اكرم حسين
تُمثّل خطابات المراحل الانتقالية مرآةً واضحةً لرُؤى النخب الجديدة واختباراً لنواياها ولقدرتها على موازنة الطموح مع الواقع ، وفي هذا الاطار لمْ يخرجْ خطاب الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع عن هذه القاعدة ، لكنه حمل بين سطوره إشاراتٍ تستحق الوقوف على أبعادها ، لفهم تعقيدات المرحلة الانتقالية وافاقها المستقبلية ، وفي هذا المنحى لم تكنْ الإشارات الدينية في الخطاب مجرّد أداة لاستمالةِ المشاعر، بل محاولةً لبناء سرديةٍ هوياتيةٍ موحدةٍ في مجتمعٍ مُفكك. ففي سوريا المتعددةِ القوميات والمذاهب والأديان ، يبرزُ سؤالٌ : هل ستعتمد سوريا الجديدة هويةً مدنيةً تعدديةً ، أمْ أنَّ الخطاب الديني سيكونِ بوابةً لسياساتٍ تمييزية ؟ مع تغييبِ المرأة في الخطاب ، رغم مشاركتها بقوة في الثورة ، وفي معاناة الحرب، مما يثيرُ تساؤلات عن مكانة النوع الاجتماعي في المرحلة الانتقالية ؟
بدأ الرئيس المؤقت أحمد الشرع خطابه بمقدمةٍ دينيةٍ ، وهو أسلوبٌ مألوفٌ في الخطابات السياسية العربية، خاصةً في اللحظات المفصلية، حيث يضفي بعداً روحياً على الخطاب ، ويخلق رابطاً نفسياً مع الجمهور. بعد ذلك، أكد الخطاب على مشاعر الفخر بالنصر والتحرر، مستخدماً عبارات مثل “تحررت سوريا” و”45 عاماً من الاستبداد”، مما عزّز الطابع الرمزي للحدث واسّس لسرديةٍ جديدةٍ بدلاً من سردية النظام الاسدي .
خاطبَ الرئيس السوري مختلف الفئات المجتمعية، من النازحين والجرحى إلى “الناشطين الثوار”، مما عكس وعياً بتعدد الأطراف الفاعلة في المشهد السوري. لكنه لم يشرْ إلى كيفية التعامل مع مناصري النظام البائد أوالفئات المترددة التي لم تنخرط في الثورة بشكل مباشر.؟
اشار الشرع إلى تسلمه المسؤولية “بعد مشاورات مكثفة مع الخبراء القانونيين”، مما يوحي برغبة في إضفاء طابع قانوني على المرحلة الانتقالية ، إلا أن غياب التفاصيل الواضحة حول الآليات القانونية والدستورية لهذا الانتقال قد يقلل من وجود إطار شرعي وقانوني يعترف به الجميع.؟
حاول أن يطمئن مختلف الأطراف بإعلانه عن تشكيل “حكومة انتقالية شاملة تعبّر عن تنوع سوريا ” و”مجلس تشريعي مصغر” و”مؤتمر للحوار الوطني” وإعطاء انطباع بأن العملية الانتقالية لن تكون استبدادية . لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تحقيق توازن بين القوى المختلفة، حول تقاسم السلطة بين الفصائل العسكرية والسياسية ، فضلًا عن دور الشخصيات المستقلة والمجتمع المدني .
اكدَّ الشرع أن المرحلة القادمة ستشهد “ملاحقة المجرمين الذين ولغوا في دم السوري”، مما يعكس التزاماً بمحاسبة مرتكبي الجرائم خلال عهد النظام السابق. لكنه قد يثير مخاوف من تحوله إلى أداة للانتقام بدلًا من تحقيق عدالة انتقالية حقيقية .
وهذا قد يدفع بعض القيادات والكوادر السابقة إلى تبني مواقف عدائية تجاه النظام الجديد، وربما التحالف مع جهات خارجية أو داخلية لعرقلة مسار الانتقال السياسي، وتهديد الاستقرار.؟
شدّدَ الشرع على ضرورة “إتمام وحدة الأراضي السورية وفرض سيادتها تحت سلطة واحدة وارض واحدة “، وهو هدف رئيسي لأي حكومة انتقالية، لكنه يتطلب معالجة عدة إشكاليات منها التحدي الكردي الذي يثير تساؤلات حول موقف الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، التي تتمتع بسلطة أمر واقع، وعلاقتها بالحكومة الانتقالية. وهل سيتم دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الجيش الوطني الجديد؟ هل ستتم مفاوضات لمنح المناطق الكردية نوعاً من الحكم المحلي ؟ هل ستحدث صدامات ومواجهات بين الطرفين قد تؤدي إلى توترات خطيرة وربما اشتباكات جديدة .؟
لا تزال عدة مناطق في سوريا تحت سيطرة جماعات مسلحة مدعومة من قوى إقليمية، مثل الشمال الغربي والسويداء ومناطق أخرى مثل جرمانا وصحنايا . كيف ستتم استعادة هذه المناطق سلميا ً دون إراقة دماء أو اشعال صراعات جديدة ؟
النفوذ الإيراني والروسي والتركي في سوريا لا يزال قوياً ، وسيؤثر بشكل مباشر على مدى قدرة الحكومة الانتقالية على فرض سيادتها على كامل الأراضي السورية. فهل ستقبل هذه القوى بمرحلة انتقالية تهدّد مصالحها، أم أنها ستعمل على إضعافها؟
وعدَ الرئيس احمد الشرع ببناء “مؤسسات قوية للدولة تقوم على الكفاءة والعدل”، ولكن إعادة هيكلة الدولة السورية بعد عقود من الفساد والاستبداد ستكون عملية بالغة التعقيد. فالتخلص من كوادر النظام القديم قد يؤدي إلى فراغ إداري، بينما الإبقاء عليهم قد يثير تساؤلات حول جدية الإصلاح. وهنا يكمن التحدي في تحقيق توازن بين الإصلاح المؤسسي والاستقرار الإداري.؟
طرح الخطاب رؤية طموحة لبناء “اقتصاد قوي يعيد لسوريا مكانتها”، لكن الواقع الاقتصادي في سوريا كارثي، حيث البنية التحتية مدمرة، وملايين اللاجئين والنازحين يحتاجون إلى دعم، والعقوبات الدولية قد تعيق عملية إعادة الإعمار. أحد المخاوف الرئيسية هنا هي قدرة الحكومة الانتقالية على جذب الاستثمارات والمساعدات الدولية، خاصة في ظل عدم وجود موقف امريكي واوربي واضح ؟
ختمَ الرئيس خطابه بدعوة جميع السوريين للمشاركة في بناء “سوريا المستقبل”، مستخدماً لغة تحفيزية مليئة بالآمال والوعود. غير أن التحديات الحقيقية تكمن في كيفية ترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس. فتاريخ الانتقالات السياسية يظهر أن المرحلة التالية لسقوط الأنظمة غالباً ما تكون الأصعب، حيث تبدأ الخلافات السياسية بالظهور، وتزداد الضغوط الداخلية والخارجية.
لا بد من التأكيد في النهاية على أن الخطاب عكس فهماً سياسياً للمرحلة الانتقالية، من خلال طرح رؤية طموحة لسوريا الجديدة، لكنه ترك العديد من الأسئلة مفتوحة. لأن نجاح المرحلة الانتقالية لن يعتمد فقط على الإرادة السياسية، بل أيضاً على القدرة على إدارة التعقيدات الأمنية والسياسية والاقتصادية بحكمة وتوازن . فالتحدي الأساسي سيكون في تحقيق المصالحة الوطنية، وتجنب الانقسامات الداخلية، وإدارة العلاقات الدولية بحذر، وإعادة بناء مؤسسات الدولة بطريقة تحقق الاستقرار دون أن تقع في فخ الاستبداد أو الفساد أو الفوضى الانتقالية ؟