خوشناف سليمان ديبو
في ظل مشهد سياسي كُردي يتسم بالتشرذم والانقسام، برزت مجددا قضية الحوار والتخوين إلى واجهة النقاش، بعد مبادرة أطلقها السياسي الكُردي المخضرم صلاح بدرالدين، والذي دعا فيها إلى عقد مؤتمر في دمشق بهدف توحيد الصف الكُردي في سوريا. ورغم أن المبادرة كغيرها، تستحق النقاش والتقييم، إلا أنها جُوبهت بردود فعل عنيفة، إذ سارع البعض إلى وسمها بالمؤامرة، واعتبرها مساسا بمكتسبات سياسية تمت تحقيقها. وسرعان ما انزلق النقاش إلى مستوى التخوين، وهو أمر يعكس أزمة عميقة في بنية ونمط الخطاب الكُردي المعاصر، الذي يستبدل الحوار بالاتهام، والرأي المختلف بالخيانة، يُمكن إعتباره آفة مزمنة تفتك جسم الحركة، وتُلغى المسافة بين النقد المشروع والتجريم الأعمى.
إن غياب المساحة الآمنة للحوار، واستسهال التخوين، لا يؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات، هذه الثقافة لا تقتل الحوار فحسب، بل تعيد إنتاج الانقسامات ذاتها التي تدعي مواجهتها.
بين المسيرة والتشويه
صلاح بدرالدين ليس طارئاً على الساحة السياسية، هو أحد أبرز المؤسسين الفاعلين للحركة القومية الكُردية، ومن أوائل المنظرين للفكر القومي الكُردي السلمي. سُجن ونُفي وكُتب عنه الكثير وكتب هو أكثر، تميز بخطابه القومي المستقل ومواقفه التي أثارت جدلا واسعا بين الأوساط الكُردية، وعُرف بمعارضته لتبعية القرار الكُردي لأجندات خارجية، وهو صاحب مشروع ثقافي وتنويري، نشر خلاله عشرات الكتب. ولعل الأكثر إيلاماً هو تجاهل وتنكّر دوره الإنساني والإجتماعي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، حين مكَّن عشرات الطلبة الكُرد الفقراء من التعليم عبر منح دراسية ومساعدات مالية وفرها عبر علاقاته الواسعة مع مؤسسات فلسطينية ودولية. كثيرون ممن يشغلون اليوم مراكز قيادية كانوا سيبقون خارج أبواب المدارس لولا دعمه. لكن المفارقة المؤلمة – بل والمخزية – أن بعضاً من هؤلاء، ممن تعلموا بفضله وملأوا بطونهم من عطائه، أصبحوا في طليعة من يتهمونه اليوم “بالعمالة”! هؤلاء أنفسهم نسوا أو تناسوا، أنه لولا فضل الرجل، لما تجاوزوا أبواب مدارس قريته. إنها خيانة من نوع آخر: خيانة للذاكرة، وانهيار لأبسط قيم الوفاء!
نقد مشروع أم تصفية شخصية؟
من الطبيعي أن يواجه أي سياسي نقداً لأسلوبه أو مواقفه، وصلاح بدرالدين، شأنه شأن أي سياسي آخر، ليس معصوماً من الخطأ وليس بمنأى عن النقد. لكن إتهامه بالخيانة لمجرد إختلاف الرأي يُعد خيانة أكبر، خيانة لفكرة السياسة نفسها، التي يفترض أن تكون فضاءً لتنافس وإختلاف الأفكار،لا ميداناً لتصفية الحسابات الشخصية. فالشعوب التي لا تتقن فن الاختلاف، تُحكم على نفسها بتكرار مآسيها إلى ما لا نهاية. فرغم الاختلاف حول الأسلوب، فإن دعوته للحوار – رغم ما يُثار حول واقعيتها – تنطوي على محاولة لتحويل الصراع الى مسار تفاوضي سلمي. وهذا في حد ذاته يستحق النقاش. فحتى وإن اختلفنا مع منهجيته أو تفاصيل رؤيته، فإن اختزال الرجل في صفة “الخائن” يُجسد إفلاسا اخلاقيا قبل أن يكون إخفاقا سياسيا. يُؤخذ عليه شخصنة الخلافات واعتماد مواقف مثيرة للإنقسام في مواجهة خصومه، مما يُضعف فرص التوافق داخل البيت الكُردي، كما أن ابتعاده عن الداخل السوري لسنوات، جعله بنظر البعض بعيداً عن الواقعية. كل ذلك يدخل في خانة النقد السياسي المشروع، لا الاتهام المجاني ومحاكمته بالخيانة. السؤال الجوهري هو أي ثقافة سياسية نريد أن نُورث للأجيال القادمة: فن الحوار مع الخصوم، أم إطلاق النار على المختلفين؟
إزدواجية المعايير
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا يُدان صلاح بدرالدين على دعوته إلى الحوار مع حكام سوريا الجدد (علماً بأنني، شخصيا لا أؤيد هذا التوجه و لا أرى جدوى في التفاوض أو الدخول في حوار مع سلطة تتبنى فكراً إسلامياً متشدداً)، بينما لم تُتهم الأشخاص والوفود، التي زارت دمشق مرارا، سرا وعلانية؟ ومع ذلك لم نرَ من يرفع أصوات التخوين والشتائم! أليس في ذلك ازدواجية صارخة في المعايير؟ أليس الموقف من المبادرة بات مرتبطا بهوية صاحبها، لا بمضمونها؟
أن منطق “إما معنا أو خائن” لن يبني وطناً. ربما أخطأ الرجل في الأسلوب أو التوقيت، وربما لا تُسعفه أدواته السياسية لقيادة مبادرة ناجحة، او لا يملك قاعدة شعبية وحزبية فاعلة، تساعده في خلق بيئة حوارية بنّاءة، لكن ومع ذلك لا يمكن إنكار ما قدمه من إسهامات فكرية وسياسية على مدى اكثر من نصف قرن، كما لا يجوز شطب تاريخه بجرة قلم، او تبرير حملات التشويه ضده.
ختاما، غايتي هي ليست تبرئة بدرالدين أو إدانته، بل بإعادة الإعتبار لثقافة الحوار التي تقبل التعددية، وهذه تتطلب التمييز بين الخيانة والإختلاف. فرفض فكرة ما لا يجعل صاحبها خائناً، كما أن قبولها لا يضفي عليه قداسة. إن الحُكم على شخصية أي انسان كان، يجب أن يُأخذ بعين الإعتبار السياق التاريخي والسياسي الذي نشأ فيه، وتحليله بعيداً عن المواقف العاطفية، بحيث يُتيح فهم أعمق للتحولات السياسية الجارية. فكل شخصية سياسية لها إنجازاتها وأخطاؤها، وتقديسها أو شيطنتها يُغيب الحقيقة.
إن الشعوب التي لا تُتقن فن الإختلاف، تُحكم على نفسها بتكرار مآسيها. والحركة الكُردية السورية، في هذه اللحظة المفصلية، تحتاج إلى جرأة في النقد، ولكن أيضاً إلى شجاعة في الاعتراف بالإختلاف، وإحترام التعدد، وفهم تعقيدات المرحلة بعيداً عن الشخصنة والعاطفة.
التاريخ لا يُكتب بالشتائم ولا يُمحى بالتخوين، بل بالحقائق والمنطق، والاعتراف بأن لا أحد يحتكر الحقيقة، ولا أحد فوق النقد.