صالح جانكو
حينما يتوهم القائمون على سلطة الأمر الواقع المؤقتة بأنهم قد شكلوا دولة من خلال هذه الهيكلية الكرتونية، بل الكاريكاتورية المضحكة المبكية المتمثلة في تلك الحكومة التي تم تفصيلها وفقاً لرغبة وتوجهات ( رئيس الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية)وعلى مقاسه والذي احتكر كل المناصب والسلطات و الوزارات السيادية لنفسه ولجماعته من هيئة تحرير الشام ، أما باقي الوزارات تم تسليمها ايضاً للشخصيات الرمادية الموالية له ولنهجه والتي لا تمثل إلا نفسها…! مؤسساً بذلك سلطةً إقصائية شديدة المركزية ذات اللون الطائفي الواحد بل الأوحد متجاهلاً باقي مكونات الشعب السوري العرقية والقومية والدينية والمذهبية والطائفية،وكذلك متجاهلاً لقدرات حكومته في بسط سيطرتهأ على كامل المناطق السورية ذات الخصوصيات الاثنية والدينية والمذهبية والطائفية متوهماً بقدرته على اخضاع جميع هده المكونات لإرادته، معتمداً على تلك الفصائل الارهابية والهجوم على تلك المناطق تارةً بحجة مطاردة فلول النظام الساقط كما حدث مع العلويين في الساحل السوري والذين مورست بحقهم جرائم ضد الإنسانية من خلال القتل العشوائي للمدنيين العزَّل وابادة عائلات عن بكرة أبيها والقتل على الهوية بإعدامات ميدانية وثقها المجرمون بكاميرات هواتفهم الشخصية على مرأى ومسمع العالم دون خوف من أي حساب أو مسائلة قانونية أو حتى اخلاقية !
و بحجة مطاردة الخارجين عن القانون تارةً أخرى كما حصل مع المكوِّن الدرزي الذي تم التجييش والتحريض الطائفي ضده بحجة تسجيل صوتي مفبرك منسوب لأحد الشخصيات الدينية الدرزية يسيئ للنبي محمد، مما دفع بالموتورين من أنصار سلطة الأمر الواقع بالهجوم على الطلاب الدروز في السكن الجامعي لجامعة حمص وكذلك هجوم الفصائل المسلحة على المدن والبلدات ذات الغالبية الدرزية ومحاولة تكرار سيناريو ما جرى في الساحل من القتل . متناسياً بأن قبضته الأمنية اصغر من ان تتمكن من اخضاع الناس بالقوة والترهيب للتنازل عن حقوقهم، وان بنية حكومته الهشة في الأساس ستتعرض للانهيار بسبب سيطرة العقلية الفصائلية عليها ،
وسوف يكون من الطبيعي أن تتحوّل بعض الجهات الرسمية والوزارات إلى أدوات لتبرير الفوضى، لا لضبطها. هذا ما يمكن استخلاصه من البيان الصادر مؤخراً عن “وزارة الداخلية السورية المؤقتة” تعليقاً على التسجيل الصوتي المتداول الذي قيل إنه يحتوي على إساءة للنبي محمد، والذي استُخدم ذريعةً لشن هجمات طائفية عنيفة ضد طلاب من المكون الدرزي في جامعة حمص، تسببت في خلق حالةٍ من الشحن الطائفي تحولت إلى حالةٍ من القلق والخوف الرعب بين الطلاب الدروز من تكرار احداث الساحل السوري وخاصةً بعد هجوم بعض الفصائل المسلحة على المدن ذات الغالبية الدرزية مثل بلدة جرمانا وصحنايا مما ادى إلى وقوع عشرات القتلى من الطرفين.
ففي قراءة أولى، يبدو البيان وكأنه يلتزم بالنظام والقانون، عبر الحديث عن “التحقيقات” و”عدم ثبوت نسبة الصوتية للشخص المتهم”، ولكنه سرعان ما ينقلب إلى لغة مزدوجة مفعمة بالتحريض المقنّع والاصطفاف الطائفي الصريح، حين يشكر (“المواطنين الكرام ) على مشاعرهم الصادقة وحرصهم الديني”والذين هبو للدفاع عن مقام النبي من تلقاء انفسهم. بالهجوم على الدروز.
والسؤال هنا: من هم أولئك المواطنون الذين تتحدث عنهم الوزارة الذين عبّروا عن مشاعره الدينية؟ أليسوا هم أولئك الذين هاجموا الطلاب الدروز العزّل داخل الحرم الجامعي في جامعة حمص بجريرة تسجيل صوتي منسوب لشخص درزي قالت الوزارة نفسها بأنه مفبرك !!!
و هل الاعتداء على الطلبة الدروز أصبح “غيرة دينية” تستحق الشكر؟!
ألم يكن من الأولى بوزارة الداخلية حينما تأكدت من أن التسجيل مفبرك ان تأمر الفصائل المسلحة التي هاجمت المدن من تلقاء نفسها من التوقف عن هجومها والعودة إلى ثكناتها .
إن مثل هذا الخطاب – حين يصدر عن مؤسسة يفترض أنها مسؤولة عن حماية كل المواطنين على اختلاف انتماءاتهم – لا يمكن فهمه إلا كنوع من الغطاء السياسي والديني لفصائل خارجة عن سلطة الدولة، تتحرك وفق منطق العصبة والفئة والطائفة بصورةٍ انفعالية ذاتية لا منطق القانون. فالبيان لا يكتفي بالإحجام عن إدانة هذه الجماعات بل يضفي عليها مشروعية أخلاقية بشكرها والتصفيق لها مما يشكل انقلابًا على أبسط مبادئ الدولة الحديثة: والتي تتجسد في احتكارها لممارسة العنف المنظّم وفق القانون، والحياد المؤسساتي، وضمان المساواة للجميع أمام القانون.
خطورة هذا البيان لا تكمن فقط في محتواه التحريضي، بل في توقيته وسياقه ايضاً. فأن يتم الاستناد على المقدس الديني لتبرير العنف الطائفي، في وقت تعيش فيه البلاد واحدة من أكثر مراحلها هشاشة، هو لعب بالنار. والأخطر من ذلك أن تصبح الدولة – أو على الأقل من يمثلها – طرفًا في النزاع لا حكمًا فوقه. هذا النهج لا يهدد فقط الأقليات المستهدفة مثل الدروز، بل ينسف أسس العيش المشترك، ويدفع بسوريا نحو مزيد من التقسيم والتشظي.
لسنا هنا بصدد الدفاع عن أي إساءة دينية، لكن الرد على الإساءة لا يكون بانتهاك القانون، ولا باستهداف مكوِّن رئيسي عريق من مكونات الشعب السوري بصورة جماعية بسبب شبهةٍ أو تسجيل لم تُثبت صحته بعد. الدولة الحقيقية لا تسمح للفصائل المسلحة التي من المفترض أنها مندمجة في مؤسساتها أن تطبق القانون على هواها، ولا تكافئ الغضب الطائفي بالشكر، بل تردعه بالقوة والقانون.
في الختام، إن هذا البيان ليس مجرد إخفاق إداري أو خطأ في التعبير، بل هو مؤشر خطير على غياب الدولة، وشرعنة العنف باسم المقدسات، وإضفاء هالة أخلاقية زائفة على أفعال لا تمت للدين ولا للعدالة بصلة. وكل من يبارك هذا المسار، شريك في تقويض ما تبقى من سوريا الواحدة.