عبدالباقي اليوسف
تثير الدعوات التركية المتكررة للمصالحة مع الكورد الكثير من الشكوك والتساؤلات، خاصةً في ظل تاريخ طويل من الصراعات والخلافات. فهل يمكن الوثوق بالنظام التركي عندما يتحدث عن “الأخوة” مع الكورد؟ وهل هذه الدعوات تعبر عن نوايا صادقة أم أنها مجرد تكتيك سياسي لتحقيق أهداف أخرى؟
يثبت التاريخ الحديث أن النظرة التركية للكورد غالباً ما تكون مشوبة بالريبة والخوف. فبعد سقوط الدولة العثمانية، وعد مصطفى كمال أتاتورك الكورد بالمساواة والحقوق، لكنه سرعان ما انقلب عليهم بعد تحقيق أهدافه في مؤتمر لوزان عام 1923 . وعندما اعترض الكورد على سياساته، استخدمت الدولة التركية جميع أشكال العنف والقمع، بما في ذلك الإبادة الجماعية.
اليوم، ومع ملاحم التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، يبدو أن تركيا تسعى مرة أخرى لكسب ود الكورد. فبعد عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها، اعاد إلى الاذهان استمرار مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، بدأت بعض الأطراف في الحكومة التركية في طرح المصالحة مع الكورد.
وقد دعا دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية التركية، المعارض بشدة للكورد، إلى مصالحة معهم، مطالباً زعيم حزب العمال الكوردستاني، عبد الله أوجلان، والمعتقل في أمرلي التركية منذ 26 سنة، بالدعوة لحزبه إلى إلقاء السلاح. وقد أيد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، هذه الدعوة، من دون تقديم لأي مشروع للسلام، وماهي الضمانات الدستورية والقانونية لحل المشكلة الكوردية، ومصير هؤلاء المقاتلين قبل إلقاء السلاح، وهل يعقل لنظام يدعي عن نيته التوجه نحو السلام مع الكورد، وفي الوقت نفسه، يواصل اعتقال رؤساء البلديات الكردية المنتخبين ديمقراطياً، مما يثير الشكوك حول جدية هذه الدعوات.
بعد أن أدركت تركيا أن مشروع إسقاط نظام الأسد بات وشيكًا ولا يمكنها منعه، تصرفت وكأنها صاحبة المبادرة، رغم علاقاتها المتوترة مع هيئة تحرير الشام. وقد سعى أردوغان إلى تصوير نفسه أمام شعبه على أنه صاحب هذا المشروع الكبير، وأنه ينتقم من الأسد الذي رفض المصالحة معه سابقًا
جوهر القضية، النظام الحاكم في تركيا، وبعد ان اصبح على يقين ان القوات الأمريكية لن تنسحب من سوريا وهي ستبقى لمدة طويلة خاصة بعد انهيار نظام الأسد وهروبه إلى روسيا، ودخول منظمة على لوائح الارهاب الدولي إلى دمشق واخذت السلطة بيدها. وان قيام كيان كوردي في سوريا اصبح شبه حقيقة هذا أولا، ثانيا انتهاء شبه كامل للنفوذ الروسي السابق في سوريا، ثالثاً ضرب وقطع اجنحة إيران في غزة، ولبنان وسوريا، واخراج جميع القوات الإيرانية من سوريا، والضربة الكبيرة التي تلقته ايران في سوريا ولبنان من ضياع جميع استثماراتها في هذين البلدين، رغم مطالبة إيران لتركيا بتوخي الحزر من المشاركة في سقوط النظام في دمشق.
يدرك النظام التركي جيدًا أن إيران لن تتغاضى عما فعله أردوغان، وأنها ستسعى للانتقام. ومن بين الخيارات المتاحة أمامها دعم حزب العمال الكوردستاني بالمال والسلاح، مما قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي في تركيا. وتزداد الأمور تعقيدًا مع انشغال تركيا في ملفات خارجية متعددة، مثل ليبيا وأذربيجان وأفغانستان وسوريا، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة وتدهور مستوى المعيشة، والخسارة الكبيرة التي مني بها الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية الأخيرة.
أدركت تركيا أن القضية الكوردية أصبحت تفرض نفسها عليها بشكل متزايد، خاصة بعد أن اشترطت الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، على السلطات السورية الجديدة، خلال زيارة وزرائهم، ضرورة إيجاد حل للقضية الكوردية وباقي المكونات السورية. كما طالبوا بقبول الإدارة الذاتية الديمقراطية في شرق الفرات، والتفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية بقيادة الجنرال مظلوم كوباني للتوصل إلى صيغة تضمن مشاركة هذه القوات في تشكيل وزارة الدفاع السورية.
تسعى تركيا اليوم من خلال إعادة طرح السلام مع الكرد إلى تحقيق هدفين رئيسيين: الأول، أن يعلن زعيم حزب العمال الكوردستاني، عبد الله أوجلان، مطالبته لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بإلقاء السلاح والاندماج في الجيش السوري. وأن يبدأ الكورد حوارًا مع الحكومة السورية الحالية لإيجاد حل للقضية الكوردية. الثاني ان يقوم حزب العمال الكوردستاني بإلقاء السلاح والدخول في مفاوضات لحل المشكلة الكوردية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستنجح تركيا في هذه السياسة، وهل ستتمكن من الالتفاف على الكورد، وتلدغهم مرة أخرى كما فعل أتاتورك من قبل.
أرى أن النخب السياسية الكوردية اليوم تتمتع بمستوى جيد من الوعي السياسي والتاريخي، (رغم وجود بعض العناصر الضعيفة التي تعمل لصالح الدولة التركية، في هذا الجزء من كوردستان او ذاك ). وتتميز العلاقات الدبلوماسية لبعض النخب الكوردية مع القوى الدولية بمستوى عالٍ من المسؤولية، حيث تجد العديد من هذه الدول مصالحها الاستراتيجية المستقبلية في التعاون مع الكورد. ومع ذلك، أؤكد أن أي خطأ في الحسابات سيتحمله حزب العمال الكوردستاني، بغض النظر عما إذا كان قد استشار أطرافًا كوردستانية أخرى أم لم يستشر (وتبقى الاستشارة جيدة )، لأنه الطرف الرئيسي المخاطب من قبل الدولة التركية.
مهما سعت تركيا، فإنها لن تتمكن من تغيير مجرى التاريخ. ومن مصلحة تركيا وشعبها التوصل إلى حل سريع للقضية الكوردية داخل حدودها، والتوقف عن التدخل في شؤون دول الجوار وعرقلة جهودها لحل قضاياها الكوردية. فالقضية الكوردية تتوسع وتتطور، ولا تستطيع تركيا تجاهل مصالح القوى الدولية في المنطقة. ومع ذلك، قد تتمكن تركيا من الحد من المكاسب الكوردية، وهو أمر يتوقف بشكل كبير على وعي النخب الكوردية في غرب كوردستان وشمالها.