درويش محما
قد تصبح الامور عصية على الفهم في بعض الاحيان، وضبابية غير واضحة، حينها يجد المرء نفسه في حيرة من امره، ازاء سلوك او تصرف معين يقدم عليه شخص ما، والسبب بكل بساطة، يكمن في عدم معرفتنا للهوية الحقيقية للشخص صاحب التصرف والسلوك. اما ماهية الهوية كمفهوم، فهناك اجماع على تعريفه، بمجموعة السمات والخصائص المميزة لفرد ما بعينه، تفرده عن غيره. الاديب والروائي اللبناني امين معلوف في كتابه الهويات القاتلة، تطرق لمفهوم الهوية لدى الفرد قائلا :”الحقيقة انه في حال وجود نوع من التراتبية بين العناصر التي تشكل هوية كل فرد، فهي ليست ثابتة، بل تتغير مع الزمن وتغير التصرفات بعمق”.
اذا، هوية الفرد لدى السيد معلوف تمتاز بصفتين، التدرج والتراتبية من جهة، والتبدل وعدم الثبات
من جهة اخرى، اما سلوك الفرد وتصرفاته، فهي بالنتيجة تحصيل حاصل للمواصفات التي تتميز بها هويته. للتوضيح اكثر، الفرد الواحد لديه العديد من الهويات، لكن احدى تلك الهويات في العادة، تكون هي الطاغية والمتقدمة على غيرها، والهوية لا تتميز بالديمومة بل هي متحركة من حيث المرتبة والاولوية من ناحية، ومن حيث المحتوى والباطن من ناحية اخرى، وبمقدار التغيير في الهوية من حيث المرتبة والمحتوى معا، يتغير سلوك الفرد ويتبدل تصرفه.
عزيزي القارئ، هذه المقدمة الطويلة والمملة في التعريف بالهوية وطبيعتها، الغاية منها، تصحيح اللغط والالتباس الحاصل في التعريف بهوية حزب العمال الكردستاني التركي pkk، وجميع فروعه وحواشيه، الخارجية غير التركية، وعلى وجه التحديد، حزب الاتحاد الديمقراطي pyd بكل ملحقاته كقسد ومسد والادارة الذاتية بكل هيئاتها ومؤسساتها ومنظماتها، كلها منطوية تحت عباءة العمال الكردستاني التركي pkk، تفعل فعله وتأتمر بأمره.
مجموعة شباب يسارية الهوى والهوية، بمبادرة منهم تأسس حزب العمال الكردستاني pkk خريف عام ١٩٧٨، الاصول الاثنية لهؤلاء، ورغم عدم أهميته في هذا السياق، منها من كانت تركية خالصة مثل حقي قرار ودوران قالقان، وكردية من تركيا مثل جميل بايق وعبد الله اوجلان، وهذا الاخير باعتبار ان والدته تركية، بالتالي لا يجوز ولا يصح البتة، اعتباره كرديا خالصا، والادعاء بانه كردي من تركيا، بل هو نصف كردي من تركيا، هذا من حيث الاصل والفصل، اما هويته وهوية رفاقه، فكانت في حينها، قطعا وعلى الاطلاق الماركسية اللينينة.
الاصول الاثنية لمؤسسي حزب العمال الكردستاني، ليس له تأثير يذكر في عملية تحديد هوية حزب العمال الكردستاني، كون هؤلاء الاشخاص الذين تم ذكرهم، هويتهم الطاغية كانت الماركسية اللينينية، تؤمن بالعنف الثوري كأداة تغيير وحيدة لبناء دولة العمال والفلاحين على انقاض الدولة البرجوازية في تركيا، وللقيام بذلك على افضل وجه، اختارت هذه المجموعة (كردستان تركيا)، ومناطق شرق وشمال شرق تركيا ذات الغالبية الكردية، للقيام بثورتهم العمالية ضد البرجوازية التركية والامبريالية العالمية، لانهم وجدوا فيها الارضية الخصبة من قهر مزدوج طبقي وقومي، عانى منه سكان تلك المناطق من تركيا، حسب نصوص المرافعات لمعتقلي حزب العمال الكردستاني التركي، امام المحاكم التركية في بداية الثمانينات.
ما أود قوله عزيزي القارئ، ان حزب العمال الكردستاني كحركة سياسية، منذ يوم تأسيسه وحتى ساعة القبض على زعيمه السيد عبد الله اوجلان ١٥ فبراير ١٩٩٩، هويته الطاغية كانت وعلى الدوام الماركسية اللينينية، وسلوكه السياسي والعسكري العنيف، لم يكن يهدف لتحرير وتوحيد كردستان القومية كما كان معلنا، وكما كان يعتقد البعض، بل كان يهدف لبناء وطن اشتراكي معاد للرأسمالية التركية والامبريالية العالمية، بالتالي حزب العمال الكردستاني، ليس كردستانيا ولا من يحزنون، بل كان حزبا ماركسيا لينينا متطرفا بامتياز، استخدم الكرد وكردستانهم، لتحقيق مشاريعه الاشتراكية الاممية البروليتارية.
لكن هذه الهوية، هوية pkk الماركسية اللينينية، ولان الهويات لا تتميز بالديمومة وتتغير حسب المنظور العلمي المعرفي، اختفت فجأة وبدون سابق إنذار، فور إلقاء القبض على السيد اوجلان، ومنذ الساعات الاولى من عملية القبض عليه، وليومنا هذا، تحولت هوية هذا الحزب، من حزب ماركسي_ لينيني الى حزب بيئي ديمقراطي تحرري، اما اذا سألتموني ما معنى بيئي تحريري؟ فوالله علمي علمكم، وربي ربكم وهو الاعلم، لكن الذي اعرفه عز المعرفة، وحسب التحليل المعرفي لدى امين معلوف، هوية العمال الكردستاني الحقيقة، لا اليوم ولا البارحة، ليس لها علاقة بطموحات الكرد ولا بحراكهم القومي، لا من قريب ولا من بعيد.
الهوية بمعناه المعرفي تختلف كليا عن معناها الشعبي، فالدارج عند عامة الناس، انهم يشخصون هويات بعضهم البعض، على اساس المنطقة واللغة واللون والقومية والدولة وحتى الحرفة والمهنة الخ، لكن لايجوز ان نحدد هوية حركة سياسية عسكرية كحزب العمال الكردستاني، على الطريقة الدارجة لدى العامة، بل بمنظور معرفي بحت، واذا نظرنا بالمنظور المعرفي لامين معلوف بتعدد الهويات وتراتبيتها، صحيح ان حزب العمال الكردستاني غالبية قياداته وعناصره تتواجد في جبال قنديل، وهي جبال كردستانية صرفة، واغلب تلك القيادات كما ذكرنا سابقا، كردية وتركية، لكن لا المكان كعنصر جغرافي، ولا طبيعة القيادات وقواعد الحزب كعنصر اثني، يلعبان دورا حاسما في تحديد هوية العمال الكردستاني pkk، فالعنصر الغالب هنا، في قمة هرم التراتبية، والذي يحظى بالصدارة، ويحدد هوية حزب العمال الكردستاني، هي “أخوة الشعوب البيئية، وحرية المرأة ونضالها من أجل تطبيق النظام الكونفدرالي الديمقراطي، خارج الدولة والسلطة”. طبيعة الهوية هذه، نقلتها حرفيا من على لسان السيد جميل بايق القيادي في حزب العمال الكردستاني، وبصراحة لا افقه منه شيئا، واعترف بجهلي المطلق بهكذا نوع من الهويات، وعليك عزيزي القارئ، بطرح استفساراكم على السيد بايق نفسه، اذا أردتم معرفة المقصود من كلامه، واشك ان يكون هو الاخر على بينة من اقواله، فهو يعتمد على فلسفة اخترعها السيد اوجلان، من خلف القضبان، في سجنه بايمرلي، حيث غدر به الزمان.
حزب العمال الكردستاني صريح والحق يقال، في الإفصاح عن هويته الاممية العابرة للقوميات، والتي تهدف لوحدة وتآلف الشعوب الشرق اوسطية، في كونفدرالية راديكالية ديمقراطية بيئية نسائية تحررية، في نفس الوقت، ولصراحته المعهودة، لم يخفي ابدا عن رفضه لكل ما هو قومي، وتصريحات قياداته المتكررة، بالعداء للدولة القومية الكردية، لا تعد ولا تحصى، كما ان السيد عبد الله اوجلان نفسه، قالها صراحة وبكل وضوح: انا ضد تشكيل دويلة كردية في شمال العراق.
كما ان العمال الكردستاني كحزب، لا يتميز فقط بصراحته وحسب، بل تجده صادقا مع نفسه، يحول دائما اقواله الى افعال، ودفاعه المستميت عن سد تشرين هذه الايام، بعساكره وبمدنييه، ليس لان السد يقع في المناطق الكردية او بالقرب منها، بل لان هذا السد يقع في كانتون من كانتونات الامة الديمقراطية، التي يسعى الحزب لاقامتها على ضوء فلسفة القائد عبد الله اوجلان. المسألة في غاية الوضوح، حزب العمال الكردستاني ليس حزبا قوميا، ولا يدافع عن مناطق كردية لأنها كردية، ولا يدافع عن الرقة لأنها كردية او عربية، بل يدافع عن كل شبر يسيطر عليه، لأنه يسعى اولا واخيرا، لبناء مجتمعه الطموح الخيالي المنشود.
الخلط بين حزب العمال الكردستاني ومشتقاته، وبين الكرد، من قبل الكتاب والساسة والمحللين السياسين العرب والاترك، ربما عن طيب نية وقلة معرفة، وربما عن قصد وسوء نية لا اعلم، يمكن هضمه وتبريره بشكل ما، لكن الطامة الكبرى
هي في الكرد، ساسة ومثقفين، تجدهم يقدمون على عملية الخلط هذه، اكثر من غيرهم، ولا لوم على عامة الكرد، فهم لا يمتلكون تلك الملكات والقدرات الفكرية للتمييز بين ما يقوم به العمال الكردستاني بكل تشعباته، من تكتيك في غاية الذكاء والحرفية، لاستغلال الكرد كمورد بشري ومادي للقيام بمشاريعه، فيتظاهر بدفاعه عن الكرد في الوقت نفسه يجهر عداءه لطروحاتهم القومية، لكن اللوم على ساسة الكرد وقياداتهم، وعلى النخبة المثقفة الكردية (الانتلجنتسيا)، هذا اذا افترضنا بوجودها وحضورها اصلا، فعدم ادراكهم للهوية الحقيقية لحزب العمال الكردستاني الى اليوم، هو امر مؤسف وخطير في نفس الوقت.
حزب الاتحاد الديمقراطي السوري pyd، الحاكم الناهي في المناطق الكردية السورية، والمتحكم بمصير كرد سورية اليوم، هل سيعلن هذا الحزب انفصاله عن الحزب الام، حزب العمال الكردستاني التركي pkk؟
السوريين الكرد يتميزون بروح تبعية عالية للكردي الاخر غير السوري، والذين لهم الولاء المطلق لحزب العمال الكردستاني، من الصعب أن يتخلوا عن تلك الهوية، لكن كلنا تفاؤل بالخطاب المرتقب الذي سيلقيه السيد عبد الله اوجلان في فبراير الحالي، لعلى وعسى ان يأمر اتباعه السوريين الكرد، بضرورة تخليهم عنه، او يتخلى هو عنهم، ويقول: انتم سوريون ياجماعة”دبرو حالكن”.