بوتان زيباري
ليست الدماءُ التي تسيلُ على أرصفةِ التاريخ سوى مرايا مُعتمةٍ تعكسُ تشوُّهَ الوجوهِ المختبئة خلفَ أقنعةِ البطولةِ الوهمية. ففي كلِّ قطرةٍ تُراقُ على ترابِ الساحلِ السوري، يترددُ صدى أسئلةٍ وجوديةٍ تثقبُ صمتَ الكون: أيُّ قدرٍ أسودَ هذا الذي يحوِّلُ الإنسانَ إلى وحشٍ يتلذذُ بكسْرِ عظامِ الضحايا قبلَ أرواحهم؟ وأيَّةُ آلهةٍ مريضةٍ تَرضى بأن تكونَ ساحاتُ الذبحِ مسرحًا لـ”رقصاتِ الانتقام” التي لا تُغنّي إلا لنشيدِ الموتِ الأعظم؟ هنا، حيثُ يُذبحُ الأطفالُ تحتَ عواءِ الرصاصِ وتُزهقُ أرواحُ النساءِ بأيدي مَن ادَّعوا تحريرَهن، تنكسرُ كلُّ مرايا الأيديولوجيا وتتبدَّدُ أوهامُ “الشرعية الثورية” لتكشفَ عن وجهٍ وحيدٍ: وجهُ الإنسانِ حينَ يتحوَّلُ إلى مجردِ ذئبٍ لأخيهِ الإنسان.
لم تكنْ فضائحُ الإعلامِ العربي سوى ظلٍّ لهذا الجسدِ النازف. فما أقسى أن تتحوَّلَ عدسةُ الكاميرا من أداةٍ لكشفِ الحقيقةِ إلى سكينٍ يُزيّنُ جرحَ الضحيةِ قبلَ ذبحها! لقد حوَّلتْ قنواتُ التضليلِ سرديةَ المأساةِ إلى مسرحيةٍ دمويةٍ، حيثُ يُصبحُ القاتلُ بطلًا، والمجرمُ مُصلحًا، والجثثُ المكدسةُ مجردَ ديكورٍ لخطابٍ أيديولوجيٍّ مائعٍ. أليستْ هذهِ هي اللعنةُ ذاتُها التي جعلتْ من “حلبجة” العراقيةِ مجردَ رقمٍ في سجلٍّ أسودَ؟ حينَ يتحالفُ السردُ الإعلاميُّ مع جلادٍ، يصيرُ التاريخُ كاتبَ سيرةِ المنتصرينَ، لكنَّ دماءَ الأبرياءِ تظلُّ حبرًا لا يُمحى على صفحاتِ الليلِ.
في هذا المسرحِ السوريالي، حيثُ تُخلطُ أوراقُ الأخلاقِ بأوراقِ الدمِ، تُطلُّ شبحيةُ التاريخِ لتُذكِّرنا بأنَّ “العصابة الدينية الفاشية” ليستْ وليدةَ اليومِ، بل هي ابنةٌ شرعيةٌ لثقافةٍ متجذرةٍ في تربِ الانقسامِ الطائفيِّ. فما الفرقُ بينَ مَن يرقصونَ على جثثِ العلويينَ اليومَ، وبينَ مَن أبادوا الكوردَ بالأمسِ تحتَ شعاراتٍ قومويةٍ مزيفةٍ؟ إنَّها الحلقةُ ذاتُها من مسلسلِ الانتقامِ الذي يُعيدُ إنتاجَ نفسهِ بلغةٍ أكثرَ وحشيةٍ. فحينَ تتحوَّلُ السلطةُ إلى عصابةٍ، والمقاومةُ إلى عصاباتٍ، تصيرُ سوريا كلُّها ساحةً لـ”حربِ الجميع ضد الجميع”، حيثُ القانونُ الوحيدُ هو قانونُ الغابِ، والغنيمةُ الوحيدةُ هي جماجمُ الأبرياءِ.
ولكنْ، أيُّ معنىً يبقى لـ”الشرعيةِ” في بلدٍ تُسحقُ شرعيتهُ تحتَ أحذيةِ المُرتزقةِ؟ لقد برهَنَ “الجولانيونَ الجددُ” أنَّ تغييرَ الشعاراتِ لا يغيّرُ من طبائعِ الذئابِ شيئًا. فحينَ يُعلنُ أحدُهم نفسَهُ “رئيسًا شرعيًّا” بعدَ أن كانَ مجردَ قطاعِ طرقٍ، فإنَّه لا يُزيحُ القناعَ عن وجههِ فحسب، بل يُزيحُه عن وجهِ الحقيقةِ كلها: حقيقةِ أنَّ النظامَ لم يسقطْ بفعلِ “ثوارٍ”، بل انهارَ كجثةٍ أخلاقيةٍ تحتَ وطأةِ فسادِهِ الذاتي. لكنَّ السقوطَ هنا ليسَ نهايةً، بل محطةٌ في رحلةِ العبثِ، حيثُ يتبارى الخلفُ في تقليدِ سلفهِ في القتلِ، وكأنَّ الوطنَ أصبحَ جثةً يتقاسمها الغربانُ.
أما الصمتُ، فهو الجريمةُ الأكثرُ دهاءً. فالساكتُ عن الجريمةِ ليسَ شاهدًا محايدًا، بل هو شريكٌ يُزيّنُ للجلادِ سكّينَهُ بنظراتِ اللامبالاةِ. ألمْ يُعلّمنا التاريخُ أنَّ صمتَ “السويينَ” هو ما سمحَ لـ”أنفال” صدامَ أن تُرتكبَ في وضحِ النهارِ؟ وأنَّ غيابَ الصرخةِ هو ما جعلَ من حلبجةَ مأساةً تُقرأُ في الكتبِ دونَ أن تُحفرَ في الضميرِ؟ إنَّ كلَّ شهيدٍ يُقتلُ في الساحلِ اليومَ يصرخُ بسؤالٍ يخترقُ الزمانَ: “أينَ كنتمْ حينَ انكسرتْ إنسانيتنا؟”.
في الختام، ليستْ سوريا سوى مرآةٍ مكسورةٍ تعكسُ وجهَ الإنسانيةِ المشوَّهَ. فما يحدثُ على ترابِها ليسَ صراعًا سياسيًّا عابرًا، بل هو اختبارٌ وجوديٌّ لمعنىَ “الإنسان” في عصرِ انهيارِ المقدساتِ. وإنَّ دماءَ الأطفالِ التي تُروى بها أراضي الساحلِ ليستْ مجردَ دماءٍ، بل هي ندبةٌ في جبينِ الكونِ، تذكّرُنا بأنَّ الشرَّ لا يُهزمُ بالصمتِ، ولا تُحرّرُ الأوطانُ بأيدي مَن يقتلونَ أبناءَها باسمِ خلاصِها. فهل نُعيدُ تركيبَ مرآةِ الضميرِ المكسورةِ قبلَ أن تصيرَ كلُّ أرضٍ سوريا، وكلُّ زمنٍ دجلةَ والفراتَ؟
السويد
10.03.2025