سيادة الكورد: ضرورة إستراتيجية لمستقبل الشرق الأوسط

الكاتب: د. مجيد حقي
الترجمة الى العربية بتصرف: بوتان زيباري
مقدمة: بين الجغرافيا والتاريخ—أمة بلا دولة
في قلب التناقضات الجيوسياسية للشرق الأوسط، يقف الشعب الكوردي كشاهد على مفارقات التاريخ ومآسيه. هذا الشعب، الذي يعدّ أكبر مجموعة إثنية بلا دولة مستقلة، يتوزع عبر تركيا، سوريا، العراق وإيران، ويحمل إرثًا ثقافيًا ولغويًا وحضاريًا موحدًا، إلا أن الخرائط السياسية التي رسمتها القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى شتّتت هويته القومية، وزرعت بذور صراع لا يزال قائمًا حتى اليوم.
لكن القضية الكوردية ليست مجرد قضية محلية أو حتى إقليمية، بل هي انعكاس لصراعات المصالح الدولية. فحق تقرير المصير لهذا الشعب لا يعني فقط إنصافًا تاريخيًا، بل يشكل ركيزة إستراتيجية في هندسة توازن القوى في الشرق الأوسط، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية في معادلات معقدة.
النضال الكوردي وانعكاساته العالمية
لقد ناضل الشعب الكوردي بلا كلل من أجل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحكم الذاتي. وصراعه ليس مجرد قضية إقليمية، بل يحمل تداعيات عميقة على استقرار الشرق الأوسط والنظام الدولي. على إسرائيل، بوصفها دولة واجهت تهديدات وجودية منذ نشأتها، أن تدرك الأهمية الإستراتيجية لدعم التطلعات الكوردية. فمن خلال القيام بذلك، يمكن لإسرائيل الإسهام في خلق توازن قوى يُفضي إلى منطقة أكثر ديمقراطية واستقرارًا، وهو توازن يخدم أيضًا مصالحها الأمنية.
تجربة الكورد تعكس في بعض جوانبها تجربة إسرائيل في الصمود. فقد أثبت الكورد قدرتهم على الحفاظ على النظام والأمن في المناطق التي تعصف بها الفوضى والتطرف. كما لعبوا دورًا حاسمًا في محاربة الجماعات الإرهابية مثل داعش، ما أبرز أهميتهم الإستراتيجية. ومن هنا، فإن وجود جبهة كوردية موحدة ذات إدارة فعالة يمكن أن يشكل عامل توازن في مواجهة الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، ويساعد في استقرار منطقة مضطربة. لذا، فإن دعم تقرير المصير الكوردي ليس مجرد عمل تضامني، بل هو ضرورة إستراتيجية لضمان الأمن الإقليمي.
الديناميكيات الإقليمية: تحديات الكورد في الدول المجاورة
مصير الكورد مرتبط بشكل وثيق بسياسات القوى الإقليمية.
– في تركيا، على سبيل المثال، أدى الصراع المستمر بين الدولة التركية والحركات الكوردية إلى نزوح واسع النطاق وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا. وتعكس العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا وأجزاء من إقليم كوردستان العراق إصرار أنقرة على قمع أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكوردي الذي قد يهدد وحدة أراضيها.
في إيران، فإن الكورد يواجهون نظامًا من الفصل العنصري والقمع الثقافي الممنهج. فمنذ عام 1979، حين أعلن آية الله الخميني “الجهاد” ضد الشعب الكوردي، فرضت الأنظمة الإسلامية سياسات تقيد استخدام اللغة الكوردية، وتمنع التعبير الثقافي، وتحد من المشاركة السياسية. وقد أدت الانتفاضات الأخيرة، التي تأججت بسبب أحداث مثل مقتل جينا أميني، إلى تصاعد النشاط الكوردي في إيران، لكنها قوبلت بقمع وحشي من الدولة.
– في سوريا، يشكل الوضع تحديًا معقدًا. فمنذ اندلاع الحرب الأهلية، أنشأت الجماعات الكوردية منطقة حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع تُعرف باسم “روج آفا”. وقد لقي هذا النموذج في الحكم، القائم على المجالس الديمقراطية والمساواة بين الجنسين والإدارة الشاملة، إشادة دولية باعتباره نموذجًا مبتكرًا للديمقراطية المحلية. لكن انسحاب القوات الأميركية في عام 2019، وما تبعه من هجمات عسكرية تركية، جعل روجآفا عرضة للخطر، ما زاد من تعقيد التطلعات الكوردية.
 –في العراق، فإن حكومة إقليم كوردستان (KRG)تمثل واحدة من حالات الحكم الذاتي القليلة للكورد. وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، تواجه KRG تحديات داخلية وانقسامات، إلى جانب نزاعات مع بغداد بشأن عائدات النفط والسيطرة على الأراضي. وتسلط هذه التحديات الضوء على التوازن الهش بين تأكيد الحكم الذاتي ومواجهة الضغوط الإقليمية.
هذا المشهد الإقليمي يعكس مدى تعقيد القضية الكوردية، حيث تتشابك المصالح المحلية والدولية، ما يجعل حلها يتطلب رؤية إستراتيجية تتجاوز الحسابات قصيرة المدى.
التحولات الجيوسياسية: كيف يؤثر المشهد العالمي على الكورد؟
إلى جانب الصراعات الإقليمية، تلعب التحولات الجيوسياسية العالمية دورًا رئيسيًا في تشكيل القضية الكوردية. فقد أثّر الصراع الروسي الأوكراني، وإعادة تشكيل التحالفات، وتغير أولويات القوى الكبرى، بشكل غير مباشر على الديناميكيات في الشرق الأوسط. ومع تعديل الولايات المتحدة لاستراتيجياتها في المنطقة، يجد الشعب الكوردي نفسه بشكل متزايد عالقًا في لعبة المصالح الدولية.
أما الاتحاد الأوروبي، فقد أظهر وعيًا متزايدًا بقضايا حقوق الإنسان والأقليات، بما في ذلك تلك المتعلقة بالكورد. وقد قدمت العديد من الدول الأوروبية مساعدات إنسانية ودعمًا سياسيًا للجماعات الكوردية، لا سيما خلال نضالها ضد القوى المتطرفة. ومع ذلك، لا يزال موقف الاتحاد الأوروبي حذرًا. إذ تحد اعتبارات العلاقات مع تركيا—باعتبارها شريكًا أساسيًا في التجارة وإدارة الهجرة والأمن الإقليمي—من استعداد الاتحاد لتقديم دعم سياسي صريح لاستقلال كوردستان.
مع ذلك، فإن دعم تقرير المصير الكوردي يمكن أن يكون محركًا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالمناطق الكوردية، وخاصة في العراق وأجزاء من سوريا، غنية بالموارد الطبيعية. وبوجود هياكل حكم سليمة ودرجة من الاستقلالية، يمكن لهذه المناطق أن تقود التنمية الاقتصادية الإقليمية، وتجذب الاستثمارات الأجنبية، وتصبح نماذج للنمو المستدام في بيئة ما بعد النزاع.
لماذا يُعتبر الكورد حلفاء إستراتيجيين للغرب؟
تتجاوز الأهمية الإستراتيجية للكورد مجرد مساهمتهم في جهود مكافحة الإرهاب. فهم شعب يمتلك تاريخًا طويلًا من الصمود والاعتماد على الذات، وهي صفات لا تُقدر بثمن في منطقة تعاني من عدم الاستقرار:
  1. شريك موثوق في مكافحة التطرف: لعبت القوات الكوردية دورًا محوريًا في القضاء على داعش، ما يجعلها قوة أساسية في استقرار المنطقة.
  2. عامل توازن في مواجهة الأنظمة الاستبداديةيمكن لحركة كوردية موحدة أن تشكل عامل توازن في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، وخاصة في تركيا وإيران. ومن خلال دعم تقرير المصير الكوردي، يمكن لإسرائيل والغرب الإسهام في خلق هيكل قوى إقليمي أكثر توازنًا، ما يقلل من احتمالية اندلاع نزاعات عسكرية أحادية الجانب.
  3. تجربة ديمقراطية فريدةمن منظور إنساني، يتماشى دعم الحقوق الكوردية مع القيم الديمقراطية التي تروج لها إسرائيل والدول الغربية. فالنضال الكوردي من أجل الاعتراف والحكم الذاتي هو في جوهره نضال من أجل الكرامة الإنسانية. والمساعدة في تحقيق تطلعاتهم لا تعني فقط تصحيح مظالم تاريخية، بل تضع أيضًا سابقة لحماية حقوق الأقليات في جميع أنحاء العالم..
نحو رؤية جديدة: كوردستان المستقرة كرافعة للتنمية الإقليمية
إذا أُتيحت للكورد فرصة إدارة شؤونهم باستقلالية، فإن ذلك لن يكون مكسبًا لهم فقط، بل سيمثل نقطة انطلاق جديدة لتنمية المنطقة. فمن شأن كوردستان المستقرة أن تصبح مركزًا اقتصاديًا إقليميًا، يجذب الاستثمارات، ويخلق فرص عمل، ويفتح آفاقًا جديدة للتعاون الإقليمي، ما قد يسهم في تحويل الشرق الأوسط من ساحة صراعات إلى بيئة تنموية مستدامة.
خاتمة: تقرير المصير الكوردي كضرورة إستراتيجية
القضية الكوردية ليست مجرد مطلب قومي، بل هي مسألة إستراتيجية تمس الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. إن دعم حق تقرير المصير للشعب الكوردي لا يعني فقط إنصافًا تاريخيًا، بل يشكل خطوة نحو بناء شرق أوسط أكثر توازنًا وعدالة.
فالكورد، الذين ظلوا لقرون تحت رحمة التغيرات الجيوسياسية، يمكن أن يكونوا مفتاحًا لإعادة تشكيل المنطقة، ليس فقط كحلفاء للغرب، بل كشركاء في بناء مستقبل جديد قائم على قيم العدالة والحرية والديمقراطية.
…………………………………
*      الكاتب: الدكتور مجيد حقي هو كاتب وناشط سياسي ومدافع عن حق تقرير المصير للشعب الكردي من كوردستان الشرقية (إيران). وهو عضو في المركز الوطني لكوردستان الشرقية (NNRK) ويشغل منصب رئيس تحرير موقع Jinamedia.net. يقيم حالياً في فنلندا.
*      الترجمة الى العربية بتصرف: بوتان زيباري هو كاتب وسياسي كوردي من كوردستان روچ آڤا يقيم زيباري حالياً في السويد.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس أقنعة الجهل والخداع، بلاهة مدروسة وكراهية مبرمجة، تعابير الوجه كأداة لخداع الجماهير. في الآونة الأخيرة، بات من الجلي أن بعض المحاورين المدافعين عن الطغيان التركي، أو المروجين لاستراتيجيات الأنظمة المعادية للكورد، لا يعتمدون على لغة العقل والمنطق، بل يستعيضون عنها باستخدام لغة الجسد وتعابير الوجه بدلًا من الكلام، ويكررونها بشكل نمطي، وكأنهم يتلقون تدريبًا ممنهجًا…

زاكروس عثمان كثر الحديث عن شكل الدولة المزمع اقامتها في سوريا بعد سقوط نظام الاسد و استلام ابو محمد الجولاني وجماعته للسلطة في دمشق، في هذا الصدد يدور جدال واسع بين مختلف الاطراف السورية بين متمسك بشكل الدولة المركزية “سوريا الاسد” و بين مطالب بدولة فيدرالية “لا مركزية” ويميل اكثرية المكون السني وهم القومية الغالبة الى دولة مركزية ـ سلفية،…

ملف «ولاتي مه» حول مستقبل الكورد في سوريا، يُعتبر أحد الملفات الهامة التي تُناقش مستقبل الكورد في سوريا في ظل التغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة عامة وسوريا بشكل خاص. يركز هذا الملف على تحليل الأوضاع الراهنة والتحديات التي يواجهها الكورد، بالإضافة إلى استعراض السيناريوهات المحتملة لمستقبلهم في ظل الصراعات الإقليمية والدولية. يسلط الملف الضوء على أهمية الوحدة والتعاون بين مختلف…

فرحان كلش منطقياً، المحطات التاريخية تجلب معها صياغاتها الفكرية والوجدانية والسياسية …..الخ معها، أي تستحضر منظومتها القيمية التي تتوافق مع الأرضية الاقتصادية – السياسية التي تتبناها. وما نشهده الآن على الساحة السورية عامة والكردية خاصة بوادر حركة انحلال قوى وصعود قوى حزبية أخرى مختلفة، فالتاريخ يعلمنا أن الأزمات في البنى التحتية تلد بنى فكرية ومجتمعية منسجمة و منعَكَسة عنها. و…