بوتان زيباري
كأننا أمام لوحةٍ سوريالية، يتماوج فيها الظل مع الضوء، ويلتحم فيها اللهو مع الدهاء، حيث الرياضةُ تُستعارُ قناعًا، والابتسامةُ تُستثمرُ خطابًا. ما بين قميصٍ رياضيٍ فضفاض، وبدلةٍ دبلوماسيةٍ مشدودة الأزرار، يطلّ علينا رجلان، لا ليمارسا الرياضة، بل ليختبرا مرونة العقل الجمعي، ومدى قابلية الشعوب لتصديق المراوغة باسم البراءة.
أيُّ عصرٍ هذا الذي يصير فيه لعبُ الكرة خطابًا رسميًا؟ وأيُّ لغةٍ تلك التي يترجم فيها العَرَق إلى مصطلحٍ سياسي؟ لقد تجاوزنا مرحلة الرموز، لنغرق في زمن “اللا-رمزية”، حيث تصبح الصورة بلا شيفرة، والرسالة بلا نية، لكنها مع ذلك… تحرّك المياه الساكنة، وتستفزّ الرؤوس الراكدة.
لم يكن الفيديو الذي جمع أحمد الشرع ووزيره في لحظة رياضية سوى رقصةٍ قصيرة على مسرحٍ كبير. ظنّ البعض أنه لا يعني شيئًا، لكنه يعني كل شيء. ففي السياسة، العدم أحيانًا هو أكثر حضورًا من الوجود، والسكون أكثر ضجيجًا من العاصفة. من خلف ابتسامة الوزير، ومن بين أهداب النظرة اللاهية، تختبئ نصيحة عثمانية الطراز، مدفوعة بثمنٍ خليجي، وموقعة بحبرٍ إخواني، لتقول لفرنسا: “استقبلوه، فالرجل لا يحمل بندقية… بل كرةً مطاطية.”
كأن المشهد يقول: نحن لا نخيف، بل نلعب. لا نحكم، بل نلهو. لكنه لهوٌ ملغوم، ينقل الرسالة لا بالكلمة، بل بالإيماءة، لا بالخطاب، بل بالمشهدية التي تعرف كيف تخاطب خيال السياسي الغربي، وتطمئن قلقه بالركبة المرتفعة واليد الممتدة نحو السلة، لا نحو البندقية.
أما في السويداء، فالقصة تأخذ منحىً آخر. هنا لا كرة، بل كرامة. لا فيديو، بل وقائع. رجالٌ من جبلٍ عريق، قرروا ألا يكونوا طرفًا في مهزلةٍ تكتبها عواصم الغرب والشرق، بل صانعي قدرٍ محليّ، يكتبونه بالدم إن لزم الأمر، وبالحكمة إن أُتيح. وحين تهافتت الأبواق تتهمهم بالاستقواء، لم يردّوا بالبيانات، بل بالصمود. ومن فلسطين، هبّ الصوت الدرزي لا خيانة، بل عروبة أخرى، تُذكّرنا أن الهوية لا تنحصر بخط حدود، بل بخيط دم مشترك.
هنا، لا عيب في التضامن، ما دام لا يُترجم إلى تبعية. ولا ملامة في التلاقي، ما دام لا يُفضي إلى انبطاح. والمفارقة أن من كانوا بالأمس يُداوَون في مشافي تل أبيب، يرفعون اليوم رايات التكفير على من طلب التضامن، لا الدعم. فبأي منطق يُحرّم التضامن مع أبناء الطائفة، ويُحلّ العلاج في أحضان العدو؟ بأي مكيالٍ تُقاس الوطنية حين يكون معيارها هو مصلحة التنظيم لا كرامة الوطن؟
الفيدرالية؟ إنها ليست بدعة، بل مخرج. ليست مؤامرة، بل بنية عقلانية لعصرٍ لم يعد يحتمل الاستبداد المقنّع بالمركزية. من يُعارضها اليوم، يفعل ذلك لا لأن فيها شرًا، بل لأن فيها اقتسامًا للنفوذ، وانكشافًا للهيمنة. أما إسرائيل، فهي لا تدفع بهذا الاتجاه حبًا بالدروز، بل لأن كل تفتت في سوريا يُقرّبها من غايتها الكبرى: جارٌ مفكك، يُدار من أطرافه، لا من قلبه.
والذباب الإلكتروني الذي يتراقص على حبال الوطنية المزعومة، ليس سوى جيش بلا عقيدة، يسهل اختراقه وتوجيهه. مرةً يهاجم باسم الدين، وأخرى باسم الدولة، وثالثة باسم الأخلاق التي لا يعرفها. هذا الجيل الرقمي لا يعكس روح الأمة، بل صدى من يدفع أكثر. وما دامت الدولة غائبة عن خطابها، سيتكلم عنها غيرها، وسيُكتب اسمها بأيدٍ لا تعرف عنها شيئًا سوى ما يُمنح لها من ملفات.
أما باريس، فإنها تستعدّ لعرضٍ جديد، حيث لا يُباع النفط، بل الوعد. وحيث لا تُوقّع اتفاقيات، بل تُرسم احتمالات. الشرع يدخل المدينة العتيقة لا ليحمل خارطة، بل ليبيع المستقبل بالتقسيط. وماكرون، الحالم باستعادة دورٍ فرنسي في الشرق، قد يجد في هذا الضيف فرصةً أو فخًا… وربما الاثنين معًا.
نحن في لحظةٍ تتداخل فيها الجغرافيا بالتكتيك، وتتقاطع فيها الخيانة بالمصلحة، وتتماهى فيها البراءة بالتضليل. ومن السلة الرياضية إلى سلة المصالح، تسير الأمور على حبالٍ مشدودة. والسؤال يبقى:
هل ستسقط الكرة في الشبكة، أم في هوةٍ لا قعر لها؟
السويد
08.05.2025