تأملٌ في متاهات الهويّة وسراديب السلطة

بوتان زيباري

 

يا سوريا، يا رعشة التاريخ حين يختلج على شَفَة المصير، ويا لُغزَ الهوية حين تُذبح على مذبح الشرعية، ما بين سراديب القهر وأعمدة الطموح المتداعية. أنتي ليستِ وطناً فقط، بل أسطورةٌ تمشي على أطرافِ الجراح، تهمس للحاضر بلغةٍ من دمٍ، وتُنادي المستقبل بنداءٍ مختنقٍ بين الركام.

أيُّ قدرٍ هذا الذي يجعل من أرض العقيق محرابًا للدم، ومن سماء الشام منبرًا للخُطَب الباردة؟ السلطة عندكِ كعطرٍ زائل، تُمسكه الأصابعُ ولا تقبضه الكفوف، والمناصب تُمنَح كجوائز ترضيةٍ للمتنازعين، لا كأمانةٍ يُصان بها الوطن. أما الهوية، فقد غدت ثوبًا مرقّعًا بالخُطب والبيانات، يُلبَس على عجلٍ في صالات السياسة، ويُخلع على قارعة الشعوب.

ليس غريباً أن تصبح السيادة قلاعاً لفرسان الأمس، الذين أمسوا يجيدون فن الإدارة كما كانوا يجيدون فن القنص. وهل يدهشكِ أن العدالة تُكتب اليوم بمداد الفتوى لا بحبر الدستور؟ ذاك أن القلم قد استحال سيفاً، والمحكمة صارت محراباً، وميزان الحقوق رُجِّح بكفِّ الطائفة لا بكفِّ الإنصاف.

وأما الأقليات، فتبدو كنجومٍ معلّقة على سقفٍ متهالك: جميلة في نظر الرائي، لكنها بعيدة، عاجزة، لا تُدفئ ولا تهتدي بها القوافل. تمثيلهم رمزيٌ كالأقنعة، وحضورهم زينةٌ لمرآة التعدد، لا مرآةً للعدالة. الكورد يُكتبون بالحبر الشاحب في دفاتر السلطة، لكن دماءهم ما زالت تصوغ البيان الحقيقي على تراب الشمال. والمسيحيون، صمتهم لم يعد ذهباً، بل صار صدىً لوجعٍ لم يعد يجد من يفهم لغته.

والغرب؟ لا تُعوّلي كثيراً على شموعٍ توقدها عواصف المصالح. فاللاعبون الدوليون يطأطئون رؤوسهم في ممرات الشطرنج، يحركون الأحجار لا لأجلك، بل ليحجزوا لأنفسهم موطئ قدمٍ في خرائط ما بعد الحرب. أما الجوار، فقد أغلق نوافذه، فلا صوت الدم يُقلقه، ولا صدى الخراب يُفزعه. ما دام الساتر الحدودي قائماً، فلتكن القيامة في الجوار.

الاقتصاد؟ أيُّ اقتصادٍ وأنتِ تمشين على نصل الجوع؟ أيُّ استثمارٍ في وطنٍ يُدار بالظلّ، ويُحكم بالأشباح؟ لقد صار الفقرُ نظاماً، والخرابُ مؤسسةً، والانقسامُ ديناً يتلوه كل فريق على طريقته. والناس جُزُرٌ من الحنين، تتبادل النداءات من خلف الضباب.

الخرائط تُعاد رسمها دون استئذان، والفيدراليةُ الزاحفة ليست وعداً بالديمقراطية، بل إنذارٌ بقدوم السكين إلى جسد الوطن. ما يُدار بالبنادق لا يُسمى استقلالاً، وما يُكتب بلغة العشيرة لا يُسمى دستوراً. تقسيمكِ ليس انفراجاً، بل تشظٍّ آخر على مائدةٍ مزدحمةٍ بالذئاب.

سوريا، يا زهرة الشرق المعجونة بالمطر والدم، هل أنتِ باقيةٌ كحلمٍ في ذاكرة العاشقين؟ أم صرتِ أسطورةً تُروى على أرصفة اللاجئين؟ إنّ قيامتكِ لن تكون إلا حين تُنبتي من رمادكِ شجرةً لا تعرف الطائفة، وتكتبي دستوركِ بحبرٍ لا يعرف المذهب، وتبني دولتَكِ على حجر العدالة لا على رغوة الغلبة.

فيا دمشق، يا حوران، يا قامشلو، يا معلولا، ويا طرطوس… أما آن للوجع أن يسأم من نفسه؟ أما آن للهوية أن تلبس ثوبها الحقيقي وتخرج من مرآة الخوف؟ أما آن لهذا الوطن أن يصرخ: “كفى!؟”

السويد

08.04.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود   لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت…

إبراهيم محمود   بداية، أشكر باحثنا الكردي الدكتور محمود عباس، في تعليقه الشفاف والمتبصر” في مقاله ( عن حلقة إبراهيم محمود، حوار مهم يستحق المتابعة ” 11 نيسان 2025 “. موقع ولاتي مه، وفي نهاية المقال، رابط للحوار المتلفز)، على حواري مع كاتبنا الكردي جان دوست، على قناة ” شمس ” الكردية، باللغة العربية، في هولير، ومع الشكر هذا، أعتذر…

المحامي عبدالرحمن نجار   إن المؤتمر المزمع عقده في ١٨ نيسان في الجزيرة هو مؤتمر الأحزاب التي معظم قياداتها كانت تتهرب من ثوابت حق شعبنا الكوردي وفق القانون الدولي. وكانت برامجها دونية لاترقى إلى مصاف ومرتبة شعبنا الكوردي كشعب أصلي يعيش على أرضه التاريخية، وتحكم حقوقه القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتتجلى في حق تقرير المصير!. وحيث أن…

قهرمان مرعان آغا يحصل لغط كثير و تباين واضح ، مقصود أو جهل بإطلاق المصطلحات القانونية والسياسية، فيما يتعلق بالشعب الكوردي و حقوقه القومية و وطنه كوردستان ، تحديداً في كوردستان الغربية/ سوريا . هناك حقيقة جغرافية طبيعية و بشرية و حدود سياسية بأمر واقع في كوردستان ، الوطن المُجزء و المُقسَّم بين الدول الأربع ، تركيا ، ايران ،…