كارثة أخلاقية (ولو أنها ليست غريبة) قبل أن تكون كارثة بيئية

فواز عبدي

 

حسب ما قرأت فإن ما حدث في بحيرة ميدانكي بريف عفرين لا يمكن اختزاله فقط في نفوق الأسماك أو انبعاث روائح كيميائية غريبة من الماء. إننا أمام جريمة متكاملة الأركان، تُرتكب عن سابق إصرار وتصميم، في منطقة أنهكتها الحرب، ولم تَسلم حتى مواردها الطبيعية من وحشية الإنسان.

إن تسميم المياه ليس فقط خرقاً بيئياً أو تهديداً للصحة العامة، بل هو فعل شنيع ضد الحياة، ضد الناس والطبيعة والكائنات الحية على حد سواء. تسميم مورد مائي يعتمد عليه آلاف السكان للشرب والري هو جريمة أخلاقية قبل أن تكون بيئية، تعكس قبحاً روحياً وفكرياً ضارباً في العمق.

ما يجعل هذه الجريمة أكثر خطورة، أنها ليست معزولة، بل تأتي في سياق ممارسات ممنهجة ضد الطبيعة في عفرين ومحيطها. منشورات ومشاهدات شهود عيان من السكان المحليين، مثل محمد بلو والتعليقات على منشوره والتي أكدت حوادث مماثلة، تكشف عن ممارسات لا تقل فظاعة. في إحدى قرى ناحية بلبله؛ عمدت عائلات قادمة من مناطق أخرى إلى تحويل مجاري الصرف الصحي إلى الآبار الارتوازية عمداً قبل مغادرتها، لضمان تلويث المياه ومنع السكان الأصليين من استخدامها بعد عودتهم.

في قرى أخرى، تم توجيه مياه المطابخ والحمامات إلى آبار الشرب، وفي حالات متكررة وموثقة، تركت البيوت مدمرة ومسروقة بالكامل، بل وصلت الوقاحة حد التغوط في وسط الغرف، في تصرف يعبّر عن احتقار متعمد للأرض وأهلها ولكل القيم الإنسانية.

حتى المعالم البيئية والثقافية لم تسلم. تلال أثرية جُرفت، وجزيرة كانت تأوي النوارس وسط بحيرة ميدانكي تم حرقها بالكامل. هذه ليست أفعال تخريب عشوائي؛ بل هي منهج. إنها حرب على الطبيعة، وعلى التاريخ، وعلى أي ذاكرة تربط السكان بأرضهم.

الدكتور فخري عبدو (من أبناء عفرين) اختصر المشهد حين قال إن ما يحدث هو تصحر ثقافي، لا جغرافي فقط. الأرض لا تصبح صحراء فقط حين تقلّ الأمطار، بل حين يقلّ الوعي، ويموت الضمير، وتُختزل العلاقة مع المكان إلى استهلاك وخراب.

في وصف مؤلم، قيل إن الخلفاء العباسيين كانوا يستطيعون السفر من بغداد إلى حلب تحت ظلال الأشجار، واليوم في الشمال السوري لا شجرة تَسلم من الفؤوس، ولا جبل يَسلم من الجرافات، ولا عين ماء تَسلم من السمّ.

هذه الممارسات ليست مجرد تجاوزات أفراد. إنها نتيجة ثقافة عدوانية تجاه الطبيعة، تتعامل مع الأرض كغنيمة، ومع الموارد كأدوات للابتزاز والتخريب.

الحديث عن “الهمجية والهمج” في منشور د.فخري، لا يجب أن يُفهم كشتيمة عرقية أو جماعية، بل كتشخيص دقيق لسلوكيات لا تنتمي لأي معيار إنساني. من يتعمد تسميم الماء، ومن يحرق مأوى الطيور، ومن يدمر الآثار، ليس مجرد متعدٍّ على القانون، بل هو عدوّ للحياة ذاتها.

وإذا كان البعض ينزعج من وصف “الهمج”، فليبدأ أولاً بمحاسبة من حوّل البيوت إلى صحارى، ومن حوّل الجبال إلى أطلال، ومن حوّل البحيرات إلى مقابر للأسماك. الصمت عن هذه الجرائم هو تواطؤ، والتبرير لها هو شراكة.

مسؤولية من؟ وماذا بعد؟

هذه ليست جرائم يجب أن تبقى طي النسيان، أو تُعالج بمياه نظيفة فقط. المطلوب اليوم:

  • تحقيقات شفافة ومحاسبة جدية.
  • توثيق دولي لكل ما جرى ويجري، لأن ما يُرتكب في عفرين لا يخصّ أهلها وحدهم.
  • إعادة النظر في خطاب المصالحة والعودة، فكيف يعود الناس إلى أرض سُمّمت عمداً؟ إلى منازل دُمّرت عن سابق إصرار؟
  • حماية ما تبقّى من البيئة والتاريخ، قبل أن يُمحى كل شيء.

في النهاية، ما يجري ليس صراعاً بين أطراف متنازعة، بل هو صراع بين من يريد الحياة ومن يحتقرها. بين من يرى في الأرض بيتاً، ومن يراها ميداناً للتخريب.

فهل نحتاج إلى مزيد من الجثث العائمة، أو الطيور المحروقة، أو الصخور المجروفة، أو الأشجار المعمرة المقطوعة… حتى نسمّي الأشياء بأسمائها؟

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

علي جزيري يُحكى أن (حسان) ابن رئيس «الجمهورية السورية» شكري القوتلي تأخر عشر دقائق عن الدوام المدرسي ذات يوم، بيد أن مدير المدرسة (جودت الهاشمي)، أنّبَهُ وأعطاه كتاباً ممهوراً بختم المدرسة، يطلب فيه ضرورة إحضار ولي أمره، ولبى حسان حينئذ أمر المدير، لكنه عاد إلى البيت مكسور الخاطر، فاستغربت والدته عودة ابنها الوحيد في ذاك الوقت المبكر، وحين…

صلاح بدرالدين مدخلالى جانب الانشغال اليومي بامور وشؤون الكرد السوريين كمهام لها الاولوية من خلال النضال في سبيل رفع الاضطهاد القومي، والاجتماعي، والسياسي عن كواهلهم، واستعادة حقوقهم القومية، والمساهمة في النضال الوطني العام من اجل الديمقراطية، والتقدم، ومواجهة الاستبداد، كان الهم القومي – الكردستاني – لم يفارق مشاعر جيلنا والذي من قبلنا، ليس كموقف سياسي عابر…

إبراهيم اليوسف الوطن في أرومته قبل الخريطة في حبرها أحدهم   لم يبدأ مشروع “الشرق الأوسط الكبير” من مقاعد البيت الأبيض، بل تسرّب ببطء من: غرف التفكير، مراكز البحوث، خرائط الجيوبوليتيك، وأقلام من ظنّوا أن المنطقة لا تستحق حدودًا ثابتة، وفق تصورات القطب الثاني الموازي بل المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، كقطب قوي عملاق، قبل انهياره التاريخي. إذ إن…

شيرزاد هواري   تشهد منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة تصعيدات عسكرية متسارعة تقودها إسرائيل، مدعومة من حلفائها التاريخيين، في مشهد يشي بتحولات استراتيجية عميقة. هذه التطورات لم تأتِ من فراغ، بل تبدو كحلقة متقدمة من مسار طويل ابتدأ منذ ما يزيد عن قرن، مع توقيع اتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت إرث الإمبراطورية العثمانية على أسس استعمارية، دون أدنى…