلى من يشرح له طبيعة وآلية وسلوك النظام السّوريّ، حيث لم يتغيّر هذا السلوك منذ عام 1963م وحتى اليوم، إذْ يرفض أيّة مشاركةٍ في الحكم، أو الإشارة إلى مكامن الخطأ في البلاد، أو نقد النظام ولو في حدّه الأدنى بنقد رئيس بلديةٍ أو مخفرٍ، لذلك لجأ ومنذ اللحظة الأولى للتحرك الشعبي في الملعب البلدي في المدينة (تصوروا اسمه ملعب السابع من نيسان بالإشارة إلى يوم تأسيس حزب البعث)، بينما يطلق عليه الأهالي اسم الملعب البلدي، منذ اللحظة الأولى استخدم العنف بإطلاق النار على الشبّان العُزّل، ومن ثمّ على المتظاهرين، واعتقال حوالي أربعة آلاف شخصٍ، وتعذيبهم بشكلٍ وحشيٍّ، حتى أنّ أحد الشباب مات تحت التعذيب ويدعى (فرهاد محمد)، وفصل العشرات من طلاب الجامعات والمعاهد، وإغلاق باب التوظيف بوجه الكرد، وكانت الطامة الكبرى إصدار المرسوم 49 باعتبار كلّ محافظة الحسكة منطقةً حدوديةً، ومنع بيع وشراء وتسجيل العقارات إلا بعد الحصول على موافقة وزارة الدفاع حصراً، ولم تكتفِ بذلك، بل قام بخلق الفتنة بين العرب والكرد، بتحريض بعض العشائر العربية ضدّ الكرد، والسماح لهم بمهاجمة أملاك الكرد في قامشلي والحسكة ونهبها وسرقتها في وضحِ النهار وبحراسة الأجهزة الأمنية حتى أنّ بعضاً من هؤلاء المهاجمين واللصوص أطلقوا على عملياتهم في كسر أبواب المحالّ التجارية وسرقة محتوياتها بـ (الغزو- غزوة قامشلي)، واعتبار أملاك الكرد (حلالاً) لهم وأنّ ما يقومون به هو غزوةٌ شرعيةٌ.

في تلك الفترة أيّ بداية العشرينيّات من هذا القرن كانت التغطية الإعلامية ضعيفةً، رغم وجود بعض القنوات الفضائية كالجزيرة والعربية وغيرهما إلا أنّها كانت تتجاهل الأحداث في سوريا بذريعة أنّها دولة (ممانعة)، وخاصةًّ أنّ النظام السّوريّ كان يؤيّد صدام حسين ونظامه علناً، حتى أنّ الرئيس السّوريّ بشار الأسد استقبل مبعوث صدام حسين إلى سوريا علي حسن المجيد (المعروف بعليّ الكيمياوي)؛ لأنّه هو الذي أعطى الأوامر المباشرة بقصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية.

وكان من حسن حظّ الكرد في تلك الفترة ظهور المواقع الإلكترونية، التي كانت تغطّي الحراك بشكلٍ جيدٍ، إلا أنّ تأثيرها في الإعلام الغربي والرأي العام سواءٌ الداخليّ أو الخارجيّ كان ضعيفاً.

أمّا القوى الكردستانية، وخاصةً في إقليم كردستان العراق، فقد كان تأثيرها معنوياً أكثر من أنْ يكون مباشراً، فرغم الكارثة التي حلّت بالشعب الكرديّ في سوريا، ورغم سقوط الشهداء وارتفاع أعداد المعتقلين والسجناء الكرد إلا أنّ الحكومة الكردية في إقليم كردستان العراق، لم تشكّل هيئةً حقوقيةً؛ لتوثيق الأحداث، ولا للدفاع عن المعتقلين، ولا لتعويض ذوي الشهداء، علماً أنّ جماهير دير الزور كانت تشتم الرموز الكردية في كردستان العراق وعلى وجهه الخصوص (الرئيس مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق، الرئيس مام جلال طالباني رئيس جمهورية العراق الاتحادية)، وقد حاول بعضٌ من الكرد السُّذَّج نشر الشائعات عن قرب دخول البيشمركة إلى المنطقة..

وخلافَ الموقف الكردستاني؛ فإنّ موقف الفعاليات الكردية في الدول الأوروبية وخاصة الكردية السّوريّة كان مشرّفاً، حيث كانت تقوم بالمظاهرات والاعتصامات أمام السفارات والقنصليات السّوريّة، وأمام مقرّات الحكومات الأوروبية، وتطالب بالتدخل لوضع حدٍّ لمعاناة الكرد في سوريا، وأرسلت الأدوية والأجهزة الطبية؛ لمعالجة الجرحى، كما أرسلت الأموال إلى ذوي الشهداء وللجرحى والمعتقلين بشكلٍ جماعيٍّ من خلال المؤسسات الكردية في أوروبا، أو بشكلٍ فرديٍّ.

باعتقادي كانت (الانتفاضة) درساً سياسيّاً كبيراً للكرد وللحركة السياسيّة الكردية في سوريا، تمثّلت أولاً: في التضامن الشعبيّ الكبير، فقد شاركت كافّة الشرائح في الحراك، وثانياً: وحدة الصّفّ السياسيّ الكرديّ في سوريا، وأدّى ذلك إلى تسليط الضوء على القضية الكرديّة في سوريا.

واليوم وبعد عشرين عاماً على انطلاقتها أولاً: المجد والخلود للشهداء، والشفاء للجرحى وبعضهم لا يزال يحمل جراحاته وندوبه حتى اليوم، كما يجب التشديد على المطالبة بتعويض المتضررين بشكلٍ عادلٍ، أمّا سياسياً وخاصة في الوسطين الثقافي والسياسي، لا بدّ من توثيق الحدث بشكلٍ دقيقٍ وعلميٍّ بعيداً عن التضخيم والتهويل، ومناقشة الأمر بشكلٍ موضوعيٍّ؛ لاستيعاب الدروس منها.

وفي الختام كلّ الشكر والتحية للأستاذ إبراهيم محمود الذي شرفني بالمشاركة من خلال هذا العمل النبيل بتوثيق وتحليل انتفاضة قامشلو من كافة الجوانب، على أمل أنْ يخدم ذلك شعبنا السّوريّ بشكلٍ عامٍّ، والشعب الكرديّ في سوريا بشكلٍ خاصٍّ.

* سياسي وباحث في التاريخ!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نظام مير محمدي*   نوروز، العيد الإيراني العريق والكبير، كان منذ القدم رمزًا للتجدد والفرح والارتباط بالطبيعة. يُحتفل بهذا العيد مع بداية الربيع، في الأول من فروردين حسب التقويم الهجري الشمسي (الموافق 20 أو 21 مارس)، وهو متجذر في الثقافة الفارسية وحضارة إيران التي تمتد لآلاف السنين. في عام 1404 الشمسي، الذي يبدأ يوم الجمعة 21 مارس، سيحتفل الإيرانيون…

شكري بكر مع بداية انطلاقة الثورة السورية، صدرت عدة بيانات باسم الإجماع السياسي الكوردي وسبعة عشر حزبا. وأقرت تلك الأحزاب الذهاب لعقد مؤتمر كوردي لتأطير النضال السياسي الكوردي في سوريا، والتعامل مع المستجدات على الساحة السورية بوحدة الصف والكلمة في تقرير المصير للشعب الكوردي في سوريا. إلا أن حزب الاتحاد الديمقراطي أعلن انسحابه من الإجماع الكوردي، وغرّد نحو إعلان مجلس…

إبراهيم اليوسف   لا يفتأ بعض شركاء الوطن أن يسأل بين الفينة والأخرى، أنى تم انتهاك بحق من هم مقربون منهم، قائلين: أين الحقوقيون والكتاب الكرد الذين لا يدينون هذا الحدث أو ذاك؟، منطلقين من فكرة واقعية أن هكذا قضايا لا يمكن أن تجزأ، بل هناك من يتجاوز مثل هذا السؤال غير البريء ويعنف الآخر- الكردي- كما أن هناك من…

حسن صالح   البارحة ٢٣آذار حضرت ندوة للدكتور زيدون الزعبي، على مدرج جامعة روج آفا بقامشلو ، بدعوة من شبكة الصحفيين الكرد السوريين. عنوان المحاضرة: الهوية الكردية في الإعلان الدستوري السوري. أقر الدكتور زيدون بأن الإعلان لا يلبي طموحات الشعب الكردي وبقية المكونات، لكنه إنتقالي ويمكن للمعارضين أن يشاركوا في لجنة إعداد الدستور الدائم لتلافي النواقص. وكانت لي المداخلة التالية…