زاكروس عثمان
كثر الحديث عن شكل الدولة المزمع اقامتها في سوريا بعد سقوط نظام الاسد و استلام ابو محمد الجولاني وجماعته للسلطة في دمشق، في هذا الصدد يدور جدال واسع بين مختلف الاطراف السورية بين متمسك بشكل الدولة المركزية “سوريا الاسد” و بين مطالب بدولة فيدرالية “لا مركزية” ويميل اكثرية المكون السني وهم القومية الغالبة الى دولة مركزية ـ سلفية، فيما تنزع المكونات المغلوبة الاثنية والدينية الاقل عددا إلى الفيدرالية او الحكم الذاتي.
وقد اكد الجولاني حاكم سوريا الجديد منذ الساعة الاولى من استلامه للسلطة على مركزية الدولة ورفضه القاطع لأي شكل من اشكال الفيدرالية بحجة الحفاظ على وحدة الاراضي السورية, وترجم موقفه هذا باتخاذ سلسلة تدابير واجراءات احادية الجانب للانفراد بالسلطة، داعيا الكيانات السياسية والعسكرية الاخرى إلى حل نفسها، ثم نصب نفسه رئيسا لسوريا واسس حكومة سلفية من قادة و كوادر جماعته الارهابية هيئة تحرير الشام ومن زعماء ميليشيات ارهابية اخرى ومجموعات امتهنت الجريمة المنظمة.
رواية قرن الثور
تقول رواية شعبية: ان ثور عملاق يحمل كوكب الارض على احد قرنيه وحين يتعب ينقل الكوكب من قرن إلى آخر، وتنتج عن عملية الانتقال هزة ارضية تحدث دمارا ولكنها رغم ذلك لا تأتي بتغيير كبير سوى تبديل موضع الكوكب، ثم يعود الحال في مجمله على ما كان عليه، و على ما يبدو فان حال سوريا في الاشهر الاخيرة اصبح من حال كوكب الارض، مهما تشهد من هزات متلاحقة، احداث متراكبة متسارعة، وتقلبات مفاجئة فإنها لا تأتي بتغيرات مفصلية تدفع بالأزمة إلى النهاية، حتى ان زلزال سقوط نظام الاسد 8 ديسمبر 2024 لا يتعدى كونه هزة بسيطة احدثت تبدلات سطحية في جوانب ثانوية، وكل ما فعله الثور هو انه نقل سوريا من احد قرنيه إلى قرنه الآخر، لنبقى بانتظار هزات ارتدادية قد ترفع سوريا عن قرن الثور لتعرف الاستقرار او تلقي بها في كثبان رمال متحركة ليكون الهلاك.
احياء الخلافة الاموية
تروج حركات الاسلام السياسي خاصة التنظيمات المتحالفة مع الجولاني لفكرة بعث الدولة الاموية، في اشارة منهم الى ان شكل الدولة الذي يريدونه لسوريا وهو شكل الخلافة الاموية الاستبدادية الدموية العروبية، التي اتبعت سياسة مركزية في ادارة الولايات التي خضعت لهم وهي بلدان واقاليم مترامية الاطراف متعددة القوميات والاديان، تم قمعها لربطها مباشرة وعنوة بمركز الدولة دمشق، وان دل هذا على شيء انما يدل على ان كافة الاجراءات التي اتخذها الجولاني وجماعته انما تدل على انهم يركزون على شيء واحد و هو تحويل سوريا إلى امارة جهاد، بتطبيق دكتاتورية الشريعة ليتم باسم الله تجريم كل مطالب بالدستور والحريات والديمقراطية، وتكفير دعاة الفيدرالية، حيث توجد عوامل متشابكة تجعل الجولاني يتمسك بنظام الدولة المركزية بقدر نفوره من الفيدرالية، ومن هذه العوامل.
1ـ عوامل سياسية: لان نظام الدولة المركزية ينتج الدكتاتورية، كون المركزية تساعد على تعزيز سلطة الخليفة / الامير في الاقاليم وكلما شدد قبضته هناك كلما ازدادت سطوته في العاصمة، ليصبح دكتاتور مقدس، لا يحتاج دستور ولا برلمان ولا انتخابات، اضف إلى ذلك هناك سبب خاص متعلق بالتزامات الجولاني الثقيلة نحو تركيا، ومن ابرزها تعهده بطمس قضية كوردستان ـ روژئاڤا، وتحويل سوريا إلى محمية عثمانية للانطلاق منها إلى البلدان العربية.
2ـ عوامل ايديولوجية: لان الرئيس السوريَ!! الجولاني و الذي يتزعم هيئة تحرير الشام الارهابية مشبع بالعقيدة السلفية ـ الجهادوية، التي تنبذ الفكر السياسي المعاصر وتعتبر الحرية الديموقراطية القانون والفيدرالية زندقة علمانية قادمة من بلاد الكفر، و يرفض الجهادويون بالمطلق مقولة الدين لله و الوطن للجميع، بل يدعون ان الدين والوطن ملك لله وعليه يطالبون بتطبيق شرع الله في حكم البشر، والشرع في منظورهم هو منح الصلاحية المطلقة للأمير بغية تسخير البشر والارض للجهاد في سبيل الله، امير الجهاد يقصد به الزعيم الارهابي الذي يفوضه الله!! للجهاد في سبيله، ويمكن الزعيم ان يكون قائد تنظيم محارب في “مرحلة الجهاد” مثل قادة تنظيم القاعدة اسامة بن لادن و الظواهري، واذا تمكن تنظيم ارهابي من السيطرة على دولة ما فان الزعيم يتولى السلطة فيها ويؤسس خلافة او امارة، مثل ملا عمر وهبة الله آخوند زاده من زعماء طالبان الحاكمة في افغانستان، وابو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام الحاكمة في سوريا، ويقوم امير المؤمنين بفرض طاعته على الجميع، و بحجة تطبيق الشرع يمارس الطغيان لتطويع العباد، فالدولة ليست لخدمة الرعايا بل لخدمة الله، لهذا يرفض السلفيون نظام الدولة الديموقراطية العلمانية اللامركزية التي تخدم مواطنيها، بل يريدون دولة مستبدة تخدم الله و وكلائه على الارض، و هذا يفسر لماذا يشن الشوفينيون والاسلامويون العرب حملة شعواء على الكورد ويصفونهم بالكفرة والملحدين لانهم يطالبون بتحويل سوريا الى دولة فيدرالية تخدم البشر وليست دولة تحرق رعاياها لخدمة شراذم من الدجالين والقتلة، بذلك يحدث التطابق بين الفكر السلفي والدكتاتورية والدولة المركزية.
3ـ دوافع خاصة: تتألف تنظيمات الاسلام السياسي من مزيج بشري غير متجانس من حيث العقيدة و الرؤى، اذ تجد بينهم عناصر تعتنق الفكر السلفي عن ايمان وقناعة، وعناصر اخرى تنخرط في الحركة لدوافع مختلفة كالفوز بالمناصب، التنعم بالمال، الحصول على النساء، اهداف سياسية، او حتى النزوع إلى العنف والتعطش لسفك الدماء، ويمكن تسمية هذه الفئة بالمرتزقة، واذا نظرنا الى نخبة الارهابيين من زعماء وقادة وكوادر نجد بينهم جهادويين بالفعل، واخرون يتخذون عباءة الجهاد غطاءا لطموحاتهم السياسية بالاستيلاء على رقعة ارض وبناء امارة والتنعم بالسلطة، ويعتبر الجولاني نموذج طازج لهذا النوع من الارهابيين، حيث مكنته توافقات دولية ـ اقليمية من السيطرة على الجزء الاكبر من الاراضي السورية والاستيلاء على السلطة ويعمل حاليا للاستيلاء على الدولة لتشكيل سوريا الجولاني، و تمكين حاضنته السنية، حيث تشير كافة التدابير والقرارات التي اتخذها على انه يعمل في هذا الاتجاه، مدفوعا بالدعم الشعبي باعتباره القائد الذي اوكل اليه مهمة اسقاط نظام الاسد، فهل يمكن توقع تحول إلى الديمقراطية واجراء التغييرات المنشودة، من حكومة سلفية بدأت تطبق سياسة التشبيح والترهيب والتضييق على مواطنين عاديين، حيث كثرت الشكاوى من تصرفات شبيحة هيئة تحرير الشام الملثمين، وتبرم الناس من تعرضهم للرايح والجاي على اتفه الاسباب، كان يأتي مثلم ويزجر شاب مراهق ويوبخه ويهدده لأنه لم يذهب الى الجامع حين رفع الآذان، وقد يعتبر البعض ان هذه مسائل بسيطة لا تستحق الذكر، ولكن في الحقيقة هذا اسلوب التنظيم الارهابي في اخضاع الناس وتطويعهم رويدا رويدا، عقوبات جسدية موجعة لأتفه الاسباب ترهب الناس، هذه الممارسات اصابت كثير من السوريين الذين هللوا للجولاني لأول وهلة بخيبة امل، وبدأ الغمز واللمز حول عملية احلال نظام استبدادي سلفي محل نظام دكتاتوري عسكري منهار.
يتبع ج2