عدنان بدرالدين
لم تكن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخليج في منتصف أيار/مايو 2025 حدثًا عابرًا، كما لم تكن سابقاتها في عام 2017 أو ما تلاها مجرد زيارات بروتوكولية تُدرج ضمن سجلات العلاقات الدولية. بل تندرج ضمن نمط سياسي متكرر يُعاد إنتاجه كلما دعت الحاجة إلى ترميم صورة رئيس في الداخل الأميركي، أو إلى إعادة ضبط إيقاع العلاقة بين واشنطن وأنظمة الخليج التي ظلت، منذ عقود، تتحسس مكانها داخل معادلات القوة المتبدلة، مدفوعة بقلق دائم من تخلي الحامي أو تبدل المزاج الدولي.
ما طُرح من أرقام خلال هذه الزيارة فاق كل التوقعات. تريليونات من الدولارات، استثمارات طويلة الأمد، صفقات تسليح، وتفاهمات يُفترض أنها ستخلق فرص عمل في الولايات المتحدة، وتمنح الخليج صكاً جديداً بالحماية. كرر ترامب، في لغته المعهودة، أنها “أعظم صفقة في التاريخ”، تماماً كما فعل في ولايته الأولى، عندما هلّل لاتفاقيات مماثلة مع السعودية بقيمة خمسمائة مليار دولار، لم يُنفذ منها فعلياً، حسب تقديرات مستقلة، أكثر من 27 ملياراً. هذه الفجوة الفاضحة بين المعلن والمتحقق ليست تفصيلاً، بل عنصرًا جوهريًا في فهم طبيعة هذه الصفقات، وما إذا كانت تعبّر فعلاً عن تحالف استراتيجي متين، أم أنها أقرب إلى لعبة سياسية محكمة الإخراج، يحرص فيها كل طرف على أداء دوره بدقة، دون أن يلتزم فعلياً بنتائج ملموسة.
الأنظمة الخليجية تعرف جيداً أن ما يُوَقّع في أروقة الفنادق المكيّفة لا يعني بالضرورة تدفق الأموال إلى الاقتصاد الأميركي خلال أشهر، بل هو في الغالب انعكاس لتفاهمات تمتد على سنوات طويلة، بعضها قابل للتنفيذ، وبعضها مشروط، وبعضها الآخر لا يتجاوز حدود النية السياسية. وكما جرت العادة، تُغلف هذه التفاهمات برداء اقتصادي فيما جوهرها سياسي بامتياز. الولايات المتحدة تعرض مظلتها الأمنية، مقابل ولاء استراتيجي طويل الأمد، وامتيازات اقتصادية لشركاتها الكبرى، بينما تسعى الأنظمة الخليجية إلى تجديد العقد الضمني الذي يمنحها شرعية خارجية ضرورية للاستمرار، خصوصاً في ظل تحديات إقليمية تزداد تعقيداً: تصاعد التهديد الإيراني، الغموض في اليمن، انسحاب تدريجي للولايات المتحدة من أدوارها التقليدية، وحروب معلقة لم تنتهِ، أبرزها في غزة، وأخرى مؤجلة تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار.
عودة ترامب إلى البيت الأبيض لا تعني فقط عودة خطاب شعبوي صاخب، بل عودة منطق الصفقة إلى مركز القرار الأميركي. ترامب، الذي يتعامل مع السياسة كما يتعامل التاجر مع دفتر حساباته، لا يرى في الخليج سوى خزائن يمكن فتحها كلما احتاج إلى دفعة دعم داخلي. لكنه ليس وحده في هذا، فالعواصم الخليجية أيضاً تعي جيداً أن الرهان على رئيس أميركي لا يُمكن أن يكون رهاناً أخلاقياً، بل هو رهان اضطراري، يمليه واقع إقليمي لا يسمح بالكثير من الترف، ولا يُبقي هامشاً واسعاً للاختيار. ترامب ليس خياراً مثالياً، لكنه في نظر هذه الأنظمة أفضل من فراغ استراتيجي طويل قد تُملأ هوامشه بقوى إقليمية أقل وداً وأكثر كلفة.
المفارقة أن هذه “الصفقات الكبرى” لا تُعلن لمجرد تحسين العلاقات، بل تُسوق أيضاً لتبرير مسارات سياسية تُعد إشكالية، على الأقل في السياقين العربي والإسلامي، من بينها التسريع في عملية التطبيع مع إسرائيل، تحت ذريعة بناء تحالف أمني إقليمي في وجه “الخطر الإيراني”. ومن هنا فإن المال المدفوع لا يُنفق فقط على صفقات التسليح، بل أيضاً على شراء مواقع سياسية جديدة داخل الإقليم، يُراد لها أن تعيد رسم خارطة التحالفات بما يتناسب مع الأولويات الأميركية الجديدة، ومع قلق الأنظمة من اضطراب الداخل، أكثر من خشيتها من تهديد الخارج.
النتيجة، في المحصلة، لا تُقاس بحجم الأرقام المعلنة، بل بمدى التغيير الفعلي الذي تُحدثه هذه التفاهمات في واقع الشعوب المعنية بها. ومع غياب العقود الملزمة، وضبابية الجداول الزمنية، وتكرار تجارب سابقة لم تُفضِ إلى نتائج حقيقية، فإن ما يُطرح من تريليونات يبدو أقرب إلى وهمٍ مكررٍ، يُعاد تسويقه كلما دعت الحاجة، بينما يبقى المواطن، في ضفتي المحيط، متفرجاً على مشهد لا يملك فيه سوى أن يدفع الثمن، مالياً أو سياسياً والأهم أخلاقياً.
ربما لا تُدفع كل تلك الأموال، وربما لا يُنفّذ معظم ما أُعلن عنه، لكن الرسائل وصلت، والأدوار أُعيد توزيعها: ترامب يحصد المجد في عيون قاعدته الشعبية، والأنظمة الخليجية تظفر بحماية واشنطن، ولو إلى حين. أما الشعوب، فيُطلب منها أن تنتظر بصمت… حتى العرض التالي من المسرحية ذاتها.
18 أيار 2025