أزاد خليل*
يُشكّل المسيحيون في سوريا جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني، وقد لعبوا دورًا محوريًا في تاريخ البلاد منذ اعتناق المسيحية في القرن الأول الميلادي. تعتبر سوريا واحدة من المراكز الأولى التي احتضنت المسيحية، حيث يُعتقد أن القديس بولس تحول إلى المسيحية في دمشق، ومن هنا انطلق لنشر رسالته في العالم. كما تُعد مدينة أنطاكية، الواقعة شمال سوريا، من أقدم البطريركيات المسيحية وأحد المراكز الهامة لتاريخ الكنيسة.
هذا الدور الديني تَرافق مع مساهمات سياسية وفكرية وثقافية مهمة. فالمسيحيون في سوريا، من مختلف الطوائف، أسهموا في بناء الدولة الحديثة وترسيخ مفاهيم التعايش والسلام. ومن بين الشخصيات البارزة التي لعبت دورًا تاريخيًا محوريًا نذكر فارس الخوري، السياسي البارز ورئيس الوزراء السابق، الذي جسّد بقيمه وعمله نموذجًا للقيادة الوطنية العابرة للطوائف.
مدينة معلولا: رمز الإرث المسيحي
تقع مدينة معلولا في ريف دمشق وتُعد واحدة من أبرز معاقل المسيحية في سوريا. تشتهر بكونها من الأماكن القليلة في العالم التي ما زال سكانها يتحدثون اللغة الآرامية، لغة السيد المسيح. تضم معلولا العديد من الأديرة والكنائس التاريخية مثل دير مار تقلا ودير مار سركيس، التي تعكس تاريخًا عريقًا من الروحانية والفن المعماري.
رغم كل هذا الإرث، عانت معلولا خلال الحرب السورية من هجمات الجماعات المتطرفة التي دمرت بعض المعالم التاريخية واختطفت راهبات من دير مار تقلا، ما أثار استنكارًا عالميًا. تُجسد معلولا اليوم رمزًا للتحدي والإصرار على الحفاظ على التراث المسيحي في مواجهة العنف والتطرف.
دور المسيحيين في نهضة سوريا
لعب المسيحيون دورًا كبيرًا في النهضة الثقافية والسياسية السورية خلال القرنين الماضيين. كانوا في طليعة من عملوا على تطوير التعليم والصحافة، وساهموا في تأسيس المدارس والمراكز الثقافية. يُذكر أن أول صحيفة في سوريا، وهي صحيفة “حديقة الأخبار”، أسسها رزق الله حسون، وهو مسيحي دمشقي.
في السياسة، كان المسيحيون في طليعة من دعموا الاستقلال السوري. فارس الخوري مثال بارز لهذا الالتزام الوطني؛ حيث مثّل سوريا في المحافل الدولية، وأظهر قدرة على توحيد السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
أما في المجال الأدبي، فقد أبدع الأدباء المسيحيون مثل ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، الذين كانوا جزءًا من “الرابطة القلمية”، في إثراء الفكر العربي بأعمال أدبية وفلسفية تحمل قيم التسامح والإنسانية.
التحديات الراهنة للمسيحيين في سوريا
مع اندلاع الحرب السورية في عام 2011، واجه المسيحيون تحديات وجودية غير مسبوقة. أدى تصاعد العنف وسيطرة الجماعات المتطرفة على بعض المناطق إلى تهديد وجودهم، خاصة في المدن التي كانت تحتضن مجتمعات مسيحية كبيرة مثل حمص وحلب والرقة.
تشير التقديرات إلى أن عدد المسيحيين في سوريا تراجع بشكل كبير بسبب الهجرة القسرية والاضطهاد. كما تعرضت الكنائس والأديرة للتدمير، مما ألقى بظلاله على التراث الثقافي والروحي الذي شكل جزءًا من هوية سوريا.
المبادرة اليونانية لحماية المسيحيين
في مواجهة هذه التحديات، أعلنت الحكومة اليونانية عن خطة لدعم 600 كاهن أرثوذكسي يوناني في المهجر، بهدف حماية المجتمعات المسيحية في سوريا والمنطقة الأوسع. تأتي هذه الخطوة ضمن استراتيجية لتعزيز الدور اليوناني في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث أصبحت المسيحية الأرثوذكسية مهددة بسبب التحولات الجيوسياسية والصراعات الطائفية.
وفقًا لصحيفة “بروتو ثيما” اليونانية، تتضمن المبادرة توفير رواتب وتأمينات ومعاشات تقاعدية للكهنة الذين يعملون في ظروف صعبة. هذه الخطة تهدف إلى تعزيز الحضور الأرثوذكسي، خاصة في سوريا، التي أصبحت مركزًا للصراع الديني والسياسي.
البعد الجيوسياسي للمبادرة
لا تقتصر المبادرة اليونانية على البعد الديني، بل تحمل أبعادًا جيوسياسية مهمة. فهي تأتي في وقت تحاول فيه روسيا توسيع نفوذها في إفريقيا عبر الكنيسة الروسية، ما يهدد البطريركية اليونانية في الإسكندرية. كما تهدف المبادرة إلى مواجهة التحديات الناتجة عن سقوط نظام بشار الأسد وصعود الجماعات المدعومة من تركيا، التي جعلت المسيحيين أكثر عرضة للخطر.
إضافة إلى ذلك، تعكس المبادرة رغبة اليونان في تعزيز “القوة الناعمة” عبر دعم المجتمعات الأرثوذكسية في المهجر وحماية التراث الثقافي والديني.
أهمية التواجد الكنسي في المهجر
تلعب الكنيسة الأرثوذكسية دورًا محوريًا في حياة المجتمعات اليونانية والمسيحية في المهجر. فهي ليست فقط مكانًا للعبادة، بل تُعتبر مركزًا لتعليم اللغة والثقافة اليونانية وربط المغتربين بوطنهم الأم.
في سياق الحرب السورية، أصبح دور الكنيسة أكثر أهمية في توفير الدعم الروحي والمادي للمسيحيين الذين تعرضوا للتهجير والاضطهاد. وبالتالي، فإن دعم الحكومة اليونانية للكهنة الأرثوذكس يعكس التزامًا بحماية التراث المسيحي وتعزيز الصمود في وجه التحديات.
مسؤولية عالمية نحو حماية التنوع
إن التحديات التي يواجهها المسيحيون في سوريا تتطلب استجابة عالمية. يجب أن تتكاتف الجهود الدولية لتوفير الدعم والحماية لهذه المجتمعات، وضمان بقائها في أراضيها التاريخية. فالمسيحيون في سوريا ليسوا فقط جزءًا من التراث الديني، بل هم ركن أساسي في التعددية الثقافية التي تُميز الشرق الأوسط.
تُعد المبادرة اليونانية خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها ليست كافية وحدها. يجب أن تُعزز بمبادرات دولية تُركز على إعادة إعمار المناطق المتضررة، وحماية المعالم الدينية والتاريخية، ودعم الحوار بين الأديان لتعزيز التعايش والسلام.
ختاماً إرث يستحق الحماية
وهنا ندعوا الى التكاتف والوحدة وتعقل وأهمية الخطاب الوطني والحوار بين أبناء سوريا والإعتراف بأن سوريا بلد متعدد القوميات والأعراق وبتالي لا يحق لأحد أن يلغي أحد أو يعيد كتابة التاريخ كما يريد هو إن الكورد والأشوريين والسريان والأرمن وحتى العرب جميعهم أبناء سوريا و إن المسيحيين في سوريا، بتاريخهم العريق وإسهاماتهم الحضارية، يُمثلون جزءًا لا يتجزأ من الهوية السورية. حماية هذا الإرث ليست مسؤولية المسيحيين وحدهم، بل هي مسؤولية الجميع.
المبادرة اليونانية تسلط الضوء على أهمية التضامن الدولي في حماية المجتمعات المهددة. لكنها أيضًا تذكرنا بأن السلام والتعايش هما السبيل الوحيد للحفاظ على التنوع الثقافي والديني الذي يجعل من سوريا نموذجًا فريدًا للحضارة الإنسانية.
*كاتب وباحث سياسي