قراءة سياسية في اتفاقية مظلوم عبدي وأحمد الشرع

د. محمود عباس

 

الاتفاقية الموقعة بين قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، السيد مظلوم عبدي، ورئيس الجمهورية العربية السورية، السيد أحمد الشرع، الذي كان قائداً لهيئة تحرير الشام، تفتح الباب أمام نقاش سياسي عميق حول مستقبل الإدارة الذاتية ودورها في سوريا القادمة.

لأول مرة في تاريخ الحركة الكوردية، لا يقتصر الأمر على مجرد الاعتراف بالكورد، بل يتم التوصل إلى اتفاق على مستوى الدولة السورية، وهو تحول سياسي بالغ الأهمية، ورغم أن هذه اللحظة لا ترقى إلى مستوى القضية الكوردية ولا تعكس حجم التضحيات المبذولة، إلا أنها تمثل إنجازًا سياسيًا بارزًا، وإثباتًا لواقع لا يمكن تجاهله بعد الآن.

لطالما أكدتُ أن الثقة بالذات، والإيمان بالقدرات والإمكانات الذاتية، هما المفتاح لتحقيق المكتسبات السياسية، فعلى الرغم من التهميش المتعمد طوال القرن الماضي، أثبت الكورد، شعبًا وحراكًا سياسيًا، قدرتهم ليس فقط على المطالبة بحقوقهم، بل على الوصول إلى مستوى يُمكّنهم من المشاركة الفاعلة في بناء الدولة وإدارتها.

هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج عقود من النضال والتضحيات، ودليل على أن الحضور الكوردي لم يعد مسألة خلافية قابلة للتفاوض، بل أصبح واقعًا سياسيًا يجب على الجميع التعامل معه بجدية، كحقيقة ثابتة لا يمكن الالتفاف عليها أو تجاوزها.

رغم ذلك فما تم اليوم ظهور ثمانية بنود عامة، بقدر ما حملت من تطمينات، أثارت الشكوك داخل المجتمع الكوردي، فلا يمكن لالتزامات بهذا الحجم أن تبقى مبهمة دون تفاصيل واضحة تحدد آليات التنفيذ والضمانات المرتبطة بها. لا شك أن هذه البنود إما أنها تحمل في طياتها تفاصيل سيتم دمجها لاحقًا في الدستور السوري القادم، أو أنها تركت عمدًا مفتوحة لتظل مرنة أمام التفاوض السياسي.

وربما كان تجنب الخوض في التفاصيل مقصودًا، استنادًا إلى مبدأ أن “الشيطان يكمن في التفاصيل”، حيث قد تؤدي الصياغة الدقيقة إلى فتح المجال أمام المتربصين لاستغلال الثغرات، وتأجيج الانقسامات، وإفشال الاتفاق قبل أن يرى النور، لكن في المقابل، فإن الغموض يفتح الباب أمام التأويلات المتضاربة، ويجعل الاتفاق هشًا أمام المتغيرات السياسية، ما قد يجعله مجرد اتفاق مرحلي لا يضمن استقرارًا طويل الأمد.

في ضوء هذا التطور، من الضروري إعادة النظر في موقع الإدارة الذاتية، والأطراف الأخرى من الحراك الكوردي، داخل هذه المعادلة، فالسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه:

أين هي الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكوردي والأطراف الكوردية الأخرى من هذه الاتفاقية؟

هل كانت قسد تدير المنطقة سياسيًا، أم أنها كانت فقط تؤدي دورًا عسكريًا لحمايتها من التنظيمات الإرهابية؟

قبل شهر، طرحتُ في مقال نشرته على المواقع، أهمية الفصل الواضح بين قوات قسد العسكرية والإدارة السياسية، وطالبت أن تكون تابعة للإدارة الذاتية وليست منافسة لها أو تهيمن على مقدراتها، أي بمعنى آخر، ضرورة أن يكون هناك فصل بين قسد كقوة عسكرية، وبين الإدارة الذاتية ككيان سياسي ومدني، هذه الجدلية تقودنا إلى تساؤل أكثر جوهرية:

هل تخضع مناطق الإدارة الذاتية لحكم عسكري أم لسلطة مدنية؟

السيد مظلوم عبدي، بصفته قائدًا عسكريًا، يمتلك شرعية التفاوض في البعد العسكري، لكنه لا يملك صلاحيات اتخاذ قرارات سياسية أو إدارية بحجم توقيع اتفاقيات تؤثر على مستقبل الإدارة الذاتية، أو كتابة الدستور، إلا إذا تم تعيينه كرئيس للإدارة الذاتية كما تم مع أحمد الشرع.

 فهل تمت الاتفاقية باسمه كقائد عسكري، أم باسم الإدارة الذاتية؟

إذا كان توقيع الاتفاقية تم بصفته ممثلًا للإدارة الذاتية، فالأمر يفرض ضرورة تعيينه رئيسًا رسميًا للإدارة الذاتية لضمان وضوح الصلاحيات والتوجهات السياسية.

لا يمكن تجاهل أن الاتفاقية تمت تحت إشراف أمريكي مباشر، وبتنسيق مع قوى إقليمية مثل تركيا وبعض الدول العربية والكوردستانية.

 هذا يدل على أن الولايات المتحدة لا تزال ترى في قوات قسد ركيزة أساسية في استراتيجيتها في سوريا، وأنها ليست بصدد التخلي عنها بسهولة.  فالحديث عن انسحاب أمريكي من سوريا كما حصل مع القوات الروسية وترك المجال مفتوحًا لتركيا، يبدو غير واقعي في هذه المرحلة، لأن ذلك سيؤثر على مصالحها وأمن حلفائها، بما في ذلك أمن أوروبا وإسرائيل.

رغم وجود نقاط إيجابية في الاتفاقية، مثل وقف الحرب والحد من الاعتداءات التركية على المناطق الكوردية، إلا أن بنودها العامة والمبهمة تثير الكثير من المخاوف.

  فمثلًا، الحديث عن “حق المواطنة” دون معرفة تفاصيل الدستور القادم، لا يرقى إلى مستوى تطلعات وتضحيات الشعب الكوردي، المكون الثاني في سوريا، وخاضوا صراعًا طويلًا ضد النظام البعثي لتحقيق مطالبهم، المواطنة الحقيقية لا تعني فقط الاعتراف بوجود الكورد، بل تتطلب نظام فيدرالي لا مركزي، كضمانات دستورية تكفل حقوقهم السياسية والثقافية والإدارية.

أحد أخطر التحديات التي قد تنجم عن هذه الاتفاقية هو إمكانية تغلغل الفكر الإسلامي المتطرف داخل المؤسسات والمراكز التعليمية، هذا يشكل تهديدًا مباشرًا لنهج الإدارة الذاتية المبني على التعددية والعلمانية والتنوع الثقافي. من هنا، فإن التساهل في هذا الجانب قد يؤدي إلى صدام كارثي بين قوى الإدارة الذاتية، بل والحراك الكوردي بشكل عام وخاصة الحراك الثقافي وهذه الأيديولوجيات المتطرفة، مما قد يهدد استقرار المنطقة على المدى الطويل.

رغم المخاوف، تحمل الاتفاقية بعض الإيجابيات، وأهمها وقف الحرب، وهو ما قد يجبر تركيا وأدواتها على تقليل الاعتداءات على المناطق الكوردية، كما أن سيادة الدولة السورية ستشمل المؤسسات والمعابر الحدودية، لكن الإدارة الذاتية ستبقى الجهة المسؤولة عن إدارتها، ومع ذلك، من الضروري ضمان أن تكون الكوادر التي تدير هذه المؤسسات من أبناء المنطقة الكوردية، وليس شخصيات مفروضة من خارجها.

الاتفاقية تعني فعليًا أن الإدارة الذاتية ستستمر في إدارة المنطقة، ولكن هذه المرة تحت المسمى الرسمي للدولة المركزية، ومع أن البنود تبدو فضفاضة، إلا أنه من غير المرجح أن يتم فرض شخصيات من خارج المنطقة على المناصب الإدارية، حتى وإن كان هناك حديث عن الاعتماد على الكفاءات. فالمناطق الكوردية تمتلك من الكفاءات ما يكفي لشغل مواقع المحافظين ومدراء المناطق وغيرهم.

الفترة الزمنية المحددة لتطبيق البنود خلال عام واحد، تبدو أكثر ملاءمة للحكومة المركزية منها للإدارة الذاتية أو حتى لقوات قسد، فخلال هذه الفترة، قد تسعى الحكومة المركزية إلى تعزيز سيطرتها على المنطقة تدريجيًا، مما قد يضع الإدارة الذاتية أمام تحديات جديدة في الحفاظ على مكتسباتها.

لا يمكن تجاهل أن هذه الاتفاقية أتاحت لهيئة تحرير الشام التخلص جزئيًا من تصنيفها كمنظمة إرهابية، خاصة بعد المجازر التي ارتكبتها في المناطق العلوية، والتي كادت تؤدي إلى إدانة دولية في مجلس الأمن. هذا الاتفاق قد يكون وسيلة لتخفيف الضغط الدولي عنها وإعادة تأهيلها كطرف سياسي، رغم أنها لا تزال تمارس السلطة عمليًا حتى بعد إعلان حلّ نفسها نظريًا.

رغم كل هذه التطورات، لا تزال فكرة النظام الفيدرالي والإدارات الذاتية الموسعة في سوريا محل جدل، ولم تعد قضية تهم الكورد فقط أو قسد، بل باتت مشروعًا مشتركًا لقوى ومكونات أخرى داخل سوريا، فهناك قوى داخلية تسعى إلى إعادة تشكيل الدولة السورية على أسس جديدة، تضمن عدم العودة إلى المركزية المطلقة التي كانت أحد أسباب انهيار الدولة.

هذه الاتفاقية، بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات، تضع الكورد بشكل عام والإدارة الذاتية بشكل خاص أمام تحدٍ وجودي، فإما أن تستغل هذه الفرصة لتحصين مكانتها داخل الدولة السورية الجديدة، أو أن تجد نفسها مستنزفة بين الضغوط الإقليمية والدولية، وفي كل الأحوال، فإن مستقبل الكورد في سوريا سيعتمد على قدرتهم على تحويل هذا الاتفاق إلى نقطة انطلاق نحو شراكة حقيقية، تضمن حقوقهم السياسية والإدارية والثقافية، على مستوى نظام فيدرالي، بدلاً من أن تكون خطوة لتهميشهم داخل الدولة المركزية.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

10/3/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

نظام مير محمدي*   نوروز، العيد الإيراني العريق والكبير، كان منذ القدم رمزًا للتجدد والفرح والارتباط بالطبيعة. يُحتفل بهذا العيد مع بداية الربيع، في الأول من فروردين حسب التقويم الهجري الشمسي (الموافق 20 أو 21 مارس)، وهو متجذر في الثقافة الفارسية وحضارة إيران التي تمتد لآلاف السنين. في عام 1404 الشمسي، الذي يبدأ يوم الجمعة 21 مارس، سيحتفل الإيرانيون…

شكري بكر مع بداية انطلاقة الثورة السورية، صدرت عدة بيانات باسم الإجماع السياسي الكوردي وسبعة عشر حزبا. وأقرت تلك الأحزاب الذهاب لعقد مؤتمر كوردي لتأطير النضال السياسي الكوردي في سوريا، والتعامل مع المستجدات على الساحة السورية بوحدة الصف والكلمة في تقرير المصير للشعب الكوردي في سوريا. إلا أن حزب الاتحاد الديمقراطي أعلن انسحابه من الإجماع الكوردي، وغرّد نحو إعلان مجلس…

إبراهيم اليوسف   لا يفتأ بعض شركاء الوطن أن يسأل بين الفينة والأخرى، أنى تم انتهاك بحق من هم مقربون منهم، قائلين: أين الحقوقيون والكتاب الكرد الذين لا يدينون هذا الحدث أو ذاك؟، منطلقين من فكرة واقعية أن هكذا قضايا لا يمكن أن تجزأ، بل هناك من يتجاوز مثل هذا السؤال غير البريء ويعنف الآخر- الكردي- كما أن هناك من…

حسن صالح   البارحة ٢٣آذار حضرت ندوة للدكتور زيدون الزعبي، على مدرج جامعة روج آفا بقامشلو ، بدعوة من شبكة الصحفيين الكرد السوريين. عنوان المحاضرة: الهوية الكردية في الإعلان الدستوري السوري. أقر الدكتور زيدون بأن الإعلان لا يلبي طموحات الشعب الكردي وبقية المكونات، لكنه إنتقالي ويمكن للمعارضين أن يشاركوا في لجنة إعداد الدستور الدائم لتلافي النواقص. وكانت لي المداخلة التالية…