خوشناف سليمان ديبو
بعد غياب امتدّ ثلاثة وأربعين عاماً، زرتُ أخيراً مسقط رأسي في “روجآفاي كُردستان”. كانت زيارة أشبه بلقاءٍ بين ذاكرة قديمة وواقع بدا كأن الزمن مرّ بجانبه دون أن يلامسه. خلال هذه السنوات الطويلة، تبدّلت الخرائط وتغيّرت الأمكنة والوجوه؛ ومع ذلك، ظلت الشوارع والأزقة والمباني على حالها كما كانت، بل بدت أشد قتامة وكآبة. البيوت هي ذاتها، لكن ملامح ساكنيها أثقلها الزمن وأضناها الانتظار. لا تطور عمراني يُبهج العين، ولا رفاهية تُنعش الروح. كأن المكان آثر العزلة، فانكمش على ذاته وارتضى بالحزن نديما لا يغادره.
الصدمة لا تسعها الكلمات: بنية تحتية مهترئة، وخدمات شبه معدومة، وأناس يرزحون تحت وطأة الزمن، يصارعون قسوة الحياة، وكأن الأقدار تواطأت على حرمانهم من عبور بوابة المستقبل. ورغم كل ذلك، يبقى الوطن كقصة حب دفينة، نابضة بأُناسِه الرائعين، وبأصالتهم المتجذّرة كشجرة زيتون عتيقة. وطنٌ يستحق العناية التي تليق بقدره، لا أن يُختزل في حدود الجغرافيا، بل في كرامة أبنائه، وفي قدرتهم على الحلم، رغم الجراح.
تُعد “روجآفا” نموذجا للصمود في وجه الحروب، والحصار، وتغييب الاعتراف. ومع ذلك، يواجه الزائر مفارقة صارخة: شعب يتمسك بهويته الثقافية والسياسية بإصرار، بينما يرزح تحت وطأة واقع اقتصادي هشّ، أفرزته سنوات من الصراع وندرة الموارد.
تكشف المعطيات الراهنة في الإقليم عن مزيج معقّد من التحديات البنيوية والظروف الاستثنائية الطارئة. فقد أدى تراكم العوامل الداخلية والخارجية إلى ارتفاع معدلات الفقر، وتراجع القدرة الشرائية للسكان، إلى جانب تدهور البنية التحتية والخدمات العامة. وفي ظل هذا الواقع، لم تَعُد الشعارات الثورية ولا الخطابات السياسية الرنانة قادرة على تلبية الاحتياجات الملحة. بل أصبح الانتقال إلى إصلاحات عميقة وشاملة أمرا ضروريا، يعيد توجيه المشروع السياسي نحو تأسيس نموذج اقتصادي واجتماعي قابل للاستمرار. وتبدأ عملية الإصلاح من الداخل، عبر التصدي للفساد الإداري وتفكيك شبكات المحسوبية التي تسللت إلى مؤسسات الإدارة الذاتية. فنجاح أي تجربة سياسية لا يُقاس بالتضحيات وحدها، بل يستلزم أيضا تأسيس آليات تضمن أن تكون السلطة أداة لخدمة الصالح العام.
إن بناء اقتصاد فعّال يتطلب بيئة مؤسسية قائمة على الشفافية والمساءلة، وتحفيز الاستثمارات الإنتاجية. أما التعامل مع الموارد بوصفها غنائم، فيشكل عقبة حقيقية أمام بناء نموذج اقتصادي متماسك ومستدام. إن غياب معايير الكفاءة وضعف آليات المساءلة يؤديان إلى تحويل الإدارة إلى عبء يفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك، لا تزال الفرصة سانحة لتقديم نموذج مختلف، شريطة إجراء مراجعة نقدية شجاعة، تعترف بالأخطاء وتسعى إلى تصحيح المسار، وفق مبادئ الحوكمة الرشيدة.
لتحقيق تنمية مستدامة حقيقية، لا بد من إجراء إصلاحات جذرية ترسخ مبدأ الشفافية، وتُعزز جهود مكافحة الفساد، وتُؤسس لبنية اقتصادية مستقلة ومنتِجة. فالتنمية لا تُقاس بحجم الناتج المحلي فحسب، بل تُقاس أيضاً بقدرة العامل على العيش بأجر كريم، وبقدرة الفلاح على الاعتماد على إنتاجه، وبضمان حصول ذوي الاحتياجات الخاصة على غذاء كافٍ، وبتمكين الطالب من تلقي تعليم نوعي يفتح أمامه آفاق المستقبل.
في روجآفا، لا تقتصر التحديات على فقر الموارد، بل تكمن في مهمة أكبر: الانتقال من مرحلة المقاومة إلى مرحلة البناء والتأسيس، وحماية الإنجاز السياسي من الانهيار الاقتصادي، وتحويل صمود الناس إلى استقرار حقيقي. هنا يتجلى جوهر التحدي: كيف نبني مؤسسات فعالة وحقيقية في بيئة مأزومة بهذا العمق؟
الإجابة تبدأ بإعادة تعريف الاقتصاد لا كمجرد أرقام ومؤشرات، بل كمنظومة متكاملة تقوم على تكافؤ الفرص والعمل المنتج وتحفيز الابتكار، بوصفها ركائز لتنمية مستدامة تصون العدالة الاجتماعية وتُمكن الإنسان من العيش بكرامة.
انطلاقاً من هذه المسلمة، إذا قُدّر لخبير اقتصادي أن يتولى موقع القرار، فسوف يبادر إلى إعداد ووضع خطة شاملة، تستلهم من “خطة مارشال” روحها النهوضية، مع إعادة تشكيلها بما يتوافق مع خصوصية “روجآفاي كُردستان”. إنها ليست مجرد خطة إنقاذ اقتصادي، بل مشروع وطني متكامل، يقوم على إرادة سياسية صادقة ومشاركة مجتمعية فاعلة، هدفه إعادة بناء الاقتصاد من القاعدة، من القرى والبلدات والتعاونيات الصغيرة، لا من الشعارات الرنانة أو الحلول الجاهزة والوصفات المعلّبة. خطة تُطلق وتحرر طاقات الناس عوضاً عن كبتها أو تقييدها، وترتكز على المحاور التالية:
ـ إحياء الزراعة بوصفها الركيزة الأولى للاكتفاء الذاتي، عبر توجيه الاستثمارات نحو دعم الزراعة المحلية، وتوفير الأدوات الحديثة والبذور وتقنيات الري المتطورة للفلاحين. بهذا، يُعاد إحياء الريف، ويُعزز الأمن الغذائي. في هذا السياق، يجب تفعيل التعاونيات الزراعية الحديثة كنموذج للإنتاج الجماعي، يوزّع الأرباح بعدالة، ويرسّخ العلاقة العضوية بين الاقتصاد والمجتمع.
ـ إنشاء مراكز للتدريب المهني في المدن، لإعداد وإعادة تأهيل الكوادر الشابة وتعليمهم مهناً تقنية وعملية، بهدف خلق جيل منتج ومؤهل. كما تُمنَح الأولوية لمشاريع الطاقة المتجددة، وتُقدم تسهيلات تمويلية ميسرة للمشاريع الصغيرة، مع إجراءات مبسطة وواضحة. ويُعد تمكين النساء من دخول سوق العمل جزءاً محورياً من هذه الخطة، بما يضمن لهن الكرامة والمساواة.
ـ يجب أن تشمل الخطة إصلاح البنية التحتية على أسس مستدامة، ليشمل الطرقات وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء، بما يضمن تحسين جودة الحياة وتهيئة بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والخارجي. ويمكن تأسيس صناديق تنمية محلية، تُموّل من الموارد الذاتية والتبرعات الاختيارية من المغتربين والداعمين الدوليين، لتكون أداة تمويل تشاركية وشفافة. وهو امر يتطلب خلق بيئة آمنة ومحفزة للاستثمار النزيه والمنتج.
ـ مكافحة الفساد يجب أن تُدار بوسائل قانونية صارمة وعادلة، مع تعزيز الرقابة على المال العام، وتفعيل قضاء مستقل ونزيه، يحمي الحقوق ويصون الثقة العامة.
فالأوطان لا تُبنى بالشعارات، بل بسواعد رجال ونساء ينهضون كل صباح ليكافحوا من أجل حياة كريمة. وأي خطة لا تنبع من هذا الوعي الشعبي ستظل حبراً على ورق.