د. ولات محمد
عندما قامت سلطات الجمهورية العربية المتحدة في الإقليم الشمالي (سوريا) عام 1960 باعتقال قيادات وكوادر الحزب الديمقراطي الكوردستاني (تأسس عام 1957 كأول حزب كوردي في سوريا بالتزامن مع صعود التيار القومي العربي آنذاك) قامت بمحاكمتهم بتهمة “السعي لاقتطاع أجزاء من سوريا وإقامة دولة كوردية”. وعلى الرغم من أن أي تنظيم كوردي سوري لم يرفع منذ ذلك التاريخ شعار الاستقلال أو الانفصال فإن التهمة ذاتها ظلت ملتصقة بالكوردي وصارت علامته الفارقة التي اتخذتها السلطات المتعاقبة ذريعة لمعاقبته فردياً وجماعياً على أي تحرك أو نشاط حتى وإن كان مجرد طباعة أو توزيع روزنامة كوردية سنوية تُعلق على أحد جدران المنزل، ما جعله حتى اليوم يدفع ثمن “جريمة” لم يرتكبها قط، بل اختلقها النظام وألصقها به ليسّهل على نفسه اصطياده في كل حين.
ما ساعد على ترسيخ صورة/ مفهوم “الكوردي الانفصالي” لدى كل من السلطة والمجتمع السوري على حد سواء عاملان أساسيان: الأول ترويج السلطة لتلك الكذبة داخل المجتمع السوري بشكل ممنهج، والثاني غياب/ تغييب الإعلام الكوردي الذي كان عليه أن يقوم بتكذيب تلك التهمة التي أخرجتها السلطة من نطاقها الفردي إلى الجماعي لتشمل كل الكورد السوريين، كما حدث مثلاً عندما تظاهروا في دمشق عام 1986 احتجاجاً على منعهم من الاحتفال بعيد النوروز، وكذلك عندما تظاهروا غضباً واحتجاجاً على إطلاق رجال الأمن في قامشلي الرصاص الحي على الجمهور عام 2004 في ما عُرفت بأحداث الملعب. كل ذلك بغية شيطنة الكوردي وتشويه صورته عند السوريين كي تسهل معاقبته على أية ردة فعل تظهر منه.
ما حدث في سوريا عام 2011 وما تلاه غيّر المشهد في سوريا برمتها؛ فقد اضطر النظام إلى سحب قواته من المناطق ذات الغالبية الكوردية صيف 2012 (كما سحبها من معظم المناطق البعيدة عن العاصمة نحو الداخل)، ما أفسح المجال أمام حزب الاتحاد الديمقراطي (الكوردي) بتولي شؤون تلك المناطق إدارياً وأمنياً بعد أن أنشأ قوات تحت مسمى “وحدات حماية الشعب”. وعندما شن تنظيم داعش هجوماً في 2014 على مدينة كوباني، ولم تستطع تلك الوحدات صد ذلك الهجوم بمفردها، قامت قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب (بقيادة أمريكا) وقوة من بيشمركة إقليم كوردستان بدعم تلك الوحدات حتى تمكنت من دحر التنظيم واستعادة كامل منطقة كوباني. وفي أواخر عام 2015 صار من جزء من هذه الوحدات (الكوردية) مع فصائل أخرى عربية وسريانية وتركمانية قوام قوة جديدة سميت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتكون حليفاً لقوات التحالف الدولي لمحاربة داعش على الأرض، تلك المهمة التي توجت في آذار/ مارس 2019 بهزيمة ذلك التنظيم الإرهابي في آخر معاركه في الباغوز بدير الزور.
الغاية من هذا السرد السريع لأحداث يعرفها معظم الناس هي القول إنه على الرغم من أن عمل هذه القوات (قسد) لم يتجاوز مكافحة الإرهاب بإشراف أمريكي، وعلى الرغم من أن نسبة غير الكورد فيها قد تتجاوز النصف، فإن أطرافاً عدة ظلت تتهمها بالسعي للانفصال وإقامة “دويلة كوردية” في شمال شرق سوريا، حتى صار الكورد جميعهم مرة أخرى في دائرة الاتهام الكاذب المتواصل والمدروس.
مع بدء عملية “ردع العدوان” بتاريخ 27/11/2024 التي انتهت بسقوط النظام، ارتفعت بوضوح وتيرة هذا الاتهام مدعومة بضخ إعلامي كبير بهذا الاتجاه شاركت فيه أطراف عدة. فما حقيقة هذه التهمة؟ وما هي أطراف هذه اللعبة القذرة؟ وما دوافعها من وراء ذلك؟
الكذبة الكبرى.. الكذابون الكبار والصغار:
أطراف عدة تلاقت مصالحها بعد عام 2011 عند نقطة “شيطنة الكورد” فراحت تروج منذ ذلك الوقت لكذبة “الانفصال والدويلة الكوردية في شمال شرق سوريا بدعم أمريكي”. أما تلك الأطراف فهي:
النظام
قام النظام السوري صيف عام 2012 بسحب قواته طواعية من المناطق ذات الغالبية الكوردية كما سبق القول، لكنه راح فيما بعد (خصوصاً بعد عام 2015) يتهم حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته بالانفصالية، وذلك لسببين: الأول تحالف تلك القوات مع أمريكا (التحالف الدولي) لمحاربة داعش. أما الثاني فهو محاولة النظام إخافة تركيا بأن إضعافه سيؤدي إلى تشكل كيان كوردي “منفصل” على حدودها الجنوبية، كي يدفعها للتخلي عن فكرة إضعاف النظام ودعم المعارضة السورية.
الأتراك
استغل الأتراك دعاية النظام الكاذبة وقاموا باتهام ذلك الطرف الكوردي وقوات (قسد) باتباع أجندات انفصالية تشكل خطراً على أمنهم القومي، كي يسوغوا لأنفسهم دخول الأراضي السورية واحتلالها بحجة ملاحقة الإرهابيين والانفصاليين، وكانت النتيجة أن تركيا احتلت (من خلال تلك الدعاية الكاذبة) مدعومة بالفصائل السورية الموالية لها 10% من الأراضي السورية.
المعارضة
المعارضة السورية التي كانت تعيش في كنف الأتراك لم يكن متوقعاً أن تخرج في هذا الإطار عن الرواية التركية المتوافقة مع كذبة النظام، وذلك أيضاً لسببين: الأول أن تلك المعارضة كانت تعيش على دعم الأتراك وبحمايتهم ولم يكن لخطابها أن يخرج عن خطابهم. أما الثاني فهو أن القوة الكبرى في تلك المعارضة كانت تتمثل في جماعة الإخوان المسلمين التي لها موقف سلبي معروف من الكورد، وكانت تلك الدعاية تتوافق مع توجهاتهم من حيث المبدأ والهدف.
الروس
اتخاذ التحالف الدولي (بقيادة أمريكا) وحدات حماية الشعب (الكردية) ولاحقاً قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حليفاً لها على الأرض لمحاربة داعش في سوريا أثار حفيظة روسيا، ما دفعها للانخراط في هذا الحلف الدعائي الكاذب، إذ لم تتوقف حتى اليوم عن ترديد عبارة “دويلة كوردية في شرق الفرات بمساعدة أمريكية”. وقد زاد انخراط الروس في الترويج لهذه الكذبة تحديداً قبل احتلال عفرين 2018 وبعده، وذلك لسببين أيضاً: الأول، أن أنقرة كانت تتهم واشنطن حليفتها في الناتو بأنها “تدعم أعداءها من الانفصاليين الكورد”، فأرادت روسيا اللعب على هذه النقطة وراحت تعزف على الوتر التركي نفسه وتتهم الكورد بالانفصالية بغية إرضاء أنقرة واستمالتها وإبعادها عن واشنطن، وقد نجحت في ذلك نسبياً. أما السبب الثاني فهو سعي روسيا لإقناع أبناء المنطقة من العرب وغيرهم بأن أهداف هذه القوات “كوردية” انفصالية، وذلك كي تدفعهم لترك صفوف القوات ومحاربتها، طالما أن هدفها حسب ادعائها هو “تقسيم سوريا” وبدعم أمريكي.
وهكذا صار من مصلحة الجميع (النظام، المعارضة، تركيا وروسيا) شيطنة تلك القوات من خلال اتهامها بالانفصالية، فماذا كانت النتيجة؟!
يتبع…