حلب بين نيران الصفقات وتناقضات المصالح.. قراءة في ظلال الصراع الإقليمي

د. محمود عباس

 

كما يقال، قد تحرق شرارة غابة بأكملها. الهجوم المفاجئ الذي شنته فصائل المعارضة ضد قوات النظام السوري في حلب وريفها لم يكن مجرد حدث عابر، بل قد يحمل أبعاداً أعمق تؤثر على مجريات الصراع في المنطقة. لم يكن هذا الهجوم مخططاً له بدقة من قبل تلك الفصائل، ولم تكن النتائج المباغتة جزءاً من حساباتهم. ومع ذلك، فإن ما حدث يعكس أبعاداً إقليمية ودولية أعقد من مجرد انتصار ميداني أو انسحاب قوات النظام السوري وحلفائه الإيرانيين. فمدينة حلب نفسها تبدو، في الوقت الراهن، لغزاً: هل هي جزءاً من صفقة ما؟ أم أن ما جرى تجاوز توقعات الجميع؟

الأوامر المفاجئة التي تلقتها الفصائل من تركيا تشير إلى تنسيق إقليمي ودولي، حيث تلعب أنقرة دوراً محورياً في إدارة التوازنات المعقدة. تركيا، التي تدرك أبعاد المشهد بأكمله، تسعى جاهدة لتعظيم مكاسبها الجيوسياسية والدفاع عن موقعها في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية. من أبرز أهدافها القضاء على القضية الكردية كما يطرحها الحراك الكردستاني، وتقليص نفوذ الإدارة الذاتية في غربي كوردستان، أو حتى إزالتها بالكامل إذا سنحت الفرصة. فرفض تركيا الرسمي والساذج للحديث عن دورها في هذه العملية ليس سوى جزء من خدع سياسية معروفة.

الغريب في الأمر أن قادة منظمات المعارضة، مثل جبهة تحرير الشام وبقايا النصرة، وغيرهم من المنظمات التكفيرية التي تعمل كأدوات لتركيا، يدركون أنهم أدوات شبه مرتزقة، تُسخر لديمومة عملية إقليمية ودولية بعيدة المدى، لكنهم يبررونها تحت مسوغات ساذجة.

هذه العملية، من ضمن السلسلة التي تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والعسكرية للشرق الأوسط. ومن حلقاتها عملية القضاء على حماس سابقاً، ومن ثم تحجيم حزب الله، والآن المرحلة الثالثة: تفكيك أدوات إيران في سوريا. ومع ذلك، من الواضح أن هذه العملية لن تنتهي في سوريا، فهي جزء من مخطط أوسع لتغيير ملامح المنطقة بأكملها.

تركيا، بحكم إدراكها العميق واطلاعها الواسع على تفاصيل المشهد الإقليمي والدولي، تسعى بكل جهدها للحفاظ على مكانتها الحالية وموقعها الجيوسياسي الحيوي. كخطوة استباقية ودفاعية لمواجهة أي تطورات غير متوقعة، تعمل على استغلال الفرص المتاحة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب وضمان مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. أبرز أهدافها تتجسد في القضاء على القضية الكوردية بصيغتها المطروحة من قبل الحراك الكوردستاني، وإضعاف أو إزالة الإدارة الذاتية في غربي كوردستان. إن لم تستطع الإزالة الكاملة، فهي تسعى على الأقل إلى تقليص نفوذ الإدارة الذاتية، بحيث تُرغم على القبول بشروطها أو الاستجابة لما ستطلبه من الإدارة الأمريكية الجديدة، في حال وافقت أمريكا على مطالبه، وهذه لا زالت مشكوك فيه، يقول بعض المراقبين الدوليين أن إدارة ترامب الحالية لن تكون كالسابقة في العديد من الملفات الدولية.

على الأرجح، تحريك تركيا لأدواتها جاء نتيجة صفقة ما استباقية بينها وبين إدارة ترامب، وبتغاضٍ من روسيا، ليس لحماية إسرائيل بحد ذاتها، بل لضرب الميليشيات الإيرانية التي تُعد عاملاً مؤثراً على مصالح كافة الأطراف الكبرى في المنطقة.

من الواضح أن أمريكا وإسرائيل لن تسمحا لأدوات تركيا بتجاوز جغرافية النظام السوري، وهذا لا يعني ألا تتأهب قوات قسد والإدارة الذاتية لمواجهة أية احتمالات غير متوقعة خارج المخطط، فالكل على دراية بما تضمره تركيا وأدواتها من الإدارة الذاتية، رغم ما يتبين على الأقل في الوقت الراهن، أنها لن تتجه نحو مناطق الإدارة الذاتية بشكل مباشر. لا تزال استراتيجية الإدارة الأمريكية القادمة غير واضحة المعالم بشكل كامل، إلا أن هذه التحركات تمثل الشرارات الأولى لها. ربما تراهن تركيا، بقيادة أردوغان، على الضغط على النظام السوري للقبول بشروط التطبيع التي تم التوافق عليها بين روسيا وتركيا، أو السعي لإضعاف النظام إلى درجة يمكن معها إلغاء شرط الانسحاب التركي من سوريا كجزء من مسار التطبيع.

في هذه المعادلة المعقدة، تظل منظمات المعارضة السورية التكفيرية والمرتزقة جزءاً من الأدوات المستخدمة. ورغم ذلك، فإن تركيا تُبرر وجود قواتها في سوريا والعراق بحجة حماية أمنها القومي، وليس بالضرورة دعم تلك المنظمات بشكل كامل، وهو ما يضيف تعقيداً جديداً إلى المشهد.

وهنا لا يُستبعد أن يكون الهدف من الضغط على النظام السوري الغارق في الإجرام، إعادة النظر في موقفه المتهاون تجاه الإدارة الذاتية، وكأن أردوغان يعول الكثير على الإدارة الأمريكية الجديدة لتحقيق طموحاته، الذي يوازن بين طرفين في لعبة معقدة. فمن جهة، يُفعّل شريكه السياسي دولت بهشلي للبدء بحوار تدريجي مع السيد عبد الله أوجلان في إمرالي، ومن جهة أخرى، يدفع بأدواته لتنفيذ المرحلة الثالثة من خطة القضاء على أدوات إيران، بطلب من الإدارة الأمريكية القادمة إلى البيت الأبيض بدءاً من العشرين من يناير المقبل. وتشمل هذه المرحلة تقليم أظافر الميليشيات الإيرانية في سوريا، والقضاء على ما تبقى من فلول حزب الله، وهي خطوات تخدم، بشكل غير مباشر، مصالح إسرائيل، وتأتي ضمن العوامل السرية التي ربما ساهمت في نجاح دونالد ترامب.

المرحلة الرابعة، التي ستتبع ذلك، تتمثل في الحد من هيمنة الميليشيات الشيعية على العراق وإضعافها إلى درجة تفقد معها القدرة على تشكيل تهديد خارجي. بعدها، سيأتي الدور على الحوثيين، وهو ملف سترتبط السعودية بشكل كبير في التعامل معه، بأسلوب مشابه للدور الذي تقوم به تركيا الآن عبر أدواتها. أما إيران، فيبدو أنها إما موقعة على صفقة ما أو عاجزة عن مواجهة هذا السيناريو، رغم انتمائها إلى حلف واسع يضم الصين وروسيا، يمثل القطب المناهض لأمريكا وحلف الناتو.

العملية تكشف عن مخططات عميقة تحدث وراء الكواليس، أبرزها المخاوف التركية التي عبر عنها أردوغان عقب تصريحات نتنياهو حول “الشرق الأوسط الجديد”. فيطمح من خلالها الحفاظ على جغرافيتها الداخلية وحل القضية الكردية وفق شروطها الخاصة.

وبها يقدم خدمة لإسرائيل، لتحقيق مكاسب ذاتية متعددة؛ علما أن إسرائيل أقصى أهدافها هو الحد من القوى التي كانت تهدد أمنها، وصولاً إلى تغيير الثقافة السياسية في المنطقة التي طالما طالبت بإزالتها وإنهاء وجود اليهود.

روسيا، بدورها، تقف في زاوية لا تقل تعقيداً عن غيرها. فقد يكون غياب تدخلها المبكر لطيرانها ضد منظمات المعارضة جزءاً من لعبة سياسية وعسكرية متفق عليها خلف الكواليس، وقد ترتبط هذه الحسابات بتطورات أكبر، مثل ما قد يحدث في أوكرانيا العام المقبل، بعد أن تتولى الإدارة الأمريكية الجديدة مقاليد الحكم.

لا شك أن السلام والاستقرار في المنطقة يخضعان لتوازنات دقيقة تقودها المصالح الاقتصادية والسياسية للقوى الكبرى. وما إذا كانت الشعوب المتضررة، مثل الكرد، ستتمكن يوماً من فرض إرادتها واستعادة حقوقها.

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

29/11/2024م

 

شارك المقال :

One Response

  1. عملية اردوغان:
    اولا: القضاء على المشروع الكوردي وقد يكون هذاالمشروع في مخيلة الامريكان واسرائيل ايضا
    ثانيا :إظهار انه لاغنى عنه لا لبوتين ولاللاسد .
    ثالثا:قديكون مدفوعا للايقاع بينه وبين خمنائي..
    رابعا :فخا له داخليا ،لدفع تركيا الى الانهيار،في وضعها الاقتصادي الحالي..
    خامسا :ابعاده عن بوتين كليا…وهنا اريد ان اقول بوتين لم يعد بحاجة اليه قريبا ستنتهي حرب اوكرانيا ليس اكثر من شهرين….
    لن يسمح احد بسقوط الاسد ،لادوليا ولاعربيا،…الاسد افضل من اردوغان،اردوغان يريد إمبراطورية عثمانية حتى إذا ابيد الكورد عن بكرة ابيهم ،بنما الاسد يريد الحفاظ على حكمه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الرحمن الراشد   ما شهدته سوريا حدثان كبيران وليس واحداً. إسقاط نظام الأسد ووصول «هيئة تحرير الشام» الإسلامية للحكم. سقوط الأسد جزء من سلسلة غروب قلاع أنظمة الستينات الفاشية، صدام العراق وقذافي ليبيا. كذلك وصول «هيئة تحرير الشام» للحكم هو الموجة الثالثة من الموجات الأصولية. الأولى الخميني في طهران، أواخر السبعينات، ثم الموجة الثانية ولدت في ثورات 2011، الإخوان…

كريمة رشكو   لنا تاريخ لا يمكن لأحد إنكاره في محاربة الإرهاب والدفاع عن حقوقنا الشرعية. لم نرفع السلاح إلا للدفاع عن قضيتنا ووجودنا. لا شك أن محاربة الإرهاب والوقوف في وجه داعش، والتصدي لكل فصيل إرهابي، لا يقل أهمية عن مواجهة النظام السوري. ومع ذلك، نحن الكرد كنا من أوائل من طالبوا بإسقاط النظام وإنزال تمثال حافظ الأسد، ولا…

محمد زيتو*   مع سقوط النظام السوري الذي حكم البلاد لعقود، تقف سوريا اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخها. هذه اللحظة ليست فقط تحدياً، بل فرصة ذهبية لإعادة بناء وطن يستوعب جميع أبنائه ومكوناته دون استثناء. لقد عانت سوريا لعقود من القمع والانقسامات التي زرعتها أنظمة الاستبداد، مما أدى إلى صراعات دامية أرهقت البلاد وأثرت على كل مكونات المجتمع السوري،…

إبراهيم اليوسف   تم تسريب تقرير قيصر في عام 2014 بوساطة مصدر سوري يحمل الاسم الرمزي “قيصر”، وهو منشق عن الأجهزة الأمنية السورية، وقد كان يعمل مصورًا في الطب الشرعي في الشرطة العسكرية التابعة للنظام السوري. هذا التقرير يُعد واحدًا من أبرز الوثائق التي فضحت الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري بحق المعتقلين والمعارضين السياسيين. ويحتوي على أكثر…